العائلةالمالكة والسباحة عكس تيار الاصلاح
التفكيك الهادىء للسلطة
يمكن القول ابتداءً أن لكل دولة تجربتها الخاصة في
التطور والاصلاح والنابعة من ظروفها الخاصة الداخلية بالدرجة
الأولى الى جانب تأثير الاحوال الخارجية عليها.. والسعودية
ليست بدعاً من الدول، إذ لا يمكنها استيراد نموذج اصلاحي
من الخارج، وفي الوقت نفسه لا يمكن أن تنأى بنفسها عن
التغييرات الجارية خارج الحدود بحجة (إن تقاليدنا الدينية
لا تسمح بذلك) أو أن الاوضاع الداخلية ليست ناضحة بدرجة
كافية بما يجعل من وتيرة التغيير بطيئة للغاية الى درجة
تقترب من التوقف، فيتم تحت هذه الذرائع تجاهل التطورات
الداخلية أو إساءة تفسيرها أو نفي الحاجة الى مواكبة التحولات
الخارجية والتي تتطلب درجة من التفاعل من أجل السير المتوازن
والموازي مع حركة العالم الخارجي.. فهذه المواكبة ليست
بالضرورة مصوّبة للخارج بل هي أيضاً حاجة داخلية، فأبناء
المجتمع لا يعيشون في فراغ أو عزلة حضارية كيما يكون لدعوى
(الخصوصية) مصداقية في هذا الزمن الاتصالي الصفري.
لاشك أن البلاد تمرّ بمرحلة غليان تنذر بانفجارات إجتماعية
نتيجة الجمود المتراكم لمشكلات عميقة الجذور اقتصادية
واجتماعية وسياسية وامنية. ومن الناحية التاريخية، كانت
عمليات التغيير في الجهاز الاداري للدولة تتم بعد سلسلة
تجاذبات داخلية وزوابع سياسية، بما في ذلك التغييرات التي
طالت رأس السلطة ووراثة العرش، ولم تنبع من إحساس داخلي
لدى القيادة السياسية في الدولة بالحاجة الى الاصلاح،
ولذلك فإن الزعم المتكرر بأن الدولة لم تتوقف عن اصلاح
وتطوير أجهزتها هو ليس أكثر من محاولة نفي الرضوخ للضغط
الداخلي، الذي يمكن حمله على ضعف الدولة.
هناك قناعة لدى كثير من دعاة الاصلاح في المملكة وفي
ضوء تجارب مباشرة ومعاشة بأن النظام السياسي في السعودية
يندرج في قائمة الأنظمة المناهضة للتغيير ليس بوحي من
نزعته المحافظة فحسب، بل لأن فلسفة الحكم ومكوّناته الايديولوجية
مبنية على أساس رفض التغيير في بنيته كونه يفضي الى نقل
الحق التاريخي المزعوم، أو الارث العائلي الى خارج دائرة
المجموعة المستحقة. ولذلك، فإن العناد الصلب في نبذ المساومة
السياسية بين العائلة المالكة ودعاة الاصلاح يمثل شكلاً
من أشكال المقاومة الطبيعية عن الحق المزعوم. وقد يفسّر
ذلك ميل العائلة المالكة الى استعمال وسائل القهر في مواجهة
حركات الاحتجاج الداخلية سواء كانت سلمية أم عنفية، لأن
ذلك يمنحها خيار الحسم السريع، وإستعادة الهيبة المرشحة
للتصدع على الدوام، الى جانب كونها نابذة لمبدأ المساومة
بما يتطلب بالضرورة تنازلاً عن جزء من السلطة والثروة
كإحدى ممليات التسويات الداخلية للصراع بين المجتمع والدولة.
لقد بدا واضحاً بشدة هذه المرة بأن حركة الشارع، دع
عنك القوى السياسية والاجتماعية الفاعلة فيه، سبقت الحكومة
في موضوع الاصلاح السياسي، وليس في ذلك جديد، فقد كانت
عرائض القوى السياسية الوطنية والدينية عام 1991 متقدمة
بكثير على ما قررته العائلة المالكة من اصلاحات رمزية،
تماما كما هي مطالب التيار الاصلاحي الوطني الآن متقدمة
على المدعيات الاصلاحية لدى الحكومة.. ولا يجب إعتبار
ذلك مبرراً للمناكفة مع الحكومة، لأن معظم التجارب الاصلاحية
في العالم تثبت تفوّق توّقعات الشعوب على الحكومات في
مجال الاصلاح، وفي الوقت نفسه لا مكان لتصريح وزير الخارجية
سعود الفيصل قبل عدة أشهر لصحيفة اميركية بأن الحكومة
متقدمة في رؤيتها الاصلاحية على الناس، ما لم يكن يشير
الى طبقة محددة، اي علماء الدين.
السؤال هناك: كيف تقيّم الحكومة حركة الشارع ومطالبه
والظروف العامة السياسية والفكرية والاقتصادية التي تشهدها
البلاد؟
ثمة مؤشرات ترتقي الى مستوى الادلة احياناً على إنعدام
الابحاث والدراسات والأرقام التي تعتمدها القيادة السياسية
في البلاد والتي توجّه سياساتها وخططها وبرامجها الاصلاحية،
بدليل أن ليس هناك ما يعكس وحتى بالقدر القليل المتوفر
منها أداء الدولة بإتجاه يوحي بذلك.
ويمكن القول بأن القيادة السياسية والعصبة الحاكمة
بدرجة أساسية تميل الى الاعتقاد بأن الافكار الاصلاحية
التي تخترق الاجيال الجديدة وهكذا القوى السياسية الحديثة
سواء الدينية أو الليبرالية هي أفكار انفعالية أسيرة لحظتها
التاريخية وهي بالتالي موجة مصيرها الانحسار شأن موجات
سابقة، قومية ويسارية، وبالتالي فالمطلوب من وجهة نظر
القيادة السياسية هو ضبط النفس وإحتواء الضغوط ريثما تنحسر
الموجة.
هناك رأي آخر أيضاً بأن الصعوبات الاقتصادية وتداعياتها
الاجتماعية والسياسية لم تبلغ مرحلة الخطر، وأن الدولة
لا تزال تمتلك إمكانات مادية قادرة على امتصاص التشنج
الداخلي أو جزءا منه. وبالرغم من التحذيرات التي تطلقها
الاحصائيات الخاصة بالدين العام الداخلي الذي تجاوز 170
مليار دولار، والبطالة المتزايدة التي وصلت معدلات مخيفة
والتي تتراوح بين 25 ـ 35 بالمئة، فإن الدولة نجحت بفعل
ارتفاع أسعار النفط خلال العامين الاخيرين من ضخ كميات
كبيرة من المال في السوق من أجل تحريك الركود الاقتصادي،
وهذا ما انعكس ايضاً على سوق الاسهم الذي تشير الارتفاعات
فيه الى تدخل واضح من قبل الدولة لأغراض واضحة. يضاف الى
ذلك، قناعة العائلة المالكة بأن المملكة مازالت تمتلك
فرصاً تنموية عديدة تمنحها القدرة على تسوية جزء هام من
أزمتها الاقتصادية الداخلية وتوفير نسبة مقبولة من الوظائف
في القطاعين العام والخاص.
علاوة على ذلك كله، فإن ثمة اعتداداً مبالغاً فيه لدى
الأجهزة الأمنية في الدولة وعلى رأسها وزير الداخلية بأنها
قادرة وبكفاءة عالية على اخماد أي تحرك جماهيري عفوي أو
منظّم ومعالجة الظواهر الانشقاقية عبر استعمال القوة وسلاح
الأمن. وتستعيد هذه الاجهزة تجاربها السابقة في القضاء
على الحركات الشعبية الاعتراضية التي ظهرت في العقود الممتدة
من الستينيات وحتى الآن.. ولعل لجوء هذه الاجهزة الى إستعمال
ذات الوسائل مع كافة أشكال المقاومة الاجتماعية السلمية
منها والعنفية على السواء يعكس الى حد كبير الشعور المفروط
بأن السلاح وحده الرد الذي تحمله الدولة لرعاياها، وهذا
دون شك يجلّي شكلا من أشكال الخصومة وانعدام الثقة بين
الدولة والمجتمع. إذ حين تفقد القيادة السياسية أدوات
التفاهم والحوار الداخلي مع الحركات الاجتماعية والمطالب
التي ترفعها تكون فرص المواجهة المسلّحة ممكنة بين الدولة
وبعض فئات المجتمع، وهذه المواجهة مرشحة للاتساع دائماً
وقد تصل في مرحلة من المراحل الى ثورة شعبية حين تفقد
الحكومة قدرتها على تقديم علاجات استثنائية عاجلة.
تلزم الاشارة هنا الى أن ثمة تقليلاً من شأن القوة
الكامنة التي يبطنها الشارع من قبل الحكومة، وبالتالي
فإن الأخيرة تجهل أو بالأحرى لاتكترث بما يمكن أن يصدر
عن الشارع من أفعال احتجاجية أو ما يمكن أن ينشأ عنه من
ظواهر انشقاقية عنفية كانت ام سلمية وما هي الاحجام المتوقعة
لهذه الظواهر بمعنى عدد الافراد الذي يندمجون فيها وينضوون
تحت لوائها.. ولعل النزوع العميق والموجّه لدى العائلة
المالكة بربط المتغيرات الداخلية بمصادر خارجية يجعل تقليل
شأن الجمهور في الداخل واضحاً، إذ ليس الاهتمام الحكومي
المصبوب على إعتبار المخاطر المحلية ذات امتداد خارجي
وحده الدافع نحو تبني هذا الرأي، ولكن ثمة اعتقاد صلب
لدى العائلة المالكة بأن المتربصين بها في الخارج هم الذين
يقومون بتحريك فئات داخل المجتمع من أجل تهديم بنيان الدولة
وتحطيم أو سرقة المنجز الذي حققه آل سعود.. فهذه العائلة
ترى بأن ليس في الداخل ما يمكن أن يشكل مصدر اعتراض على
سياساتها (وهذا جزء من الاحساس المتضخم بالجدارة وكفاءة
الأداء) ما لم يكن هناك من يحمل في نفسه (حسداً) أو (دسيسة)
على هذا النظام. ولهذا السبب، يسارع الأمراء الكبار الى
ربط أي حدث داخلي بجهات خارجية، يزيد في ذلك الشعور المتزايد
بأن ثمة مؤامرة تحاك ضد مركز السلطة..
واذا نظرنا الى تاريخ الحركات السياسية الاحتجاجية
في هذا البلد، نجد بأنها توصم من قبل العائلة المالكة
بالعمالة والذيلية للخارج، فقد وصمت الحركات القومية في
الستينيات بالعمالة لمصر عبد الناصر، ووصمت الحركات اليسارية
بالعمالة الى موسكو عبر بغداد ودمشق، ووصمت حركة الشيعة
في المنطقة الشرقية بالعمالة لطهران، وأخيراً وصم التيار
الاصلاحي بالعمالة لأميركا، ومما يثير السخرية إتهام الجماعات
الجهادية السلفية في الداخل بالعمالة الايديولوجية للاخوان
المسلمين في مصر.
ولعل هذا كله يلمح الى حقيقة أخرى، أن المواطن في تفكير
العائلة المالكة قاصر سياسياً وأن ثمة وصاية خارجية تفرض
عليه لتوغر في صدره وتزرع فيه طموحات لم يكن يحملها بصورة
تلقائية أو من وحي وعيه الذاتي.. فالمواطنون من وجهة نظر
العائلة المالكة غير ناضجين سياسياً بل ويجب أن يبقوا
كذلك، ولذلك كان السعي دائماً يتجه الى محاصرة مصادر التوجيه
الثقافي والسياسي، وما الحصار الاعلامي الذي ظلت الدولة
تفرضه على المواطن في الداخل لسنوات عديدة الا محاولة
لادامة الجهل الفكري والقصور السياسي.
وغني عن القول بأن الهدف من ذلك الحصار هو إحباط الميول
الاصلاحية في الداخل، فغياب تقاليد وتراث سياسي يحرم الشعب
من الانخراط الواعي في العملية السياسية المحلية، ويؤدي
في الغالب الى تأخير الحاجة الى تطوير أجهزة الدولة. لاشك
أن ظروفاً كهذه تعيق العملية الاصلاحية، تماماً كما أن
عدم النضح السياسي يقود الى أعمال سياسية غير ناضجة، وسيبقى
الوضع كما هو عليه طالما بقي منسوب النضج السياسي متدنٍ
بما يمنع من نشوء حركة سياسية واعية في وسائلها، وأهدافها
ورؤيتها نحو المستقبل.
إن ما جرى خلال العقدين الاخيرين هو وقوع انفجارهائل
في الوعي السياسي لدى مواطني هذا البلد، بتأثير من انفجار
اعلامي كوني، حيث تنوعت مصادر التوجيه السياسي والثقافي
وتم تكسير الاحتكار الاعلامي المحلي من خلال ثورة الاتصالات
الفضائية والتي بلغت ذروتها بدخول الانترنت كمصدر مركزي
في توجيه الوعي العام، ولا شك أن تغييراً دراماتيكياً
حصل في الادارك السياسي لدى المواطنين، الذين باتوا الآن
أكثر من أي وقت مضى أقدر على التعبيرعن تطلعاتهم السياسية
وعن انتقاداتهم وسخطهم.. وقد كان لوسائل الاتصال الحديثة
دور أساسي في الاحداث التي جرت على الساحة الداخلية، فقد
حرّكت المعارضة في الخارج مظاهرة احتجاجية في قلب العاصمة
الرياض عن طريق محطة اذاعية خارجية، كما تمكّن التيار
الاصلاحي الوطني من حشد عدد كبير من المتعاطفين والمؤيدين
عن طريق منتديات خاصة على شبكة الانترنت، ونجح دعاة الاصلاح
في التواصل مع العالم الخارجي وإبلاغ رسالتهم الاصلاحية
عن طريق محطات تلفزة فضائية.. وبهذا أمكن القول بأن الدولة
رغم تدابيرها الصارمة ازاء هذه الظواهر وفرضها اجراءات
قمعية ضد عدد من دعاة الاصلاح بظهورهم على محطات فضائية
خارجية، وهكذا سعيها الى حجب أو اغلاق مواقع على شبكة
الانترنت تمثل إحدى الساحات التي يلتقي عليها المواطنون
للتعبير عن وجهات نظرهم في الشأن العام المحلي، الا أن
هذه التدابير لم تلفح في وقف حركة الوعي المتصاعدة في
الشارع، والسبب في ذلك أن الثورة الاتصالية لم يعد بالامكان
وقف تأثيراتها العالمية، حتى على القوة الأكبر في هذا
العالم، اي الولايات المتحدة التي باتت تخشى من تقارير
محطات تلفزة عربية مثل (الجزيرة) و(العربية)، دون أن تتمكن
من تحييدها فضلاً عن اجهاض تأثيراتها.
إن ما تخشى العائلة المالكة منه هو تفتت إحتكارها للسلطة
وهذا يمثل جذر الأزمة الداخلية، ولذلك فهي تلجأ الى استعمال
اقصى الوسائل وأقساها من أجل الاحتفاظ بالسلطة وعدم انتقالها
جزئياً أو كلياً لصالح فئات أخرى، ولاشك أن التغييرات
الاجتماعية والسياسية التي تقوم بها الثورة الاتصالية
الحالية ستفضي تلقائياً الى تكسير هادىء للسلطة شاءت العائلة
المالكة أم أبت، وأن حركة الزمن تسير على عكس المبدأ الثيوقراطي
في الحكم السعودي (شاء الله أن أكون ملكاً عليكم).
|