الدولة النشاز
لست بحاجة للإحاطة بقوانين الظواهر الاجتماعية كيف
تبدأ، وتمضي، والى أين تؤول. ولست مضطراً لأن تدرس العلوم
السياسية، وتفريعاتها ولا سيما علم الاجتماع السياسي.
هناك دولة تقدّم نموذجاً مختلفاً تماماً، لا تهتدي
بقوانين، ولا تسترشد بتجارب الدول في الماضي.
دولة رسمت لنفسها خطاً في الوعي، وفي التاريخ، وفي
المستقبل، يبدأ وينتهي من حيث بلغه الرشد السياسي والمعرفي
لدى من بيده القرار.
هكذا دون مقدّمات، أشعلت هذه الدولة في مارس 2015 حرباً
على اليمن بدعاوى تبدّلت أكثر من مرة، حتى ضاعت أهداف
الحرب، ولم يعد أحد يتحدث عنها. بدأت الحرب حزماً (عاصفة
الحزم)، وانتقلت أملاً (إعادة الأمل)، ودامت حتى الآن
بلا عنوان، ولا مواقيت معلومة لنهايتها، بل بات مشعلها
عاجزاً عن إطفاء نيرانها بعد أن غاص في وحل لا يستطيع
إخراج نفسه منه.
هي هكذا العبثية تفعل فعلها، فيهلك من ليس له حكيم
يرشده.
وهكذا، ودون مقدّمات أيضاً، تفجّرت أزمة مع قطر آواخر
مايو 2017 بدعاوى مزوّرة، وأعلن النفير، وتعبّأت الجيوش
لحرب أخرى، بهدف تغيير نظام الحكم في الدوحة.. لماذا؟
هكذا، أراد المسكون بالعظمة الفارغة، ولولا تدخّل الوسيط
الكويتي (كما أعلن أميرها صباح الأحمد صراحة في مؤتمر
صحافي مع ترمب عن درء حرب على قطر)، وكذلك وزير الخارجية
السابق ريكس تيلرسون الذي تدخّل لمنع «غزو قطر».. لولا
ذلك لكانت قطر محتلة من قبل السعودية.
ولا تزال الأزمة الخليجية قائمة، بل تمادى الضالعون
الأربعة على استبدال مجلس التعاون الخليجي برمته، وصنع
اتحاد من نوع آخر يضم المتماثلين ذهنياً وسياسياً و»نشازياً».
وهكذا، وأيضاً ودون مقدّمات، تم استدعاء رئيس حكومة
لبنان سعد الحريري في 3 نوفمبر 2017 الى الرياض، وأرغم
على تقديم استقالته من قناة «العربية» التابعة للسعودية،
بعد أن نال حظّه من اللطم والركل من غلمان محمد بن سلمان.
الدعوى المعلنة هي أن الحريري «تميلح» مع مبعوث المرشد
الايراني للشؤون الدولية علي اكبر ولايتي في بيروت.
ولولا تدخّل الرئيس الفرنسي ماكرون، وتوحّد الموقف
اللبناني الرسمي والشعبي بكل أطيافه، لكانت الأزمة قائمة
حتى اللحظة، ولربما كان حال الحريري كحال من لا يزال يقبع
في السجن. حتى اللحظة، لا الرياض ولا الحريري على استعداد
للإفصاح عن أسباب الاحتجاز، لأنها ببساطة عبثية وتافهة.
سلسلة حوادث متوالية لا حصر لها جرت قبل وبعد ذلك،
من بينها على سبيل المثال، في ديسمبر 2017 احتجاز رئيس
مجلس إدارة البنك العربي صبيح المصري، وهو سعودي من أصل
أردني ـ فلسطيني.
على مستوى التوتّر في العلاقات مع الدول القريبة والبعيدة،
بدءاً بالكويت التي تعرّضت، هكذا دون مقدّمات، الى حملات
اعلامية ضد وزرائها، وحكومتها، بل وحتى أميرها لم يسلم.
ثم تأتي الى سلطنة عمان التي نالت ما نالت من الانتقادات،
حتى أن هناك من طعن في خليجيتها، ووصمها بالخيانة، لأنها
لم تمتثل لأوامر ابن سلمان في الحرب على اليمن، أو في
الأزمة مع قطر.
وحين تنتقل الى تونس، والجزائر، والمغرب وتستعرض ما
جرى عليهم من النظام السعودي، فإنك تعيش ذات سياق السياسة
العبثية العدمية. ولنتوقف عند المغرب، كون حديث الخلاف
لا يزال يحتفظ بقدر من السخونة. وحتى الآن، ليس هناك من
يقدّم تفسيراً مقنعاً وراء تصويت السعودية في الثالث عشر
من يونيو الماضي لصالح امريكا وكندا والمكسيك لاستضافة
مونديال العالم للعام 2026 بدلاً من المغرب. وقد اعتبر
المغاربة ذلك طعناً في ظهر العروبة.
الجدير بالالتفات، أن النظام السعودي أراد أن يقترف
فعله المخزي ولا يجوز للمغاربة أن يبدوا ردّ فعل من أي
نوع. يا أخي يقول الإمام الشافعي «من استغضب ولم يغضب
فهو حمار»، فهل يعقل أن يصمت المغاربة على قرح أصابهم
من أخيهم في الدين والقومية.
المهم، وفي رد فعل نشاز، قرّر الملك سلمان أن يبدّل
عادة سياحية درج عليها على مدى سنوات طويلة، فاختار قضاء
العطلة الصيفية في «العالم الافتراضي» لمدينة نيوم التي
لم يبدأ العمل فيها حتى الآن. هذا الملك الذي اعتاد على
عطل صيفية باذخة في طنجة المغربية، والريفيرا الفرنسية،
وجزيرة بالي بأندونيسيا، وجزر المالديف وغيرها.. قرّر
فجأة، هكذا ودون مقدّمات، أن يكون زاهداً عابداً، وأن
يقضي إجازته في أرض خلاء لا زرع فيها ولا ضرع ولا ماء
ولا هواء.
سلمان الذي عرف عنه بذخه في الإنفاق على رحلات الاستجمام،
حتى كانت المواقع السياحية التي يزورها تعيش طيلة عام
على بضعة أسابيع يقضيها في فنادقها، ومطاعمها، وشواطئها،
الى درجة أنه في العام 2015، وبعد وقت قصير من صعوده الى
العرش، ذهب في رحلة استجمام في الريفيرا الفرنسية، وغضب
الناس لأن السلطات هناك أغلقت الشاطىء بأكمله لحساب الملك
سلمان وحاشيته، هذا هو نفسه سلمان الذي يعلن في بيان مقتضب
عبر وكالة الانباء السعودية الرسمية أنه سوف «يقضي بعض
الوقت للراحة والاستجمام».
للتوضيح، فإن مدينة “نيوم” المقترحة تبلغ كلفة بنائها
نحو 500 مليار دولار، منها قصور فاخرة على ساحل البحر
الأحمر للملك وولي العهد وبقية أبنائه. ومن المقرّر ان
يشتمل مجمع القصور على مهابط طائرات الهليكوبتر ومرسى
وملعب غولف.
هذا نفسه سلمان الذي أعلن في 4 نوفمبر 2017 عن تشكيل
لجنة عليا لمكافحة الفساد ونصّب إبنه محمد رئيساً عليها.
يعلّق أحدهم: أن نيوم ليست الطريقة الوحيدة التي تحاول
بواسطتها العائلة المالكة جمع المال. ويقدّر حجم الأموال
التي بحوزة الأمير محمد وأمراء العائلة المالكة، ورجال
أعمال بارزين متهمين بالفساد احتجزوا لفندق ريتز كارلتون
بنحو 800 مليار دولار.
عود على موضوع التوتر في العلاقات مع الدول الأخرى،
البعيدة هذه المرة، ولكم ان تحصوا: ماليزيا وفضيحة الفساد
المالي لرئيس الوزراء السابق، وباكستان وفضيحة الفساد
المالي لرئيس الوزراء الحكومة السابق نواز شريف، وألمانيا
على خلفية رفض بيع دبابات لوبارد، وأخيراً كندا على خلفية
تغريدة لوزيرة خارجيتها تنتقد حملة الاعتقالات المتواصلة
للناشطين في السعودية.
في النتائج: السعودية دولة نشاز بامتياز!
|