الدولة المرجعية!
ما كان يميّز الدولة السعودية في العهود السالفة أن
ثوابتها الايديولوجية والسياسية واضحة، وحتى متغيّراتها
تبدو محسوبة بدقة، فلا تتبنى مواقف تنطوي على ردود فعل
غاضبة على المستوى الشعبي، ولاسيما في القضايا الكبرى،
ولا تحبّذ إحراج حلفائها في العلن، وتفضّل ابلاغ تحفظاتها،
ومواقفها الايجابية منها والسلبية بطريقة شخصية وبعيداً
عن الأضواء وبلغة تبدو مواربة. وعليه، غرست في الوعي الجمعي
صورة لدولة اكتسبت صفة رمزية وتحوّلت الى ما يمكن وصفه
بـ «الدولة المرجعية».
منشأ مرجعية المملكة السعودية يعود أولاً أنها في الوعي
الشعبي الاسلامي العام أنها تحكم باسم الله، وهذا ما كان
يردّده الأمراء ورجال الوهابية على الدوام بأنها البلد
الوحيد على وجه الأرض الذي يطبق أحكام الشريعة. وهناك
ما هو أكثر من مجرد «تطبيق الشريعة»، في تحويلها الى الدولة
المرجعية، فقد أضفى وجود الحرمين الشريفين على وجه الخصوص،
والجزيرة العربية بوجه العموم ضمن المجال الجيوسياسي السعودي
رمزية تاريخية ودينية وثقافية فارقة، أضاف اليها الثراء
المالي الفاحش مصدراً لتعميم النموذج السعودي وعامل قوة
جعل من مرجعيتها أمراً مفروغاً منه.
بطبيعة الحال، فإن العوامل تلك لم تكن كافية بمفردها
لناحية نسج سردية سعودية خارقة وقادرة على أن تتحوّل الى
مرجعية خاصة بجمهرة واسعة من العرب والمسلمين في أرجاء
كثيرة من العالم.
الحال لم يعد كذلك بعد الآن، فالجيل المسؤول عن إنتاج
«مرجعية» الدولة السعودية قد توارى، سواء كان من الأمراء
أو رجال الدين أو حتى الوزراء، فالنخبة السياسية المؤسّسة
أو المسيّرة لمركب الدولة فاقدة لأي من خصائص الكاريزمية.
التغييرات التي أحدثها الملك سلمان منذ توليّه السلطة
في 23 يناير 2015، ليست مجرد تغيير في شكل السلطة أو حتى
في البنية المؤسسية لها، ولكن هو في حقيقة الأمر أجرى
عملية هدم لمرجعية الدولة، من خلال تحريرها من كل السمات
الايديولوجية والسياسية والإدارية المسؤولة عن إنتاج المرجعية
واستمرارها..
لناحية الوهابية بوصفها الايديولوجية المشرعنة للدولة
السعودية، قد لا تبدو لأكثر من مليار مسلم من مكوّنات
مرجعية الدولة السعودية، ولا هويتها الدينية كما يراها
المسلمون في الخارج، بل هي مرجعية ناتجة عن حاصل جمع المتخيّل
والشائع بكون السعودية دولة إسلامية تحتضن الحرمين الشريفين،
وتتبنى هموم المسلمين في كل العالم.
أمّا وقد تخلص النظام السعودي من خطابه الدعائي الديني،
ملحقاً بتقليص الموازنات الخاصة بالتعبئة الدعوية وتمويل
المدارس الدينية، زائداً تعميم خطاب ليس متناقضاً مع الوهابية
فحسب بل في جوهره غير ديني، وان اكتسب صفة «المعتدل» و»المتسامح»،
وهذا ما ظهر بصورة جليّة في رفع الحظر عن قيادة المرأة
للسيارة، حيث تجاوز حدود السماح للمرأة بمزاولة حقها المحجوب
الى كسر تابوات أخلاقية، فإن ذلك يؤشر الى أن ثمة انفتاحاً
اجتماعياً منفلتاً يرعاه صانع القرار.
في السياسة كما في الدين وفي الانفتاح الاجتماعي، تفقد
المملكة السعودية صفة «المرجعية»، بعد أن انقشع سحرها
الإيديولوجي، وبات ينظر اليها بصفتها دولة كباقي الدول،
لا ثوابت دينية تحول دون تبنيها سياسة انفتاح اجتماعي
واسع النطاق، في وقت تختفي المظاهر الدينية بصورة تدريجية
(المطاوعة، البرامج الدينية في الاعلام الرسمي، اغلاق
المحلات وقت الصلاة، ووقف العمل بفتاوى خاصة لما يعتقد
بأنها ضوابط أخلاقية للمجتمع مثل اهداء الورد للمريض،
أو تبادل الهدايا في عيد الحب..الخ).
في السياسة لا يبدو الحال مختلفاً بل قد يكون هو أحد
تظهيرات التحوّل العقدي، ولا سيما ما يجري تداوله حالياً
بخصوص صفقة القرن التي قام مستشار البيت الأبيض جاريد
كوشنر برفقة المبعوث الخاص لترامب جيسون غرينبلات بالترويج
لها في زيارة للمنطقة حيث اجتمعا مع محمد بن سلمان في
الاردن بحضور نتنياهو ويأتي اللقاء استكمالاً للتفاهمات
التي تمّت خلال جولة ابن سلمان في الولايات المتحدة في
مارس الماضي.
لناحية الشعوب العربية والاسلامية، فإن ابن سلمان والسعودية
بصورة عامة تحوّلتا الى أداة وظيفية لمشروعات الولايات
المتحدة والكيان الاسرائيلي. بكلمات أخرى، أصبحت السعودية
في عهد ابن سلمان رهاناً أميركياً اسرائيلياً، وهذا لا
يخفيه ترامب الذي تحدّث أكثر من مرة عن علاقة من نوع خاص،
وأفصح عنه بكلمات واضحة مايكل وولف في كتابه (النار والغضب)
حين بدا ابن سلمان وكأنه مروّج دعائي، يحاول إقناع الزبون
بجدوى شراء منتجه.
ينقل وولف عن صديق كوشنر: «عندما عرض محمد بن سلمان
نفسه على جاريد كوشنر باعتباره رجله في المملكة السعودية،
كان ذلك أشبه بمقابلة شخص لطيف في أول يوم تطأ فيه قدماه
المدرسة الداخلية». يعلّق وولف: «وبمجرد أن تعهّد محمد
بن سلمان لفريق ترامب بأنه سوف يوصل إليهم بعض الأخبار
الجيدة بجد، دُعي لزيارة البيت الأبيض، وكان ذلك عندما
انطلق ترامب ومحمد بن سلمان بمنتهى الأبهة”.
لم يكن ترمب مقتنعاً في البداية بابن سلمان حليفاً
له، بل كانت رؤيته أن السعودية ودول حليفة لواشنطن يجب
أن تدفع ثمن الحماية فحسب وبلا مقابل، ولكن العرض الذي
تقدّم به ابن سلمان لترامب كان مغرياً، أدى في نهاية المطاف
الى «احتضان ترامب له كجزء من لعبة السلطة التي كان يمارسها
داخل المملكة» بحسب وولف، وكانت تلك إحدى الخدع التي لجأ
اليها ترمب لأهداف شخصية خالصة، ولذلك كان البيت الأبيض
وترامب شخصياً ينفي أي علاقة خاصة بابن سلمان، الا أن
الترتيبات اللاحقة لم تبق سراً في العلاقة، وخصوصاً بعد
أن حلّ ترمب ضيفاً جشعاً على الرياض في 20 مايو 2017 وحصد
مئات المليارات، وكانت تلك الزيارة الأولى الخارجية لترامب
“وكانت مكسباً له” حسب وولف.
ما يجدر النظر اليه هو أن ابن سلمان قرر أن يطوّر في
وظيفية الدولة السعودية الى القدر الذي أطاح بمرجعيتها
السياسية، بحيث بات يتصرّف اليوم ليس بصفته شريكاً أو
حليفاً بل عميلاً وهذا معنى أن تفقد الدولة السعودية نعت
المرجعية التي كانت عليها في عقود سالفة.
|