دولة الطاغية السعودي
كتب إيتيان دو لا بويسي في مؤلفه (العبودية الطوعية)
التالي:
“يمارس الطغيان كامل سيطرته حيثما تتوقف
القوانين، أو حيث تغتصب بأساليب لصوصية، فكل من يتقلد
السلطة القصوى، ويستخدم القوة التي بين يديه، دونما أي
مراعاة للشرائع الإلهية والبشرية، هو طاغية حقيقي. ممارسة
الطغيان لا تتطلب علماً ولا فناً؛ وهي من نتاج القوة،
وهي الطريقة الأكثر سماجة والأكثر رعباً في آن معاً، في
ممارسة السلطة، فليكره المواطنون وليحقدوا على النظام،
شرط أن يخافوا. ذلك هو شعار الطاغية..”.
ونقل لا بويسي شهادة من كان حاضراً في قصر سيلا، أحد
طغاة فرنسا السابقين، بما نصّه:
(وشاهد يوماً داخل قصر سيلا، أنهم كانوا
بحضوره أو بأمر منه، يسجنون بعض الناس، ويحكمون على البعض
الآخر بأحكام شتى: فينفون هذا، وينتزعون من ذاك ممتلكاته،
وينفّذون الإعدام خنفاً بحق ثالث. وباختصار، كان كل شيء
يجري لا كما أمام قاض، بل كما في بيت طاغية الشعب. لم
يكن المكان قصراً للعدل، بل كان مغارة طغيان. فاستدار
ذلك الطفل الشهم صوب معلّمه هاتفاً بحدّة: “أعطني خنجراً،
سأخفيه تحت معطفي، فأنا غالباً ما أدخل على سيلا في غرفة
نومه، قبل أن ينهض، سأغرسه في صدره وأنقذ وطني من هذا
الوحش المقرف”...).
ويخلص لا بويسي بالقول: «لقد سئل طاليس
عن الشيء الذي كان يبدو الأشد إثارة للدهشة في نظره، فقال
إنه طاغية عجوز. لأن للطغاة من الأعداء ما يعادل عدد الناس
الذين تحت سيطرتهم”.
المشكلة ليست في وجود الطغاة، فتاريخ البشرية يحفل
بأعداد وافرة منهم، ولا يكاد يخلو بلد أو شعب من تجارب
مع طاغية أو أكثر، ولكن المشكلة تكمن في إذعان هذا الشعب
وذاك لإرادة الطاغية، ونزواته، ومجونه، وتعطّشه لتعذيب
الناس، والتسلّط عليهم، وقتلهم إن شاء.
إن الفارق بين العبودية والحرية هو إحساس بالكرامة،
وهذا يتطلب استفاقة من سبات قد يطول، وقد يصبح واقعاً
مقبولاً، والأخطر حين يتحوّل الى ثقافة، يتغذى على مبررات
إجتماعية، ودينية، ونفسية، وهذا ما ينعته لا بويسي بالعبودية
الطوعية، لأن هناك من يريد حسم الجدل الداخلي بطريقة مرواغة،
وحتى يتحرر من العذاب الذي قد يعيشه بداخله، فيجعل من
المساكنة مع العبودية خياراً مقبولاً ومريحاً.
الطغيان في تاريخ البشرية أطول من تاريخ الحرية.. ليس
لأن الطغاة أقوى، بل لأن الشعوب جهلت قوتها وضعفهم، فارتضت
أن تكون طيّعة بيد الطغاة، فغفلت عن الطريقة التي بها
تتخلص منهم. ولأن الطغاة يحكمون الناس أشتاتاً وليسوا
جماعات، فإن طغيانهم إنما يدوم بإبقاء وتعزيز الإنقسامات
على أساس مذاهب، وقبائل، ومناطق، وأعراق، وأشياع، وأحزاب.
ولأن الوحدة هي القوّة الحقيقية في مواجهة الطاغية وجيوشه،
فإنها، أي الوحدة، تشكّل الخصم التكويني للطاغية، ولذلك
فهو يعمل على ما يفرّق الناس ويشتّت شملهم ليبقي على حكمه
وتسلّطه عليهم.
لقد تعرّفت شعوبنا على سياسات الطغاة، وتكتيكاتهم،
وأدواتهم، حتى أصبح الخوف منهم ثقافة، وبات المصلحون معنيين
بمعالجة الآثار النفسية، والاجتماعية، والسياسية؛ ولكن
قلة نادرة من اشتغلت على تطوير ثقافة المقاومة المدنية،
أي كيف يجب على كل فرد في المجتمع التصرّف في حال وقوع
عدوان على حقّ من حقوقه.
إن مما يؤسف له حقاً، أننا في «مملكة الصمت» التي تشهد
هذه الأيام فصلاً مؤلماً ودامياً من فصول الطغيان، لا
نزال نكتوي بحريق العبودية الطوعية. بين من صمت، وآخر
من آثر الانسحاب، وثالث من ضمّته جدران المعتقلات، يبقى
شخص رابع مطلوباً حضوره في الساحة، وفي كل محفل يمكن أن
يخرق حاجز الخوف، ويوصل رسالة إخوته في الشقاء الى من
يهمه الأمر.
ولابد لهذا الشخص الرابع أن يتكاثر من أجل إسدال الستار
بصورة نهائية على الخنوع الطوعي، وإطلاق الصراخ في وجه
الطاغية، بعد أن كان الصمت سمة دائمة وراسخة في حياة العبيد.
الصراخ على أشكاله، في المسجد، في المدرسة، في الجامعة،
في مواقع التواصل الاجتماعي، في السوق، في السفر، في البر
والبحر والجو، في كل مكان يكون فيه الصراخ صدى لآهات شركاء
المعاناة.
لا يهم الطاغية إن يحبّه الناس أو يمقتونه، طالما أنهم
يخافونه، وهذا غاية طغيانه.
وحين يكف الناس عن الخوف من طغاتهم، يصبح سقوطهم سريعاً.
لقد أدراك طغاة آل سعود هذه الحقيقة، وعملوا على أساسها.
فهم يعلمون تماماً بأن حتى المقرّبين منهم إنما يظهرون
الحب لهم طالما لم تنقطع «الشرهات» عنهم، ولكنّ مكنون
سرائرهم يخبر غير ذلك، ولو جاء آخرون يمدّونهم بالاعطيات
لنقلوا ولاءهم منهم الى من سواهم. وفي تاريخ الدولة السعودية
الاولى والثانية قصص يرويها مؤرخوها عن انتقال قبائل كانت
في معسكر الحاكم السعودي الى خصمه العثماني ونائبه المصري
في أول لحظة أُتيحت لها.
للطاغية أدوات معروفة لم تتبدّل ولم تتغير منذ عصور
التاريخ، والغاية واحدة: إخضاع الناس بالقوة والإرغام.
هل في ذلك جديد؟ كلا.. ولكن الناس لديهم مروحة واسعة من
الخيارات، وقد زوّدت أدبيات المقاومة المدنية من التكتيكات
في مواجهة الطغيان ما يكفي لتحطيم عروش الطغاة وتيجانهم،
ووضع حد لعذاب الناس وآلامها. وفي ظل الثراء الاتصالي
وعصر الانترنت، تقلّصت خيارات الطغاة، وتنوّعت وتكاثرت
خيارات الشعوب، وباتت ذريعة الخوف من الوقوع في قبضة رجال
الأمن وزوّار الفجر غير مقبولة.
إن أهداف المقاومة المدنية تتلخص في:
أولاً: كسر حاجز الخوف،
وثانياً: فضح تدابير القمع،
وثالثاً: التعريف بقضية المقهورين،
ورابعاً: تحريض المتردّدين على القيام بأعمال مماثلة
في المقاومة المدنية، وخامساً: تحويل السخط الشعبي الى
فعل احتجاجي في الشارع.
|