تأجيل الإنتخابات المحلية
تشـيـيـد أسـوار القـمـع
كان اعتقال الإصلاحيين في 16 مارس الماضي مجرد حلقة
في منهج الإرتداد على (وعود) الإصلاحات.
الإعتقالات كانت تدشيناً لسياسة (إعادة الفئران) الى
جحورها، كما كان يتوعد وزير الداخلية الأمير نايف بن عبد
العزيز. وقد تبع الإعتقالات مباشرة خطوات متوازية، أصبحت
أكثر وضوحاً مع مرور الإيام.
فعلى صعيد هامش حرية الصحافة، والذي كان يقاس به مدى
الرغبة الحكومية في الإصلاحات، فقد تقلص ذلك الهامش حتى
كاد يلمس حدود ما قبل ثلاثة أعوام. الصحافة المحليّة التي
كانت تتحدث بمفردات المشاركة الشعبية والإصلاح السياسي
والإنتخابات ومؤسسات المجتمع المدني.. والصحافة التي كانت
تنقد السياسات الحكومية في الميادين المختلفة، ووصلت الى
نقد الوزراء، وفي بعض الأحيان كانت تغمز بدائرة الأمراء
وسرقاتهم وجهلهم.. هذه الصحافة عادت مرّة أخرى الى سابق
عهدها، فقد تراجع كتاب كثيرون عن الكتابة، بعد أن أصبحت
مقالاتهم (غير مرغوب فيها) أو بعد أن طولبوا بتعديلها
حتى يمررها الرقيب (رئيس التحرير، ومديره، إضافة الى موظف
الرقابة التابع لوزارة الداخلية).
وزارة الداخلية صارت نشطة هذه الأيام، فقد طلب الأمير
نايف من رؤساء التحرير في تعاميم خاصة بأن يقلصوا مساحة
الحديث عن الإصلاحات السياسية، وأن يخفضوا من النقد الموجه
لمؤسسات الدولة، خاصة المتعلق بالبطالة والفقر، كما طالبهم
بعدم استخدام لفظة (الإصلاح) واعتماد كلمة (التطوير) الأمر
الذي سبب جدلاً داخل الصحافة خاصة جريدة عكاظ، وثيقة الصلة
بوزير الداخلية.
السعوديون الذين كانوا يملؤون شاشات الفضائيات يتحدثون
من خلالها عن مشاكلهم الخاصة، ويجرون حوارات معمّقة عن
الوضع السعودي المتأزم اقتصادياً وسياسياً وأمنيّاً، لا
تجد أحداً اليوم ـ إلا من مُنح إجازة أمنية! ـ يقبل بالخروج
على الشاشة، مع ما يترتب على ذلك من استدعاء وتحقيق أمني،
وربما اعتقال. والمسألة هنا لا تخص الإصلاحيين الذين اعتقلوا
وأخذت عليهم التعهدات بعدم الحديث للصحافة الأجنبية والإعلام
الخارجي، بل أن الهواجس والمخاوف وصلت للجميع، فمعظم النخب
قد تعلّمت الدرس من الإعتقالات، وما كان لها أن تخنع هكذا
بكل سهولة، وتتنازل عن مواقفها السابقة بهكذا سرعة، وكأنها
لا تريد أن تدفع أي ثمن لتحقيق الإصلاح!
الديوانيات السعودية هي الأخرى تعرضت لنصيب وافر من
الضغط، فقد أغلقت ديوانية نجيب الخنيزي في القطيف، بعيد
اعتقاله، وتهديده مرة اخرى بالإعتقال إن قام بمناقشة أية
موضوع سياسي في ديوانيته بمنزله. ثم جاء الدور على الأستاذ
محمد سعيد الطيب، الذي كانت ثلوثيته الشهيرة ضاربة في
قدمها منذ التسعينيات الميلادية! وقد أغلقت مؤخراً بقرار
رسمي! وكأن مثل هذه الديوانيات صالات تؤجر! أو مراكز ثقافية
تشكل أحد ملامح المجتمع المدني، أو كأنها مراكز حكومية!
ويتوقع أن تغلق ديوانيات أخرى تعبر عن نشاطات سياسية.
الجانب الآخر من العملة، هو أن سلطات إضافية منحت للتيار
السلفي المولد للعنف والتطرف والإرهاب، والمعادي لكل إصلاح
سياسي. فقد احتلّ هذا التيار مساحات واسعة من الإعلام
الحكومي (التلفاز خاصة القناة الأولى) كما منح مساحة واسعة
من الجرائد المحلية بأمر من السلطات. وشحذت أضراس هيئة
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ودعّمت بمدى حادّة جديدة،
وتسابق الملك وإخوانه بالتبرع للهيئة بسيارات جديدة، ومقارّ
جديدة، وصلاحيات أكبر تجد انعكاساتها على الشارع بشكل
واضح هذه الأيام.
أما وعود الإصلاح فلا أحد يتحدث عنها، ولا تقبل العائلة
المالكة أية مطالب عبر العرائض، وهي الوسيلة الوحيدة التي
كانت متاحة! وحتى نصف الإنتخابات المحليّة المقررة في
شهر اكتوبر القادم، فإن الحكومة ـ وحسب مصادر خاصة ـ قد
غيّرت رأيها بشأنها، فهي تزمع الإعلان عن تأجيلها، بحجة
أن الوقت غير كافٍ! ومن المحتمل أن لا يحدد موعد جديد،
بل يكون مفتوحاً، حيث يتم التسويف شهوراً بل سنين طويلة،
شأنها في ذلك شأن (مجلس الشورى والدستور ونظام المقاطعات)
الذي وعد به المواطنون منذ الستينيات الميلادية من القرن
الماضي، ولم يحقق إلا بعد ثلاثين عاماً فقط، وبصورة مشوهة!
وهناك اعتقاد بأن وزير الداخلية يميل الى الإلغاء الكلي
لوعد الإنتخابات البلدية دفعة واحدة.
بعد شهرين، من تاريخ اعتقال الإصلاحيين، تغيّرت الأوضاع
في المملكة الى النقيض. وارتفعت السدود دفعة واحدة، بعد
أن كانت تتدرج في الإنحدار والإندحار، الامر الذي أغرى
الكثير من الناشطين السياسيين بزيادة التفاؤل.
(الدولة قوية) إذن! وقد أثبتت قوتها في (كسر المجتمع)!
هذه هي الرسالة الأصلية غير المنقّحة من العائلة المالكة
الى شعبها!
لكن أزمة الدولة في المملكة، وفي البلدان العربية عموماً،
تكمن في كونها قوية طاغية غاشمة مفترسة. ولهذا السبب هي
مولدة بالضرورة للعنف، ومولدة لعدم الإستقرار والتخلف
في شتى الميادين. فالقوة الظاهرة للدولة الباطشة، تحمل
معها نقاط ضعفها ومقتلها. وليس هناك ما يقلق الدولة غير
طغيانها الذي ينعكس على شكل ضعف في الشرعية، وفشل متعدد
المسارب في تحقيق الحدود الدنيا من الخدمات الإجتماعية
والعيش الكريم لمواطنيها.
من السهل أن تكسر المجتمع وإرادته وأن تقف على التلّة
رافعاً راية النصر ولو لبعض حين!
ولكن أي نصر هذا؟!
العنف يجتاح المملكة ولا يتوقف عند منطقة أو مؤسسة
حكومية اقتصادية أو أمنية أو سياسية. والسخط (المكتوم)
يعمّ كل الأرجاء، وكل الشرائح الشعبية.. والنخب المتعلّمة
تتربّص بالنظام وبالعائلة المالكة الدوائر لتنتقم منه،
والنزعات الإنفصالية في تصاعد مستمر.
هذا هو ثمن النصر السعودي!
انه نصر مؤقت، بل هو نصرٌ مزيّف في حقيقته وواقعه..
لأنه لا يحقق للمنتصر راحة بال، ولا يعينه على مجابهة
مشكلة داخلية كانت أم خارجية، ولا يلغي بأية حال التطلعات
الطبيعية للمواطنين لتحقيق حقوقهم والمساهمة في بناء مجتمعهم.
النصر المزيّف ينجح أحياناً في قمع المشكلة ظاهرياً
ويمنع تجلياتها والتعبير عنها على السطح، ولكنه لا يلغيها
ولا يخفف من مخاطرها، ولا يبعد الأذى عن صانعي الإنتصار
المزيف.
لترتفع السدود وأسوار القمع، وستأتي عما قريب فأرة
لتهدّ سد مأرب السعودي على رؤوس بناته من الأمراء!
|