المملكة المتحوّلة
المجتمع من “القرية” الى “الكونية”
القسم الخامس
سعد الشريف
على الرغم من غياب سمات مشتركة (تاريخية، ثقافية، إجتماعية..)
بين المكوّنات السكانية داخل المملكة السعودية، بما يفقدها
مسمى (مجتمع)، فإن هذه المكوّنات شهدت انتقالاً جماعياً
متزامناً من حالة ثقافية، ومجتمعية، واقتصادية الى أخرى
متطوّرة، بدأت بالتوطين في المناطق التي كان الترحال سمة
حياة سكّانها، وبتمدين القرى في المناطق الحضرية. فكان
وسط الجزيرة العربية وأجزاء أخرى متفرقة منها بإزاء أشكال
هجرة متعدّدة: من الريف الى الحضر، ومن القرية الى المدينة،
وبين المدن وعبرها.
وبصورة إجمالية، فإن عملية التحوّل المجتمعي لم تكن
تتم في عزلة عن التحوّل الاقتصادي الذي ساهم في تطوير
وسائل الانتاج، وإعادة تشكيل الطبقات الاجتماعية، ومعه
إعادة تشكيل الهوية، والتحوّلات المجتمعية والثقافية بصورة
عامة، وجاءت الثورة التوصّلية والاتصالية لتنقل المجتمع
بجميع أطيافه الى عالم جديد بالمعنى الشامل..فقد تغيّر
كل شيء عمّا كان عليه في بداية القرن العشرين.
|
|
الأحساء من الاقتصاد الزراعي الى النفطي |
لابد أن يكون واضحاً في مستهل بحثنا أننا لا نتحدث
عن مجتمع بالمعنى العلمي، أي بما هو مجموعة أفراد تقطن
بقعة من الأرض لها حدودها الجغرافية والسياسية وتحمل سمات
ثقافية مشتركة، ولها تاريخ مشترك، وخبرات مشتركة، كون
هذه الخصائص تنطبق فحسب على كل مكوّن سكّاني في منطقة
محدّدة، ولا ينسحب على المكوّنات السكانية في الجزيرة
العربية عامة.
ولذلك، يمكن أن نقول المجتمع الحجازي، والمجتمع النجدي،
والمجتمع الاحسائي..ويمكن العثور على مشتركات بين المجتمع
الحجازي والمجتمع المصري على سبيل المثال، أكثر مما نجدها
بين المجتمعين الحجازي والآخر النجدي، وكذلك المشتركات
بين المجتمع الجنوبي (عسير ونجران وجازان) مع المجتمع
اليمني، والمجتمع الشمالي مع المجتمع الأردني، ومجتمع
المنطقة الشرقية مع المجتمعات الخليجية (البحرين، والكويت
بدرجة أساسية)، بسبب تقارب في اللهجات، والعادات الاجتماعية،
وحتى الأصول العائلية، ومناشطها الزراعية والتجارية، وذاكرتها
التاريخية.
في المملكة السعودية، ونتيجة للتهديدات الوجودية التي
حملتها الغزوات الوهابية على المناطق، تعزّزت الانتماءات
الفرعية ولاسيما المناطقية والمذهبية، فأصبح كل مكوّن
ينزع نحو الاحتماء بهويته الخاصة في مقابل الخطر المحدق
بها. وهذا يفسّر جزئياً فشل مشروع الدولة الوطنية، بسبب
جنوح الفئة الغالبة نحو تعميم هويتها، ومذهبها، وخصوصياتها
الثقافية، والفلوكلورية، والتاريخية..
نعم يمكن التسامح في استخدام مسمى «المجتمع» على شبكة
من المكوّنات السكانية لاشتراكها في عموميات كليّة مثل
اللغة (العربية)، والدين (الإسلام)، والمتحد المكاني (الجزيرة
العربية)، وتالياً انتظامها في دولة، شهدت تحوّلات اقتصادية
واجتماعية وثقافية متزامنة، ولكون هذه المكوّنات واجهت
الفرص والمخاطر ذاتها.
وما يميّز المجتمع بمختلف أطيافه وبنسب متفاوتة أنه
تقليدي، ما يجعل التغيير فيه بطيئاً، ويبقي على خاصية
المجتمع الأبوي/ البطركي، حيث العلاقة العمودية والمباشرة،
والتي تجعل مكانة الفرد وراثية، بحكم الأعراف والتقاليد
الموروثة.
هذا المجتمع في شكله التقليدي، بما هو سمة لجماعة اجتماعية
محدّدة أو بما هي سمة لجماعات منتظمة في إطار الدولة،
فقد خصائصه القديمة إن لناحية بنيته، وحجمه، أو لناحية
تجانسه الثقافي، وانكشافه الهوياتي، و تواصله التقني.
كان الملك عبد العزيز آل سعود معنياً بقاعدته الشعبية
في منطقة نجد التي أولاها جلّ اهتمامه، فيما لم يكن مهتماً،
على سيل المثال، بإعادة تشكيل النظم الاجتماعية السائدة
في الاحساء والقطيف أو في الحجاز أو حتى في الجنوب، بل
على العكس أعاد انتاج النظم السائدة في العهود السابقة
من خلال توظيف النظام العلائقي ومجال القوى السائد لتعزيز
سلطانه في المناطق التي كان يصعب عليه إرسال قوات عسكرية
وأمنية كبيرة اليها.
بكلمات أخرى، أبقى عبد العزيز على البنية التحتية للسلطة
القائمة، ومنحها مشروعية من خلال الإعتراف بسلطة الوجهاء
أو العمد الموجودين قبل قيام الدولة السعودية، على الأقل
في المرحلة الأولى، وفعل الشيء نفسه في المناطق الأخرى،
الحجاز والجنوب على سبيل المثال.
ونحن هنا أمام زمنين يختصّ كل منهما بسمات إجتماعية،
وإقتصادية، وقيمية، وثقافية فارقة. في الزمن الأول الممتد
من العام 1932 ـ 1970، وهو زمن وإن بدا فيه السكّان في
حالة استقرار مكاني الى حد كبير، الا أنه في حقيقته بقي
في حال تحوّل على مستوى البناء الاجتماعي، والتنشئة المؤسساتية
الشاملة التشريعية، والقضائية، والادارية، ومعها أنساق
العلاقة الداخلية بين الأفراد والمكوّنات السكّانية وبينها
وبين الدولة.
الزمن الثاني والذي يبدأ من العام 1970، أي مع بداية
الخطط الخمسية المصمّمة للتحديث الدولتي، وتطوير المؤسسات،
وإطلاق ورشة شاملة على مستوى الدولة بهدف تطوير البنية
التحتية وما رافقها من تغيّرات في النظم المجتمعية، والقيمية،
والثقافية.
على أفق واسع، كان مجتمع ما قبل النفط بدائياً في اقتصاده،
وفي نمط عيشه، وفي ثقافته، وفي رؤيته لذاته ولما حوله
وللعالم بأسره. كانت الحركة العلمية راكدة ما عدا قلة
نادرة من البيوتات العلمية التي توارثت تلقي العلم التقليدي
الديني، على وجه التحديد، ثم برزت ظاهرة الكتاتيب حيث
يتلقى الاطفال بعض الدروس الأولية مثل الكتابة والقراءة
قبل أن يطرأ عليها بعض التحسّن بإضافة مادتي الحساب والعلوم.
وبصورة إجمالية، كان المشهد الثقافي والعلمي جامداً،
وكانت البلاد عموماً، باستثناء منطقة الحجاز الحاضنة للحرمين
الشريفين، والمنطقة الشرقية ببيوتاتها العلمية في حالة
شبه عزلة تامة عن العالم الخارجي، سوى الطرق التجارية
التي تمرّ فيها وتكسبها أهمية جزئية ووقتية.
لاريب، أن ثمة تفاوتاً شاسعاً بين المكوّنات السكانية
بحسب كل منطقة، وتجربة كل مكوّن. ولكن ما يجمع بينها هو
الانكباب شبه المطلق على البحث عن الرزق ولقمة العيش،
والصراعات التي ما فتئت تندلع بين القبائل وسط الجزيرة
العربية ثم ما تلبث ان تمد ذيولها الى المناطق الأخرى..
وباستثناء منطقة الحجاز التي كان لها وضع خاص، إجتماعي،
وتجاري، وديني، وثقافي، وإداري، فإن ثمة متغيرين تركا
تأثيرات مباشرة وبنيوية على مكوّنات سكانية عديدة:
|
|
المواصلات والاتصالات غيرت المجتمع المُسعْوَد
|
ـ توطين البدو
ـ اكتشاف النفط
لناحية توطين البدو، والتي شكّلت بداية فصل جديد في
حياة المجتمع النجدي، فإن انشاء الهجر بقرار من عبد العزيز
كان بداية تشكيل المجتمع بالمعنى العملي، والذي من شأنه
أن يشكل قاعدة وحاضنة للدولة الناشئة التي أراد عبد العزيز
إقامتها.
في سياق تأسيس كيان اجتماعي يمهّد لبناء الدولة، شجّع
عبد العزيز القبائل النجدية على الاستقرار في هجر أقامها
لهم، فتأسست أول هجرة في الإرطاوية سنة 1911 وكانت مصمّمة
لجمع شمل قبيلة مطير، وأعقب ذلك تأسيس هجر أخرى في مناطق
متفرقة من نجد مثل: الغطغط لقبيلة عتيبة وكانت أكثر الهجر
سكّاناً هي والداهنة، وتبعد عن الرياض ثمانين كيلو متراً،
وقد دُمِّرَت بعد معركة السبله في العام 1929، وهجرة الصرار
لقبيلة العجمان وتقع بين الرياض والكويت، وضمن الحدود
الادارية لمحافظة النعيرية في الوقت الراهن، ويبرين والسكك
والبدوع لآل مرّة، وثادق لحرب؛ وهناك نحو إحدى وعشرون
هجرة أخرى تابعة لها، وجبة والأجفر والصفرا لشمر ومعها
أكثر من عشرات الهجر الأخرى، والجفير وثمان هجر أخرى لقحطان،
والحسى والضبيعة والخضر لسبيع، والفيضة وخيبر وخمس هجر
أخرى لعنزة، ومشيرفة وأربع هجر أخرى للدواسر، ويكرب وفودة
وصلاصل وعيندار للهواجر، والحنة وعتيق وثاج للعوازم، وغيرها
الكثير من الهجر التي زادت على 122 هجرة سنة 1928. في
النتائج، ساهم مشروع بناء الهجر في انحسار حركة التنقّل
والهجرة الداخلية التي ميزت حياة قاطني مناطق نجد على
مدى قرون(1).
أما لناحية دور اكتشاف النفط كرافعة رئيسة في التحوّل
الاجتماعي الشامل والعابر للمكوّنات السكانية كافة، فإنه
غيّر، بشكل عميق، في بنية الدولة وطوّر من جهازها البيروقراطي
كما زاد من مستوى هيمنتها وأسّس لما عرف بالدولة الريعية
(rentier state)، حيث تهيمن الدولة على مصادر الثروة وتعيد
توزيعها بما يجعلها المرجعية النهائية لأرزاق الناس.
كما بدأت تكسب الدولة أهمية سياسية، واقتصادية، واستراتيجية،
بفعل العامل النفطي، والامكانيات المالية الهائلة التي
حصدتها من بيع هذه السلعة الطبيعية وقد وهبها ذلك مكانة
غير مسبوقة في الجيواستراتيجية الاقليمية والدولية. في
سياق موازٍ، بدأت عملية تحوّل اجتماعي شامل محمولاً على
رافعة إقتصادية وتظهير ثقافي، إذ أقلع السكّان عن أنماط
الحياة القديمة، وطبع التحديث بصمته الواضحة على طريقة
العيش، والتفكير، وأنساق العلاقة، والأولويات.
مع الانتقال من عصر الزراعة الى عصر النفط، بدأ يتعرف
الناس على معايير في العمل مختلفة مثل: ساعات العمل، ونظام
الأجور، والقروض السكنيّة، والإدخار، والعطل الاسبوعية
والسنوية، ومعها شكل السكن، ونوع الأكل وطرقه، واللبس
وأنواعه وموديلاته، وعلى وسائل النقل الحديثة. وهنا بدأ
التمايز بين مجتمعين: المجتمع الفلاحي والمجتمع النفطي،
وتمايز معهما العادات، وأنماط العيش، وطرق التفكير، والأجندة
اليومية بأولويات متباينة.
في المنطقة الشرقية، كان التحوّل الاجتماعي واضحاً
لكون منابع النفط فيها، والتي جذبت أجناس بشرية متنوّعة
من الغرب والشرق، ونقلوا معهم ثقافاتهم، وتجاربهم، وعاداتهم.
وعلى الرغم من إنشاء مدن حديثة مستنسخة عن المدن التي
جاء منها الموظفون الغربيون، والأميركيون بدرجة أساسية
(نجمة ـ رأس تنورة، والظهران)، فإن الاحتكاك اليومي والمباشر
بين الموظفين المحليين ونظرائهم الغربيين والعرب عموماً
ترك تأثيرات جمّة ثقافية، ومعيشية، وحياتية، وأيضاً سياسية.
وبقدر ما أحدثت الطفرة النفطية تحوّلات اجتماعية واقتصادية
ومعيشية فارقة، فإنها في الوقت نفسه حملت معها أسئلة وإشكالات
من سنخها تتّصل بدرجة كبيرة بالهوية، والعلاقة مع الآخر،
والدين والعلم، ورؤية الإنسان لذاته، والشواغل الثقافية
الجديدة النابعة من تطوّر مستوى الإشباع من الحاجات المادية
الى الحاجات المعنوية، وتنامي الرغبة في المشاركة في الشأن
العام، خارج إطار العائلة، والقرية، والمدينة.
الانتقال من القرية الى المدينة، تبعاً لتبدّل النشاط
الاقتصادي من الزراعة الى الصناعة النفطية، هو انتقال
من اللاإستقرار إلى الحياة المنتظمة بالنسبة للقبائل البدوية
التي لم تعتد العيش حياة مستقرة، ومراكز نشاط ثابتة. أما
بالنسبة للمكوّنات السكانية المستقرة مكانيّاً، فإن استبدال
وسائل الإنتاج، والتحوّل من الاقتصاد الزراعي الى الاقتصاد
النفطي أفضى الى بناء تجمّعات سكّانية كبيرة وحديثة، ضاهت
في حجمها ووظيفتها الاقتصادية المدن التقليدية التاريخية،
مثل المقارنة بين الرياض وبريدة وعنيزة والدرعية، وبين
القطيف والهفوف وبين الظهران والخبر والدمام.
الظروف الاجتماعية الناشئة في مرحلة اكتشاف النفط ومتوالياتها،
أنجبت طبقة وسطى، تعتمد في تأمين حاجياتها الاساسية على
علاقات الإنتاج الناشئة عن التحوّل الاقتصادي، ورسختها
الدولة بهدف إرساء نسق علائقي مع القوى الاجتماعية والتقليدية
منها بدرجة أساسية، والتي نسجت السلطة معها علاقة خاصة
منذ البداية عبر مؤسستي الوجهاء في مناطق، وزعماء القبائل
في مناطق أخرى.
سوف تظهر تأثيرات الاختلال في موازين القوى الاجتماعية
الداخلي وبينها وبين السلطة من خلال النشاطات الاحتجاجية
التي برزت أول مرة في الضرائب الباهظة التي فرضها عبد
العزيز على المناطق الخاضعة تحت سيطرته حديثاً والتي أراد
منها أن تكون مراكز إمداد وتموين لحروبه الهادفة لبناء
مشروع دولته الخاصة.
كما برزت في احتجاجات القطيف خلال عامي 1926 ـ 1927
انطلاقاً من بلدة العوامية ووصولاً الى سيهات في الجنوب
بفعل السياسة الضريبية الباهظة التي فرضها عبد العزيز
عبر ممثله في القطيف محمد بن عبد الرحمن آل سويلم منذ
احتلالها في العام 1912، حيث شكّلت القطيف مصدراً مالياً
رئيساً لابن سعود ولمن كان قبله من الملوك، حتى صارت مضرب
مثل لحجم الاموال التي يجبى منها لرفد السلطة وحروبها.
حاول وجهاء الشيعة التوصل الى تفاهم مع عبد العزيز
وممثله في القطيف من أجل تخفيف الاعباء الضريبية ولكن
دون جدوى والذي أفضى الى بلوغ الاحتقان الشعبي ذروته في
العام 1926 وتمظهر في هيئة تمرّد مسلّح من أهالي العوامية
وسيهات على السطة المحلية، فخرج كثير منهم بأسلحتهم يطالبون
برفع المظالم التي لحقت بهم، فيما لجأ كثير من الشيعة
الى البحرين لولا تدخل السلطات البريطانية التي هالها
تكاثر أعداد الشيعة في البحرين بما يهدد حكم آل خليفة.
|
|
جدّة غير! |
في النتائج، نجحت السلطة عبر النخبة الشيعية التي نسجت
علاقة معها منذ البداية في احتواء التوتر، حيث تدخّل بعض
علماء الشيعة، على رأسهم القاضي الشيخ أبو عبد الكريم
الخنيزي، لوقف الاحتجاجات الشعبية في مقابل التوافق مع
مبعوث عبد العزيز آل سعود إلى القطيف على النظر في مطالب
الأهالي، ومنها تخفيف الضرائب، وعزل أمير القطيف عبد الرحمن
ابن سويلم عن إمارة القطيف بعد جولات من المطالبات والزيارات
التي أجبرت عبد العزيز أن يأتي بنفسه الى القطيف لمعالجة
الأمر(2).
بقدر ما كان يرمز النشاط الإحتجاجي الى أحد تظهيرات
التحوّل الاجتماعي في بدايات تشكّل الدولة السعودية، فإنه
في الوقت نفسه لفت الى الطريقة التي تترجم علاقات القوى
نفسها. ولحظنا في سنوات لاحقة كيف أخذ النشاط الاحتجاجي،
أو بالأحرى المقاومة الاجتماعية المدنية شكلاً جديداً
متطوّراً في حركة عمالية ونقابية منظمة ما لبثت أن اكتسبت
طابعاً سياسياً حزبياً. كل ذلك كان مسبوقاً بتحول اقتصادي
ملحقاً بتحوّل ثقافي والى حد ما ايديولوجي (يساري وقومي
بدرجة أسياسية ولا سيما في الخمسينيات والستينيات).
وبالرغم من استئثار المنطقة الشرقية بالحصة الأكبر
من الفعل الاحتجاجي في المملكة السعودية، لأسباب منها
كثافة حضور الاجانب العاملين في صناعة النفط (تنقيباً،
واستخراجاً، وتصفية، وتصديراً)، وكثافة المشاركة المحليّة
في قوة العمل واختلاطها بالعمال الاجانب والعرب على اختلاف
ميولهم السياسية والايديولوجية، والتجاور بين المنطقة
الشرقية والمناطق الناشطة سياسياً وإيديولوجياً (البحرين،
العراق بدرجة أساسية).
كان النشاط الاحتجاجي في بعده النقابي والمنظّم وبمطالب
حياتية وتالياً سياسية تظهيراً لتحوّل إجتماعي بنيوي،
وينطوي على حركة تمرّد على الشبكة العلائقية القائمة بين
السلطة والقوى التقليدية، الاقطاع بحوامله الاجتماعية
والاقتصادية.
إن أول، ربما، دلالات التحوّل الاجتماعي بعد اكتشاف
النفط ومتوالياته الاقتصادية والمعيشية والثقافية، يتمثل
في أن النظام الاجتماعي السائد لم يعد قادراً على الاحتفاظ
بصلاحيته التاريخية، وبكونه مرجعيّة نهائية للأفراد الذين
ينضوون تحته. وليس مفاجئاً أن يكون من أبناء النخب الوجهائية
والقبلية المتحالفة أو المتواشجة مع السلطة السياسية من
تمرّد، واختار الانضواء في إطار حزبي ونقابي، لشعوره بأن
ذلك يحقّق فيه ذاته، ويعكس تطلّعه وما يريد أن يكونه في
الظرف الزماني الذي يعيشه.
على الضد من الرأي القائل بأن التغيير الذي طرأ على
الأسر الخليجية بعد الطفرة النفطية كان بوتيرة بطيئة،
هناك من يرى أن تلك الوتيرة منسجمة مع وتائر التغيير عالمياً،
ومجتمعات الخليج ليست استثناء. تماماً كما أن الوتيرة
المتسارعة للتحوّل الاجتماعي في الخليج في مرحلة العولمة
ولا سيما في مرحلة التكنولوجيا الاتصالية المتطوّرة هي
الأخرى منسجمة مع الوتيرة المتسارعة كونياً. على أية حال،
فقد لعبت الدولة دور الكابح لعملية التحوّل الاجتماعي
وإبطاء وتيرته لأهدافها الخاصة، وخوفاً من مفاعيله السياسية،
ولذلك تعمّدت الفصل بين التحديث والحداثة، أو التغيير
في البنى التحتية عن البنى الفوقية الثقافية والاجتماعية
والسياسية.
ولاعادة رسم المشهد الاجتماعي في المملكة السعودية،
يظهر أن المكوّنات السكانية عموماً كانت قبل اكتشاف النفط
تعيش حالة من الجمود والتأخر الحضاري، وأن إعلان المملكة
السعودية في العام 1932 قد أسدل الستار على الحروب الداخلية،
فإنه بمفرده لم يضع حداً للأميّة، والفقر، وسوء الرعاية
الصحية ومعالجة الأمراض، والتخلّف بأشكاله، وانعدام البنية
التحتية (الطرق، والمطارات، والمستشفيات، والمدارس الحديثة،
والمراكز الصحية، وشبكات الصرف الصحي..الخ. وحين بدأ تدفق
النفط بكميات تجارية وبات لدى الدولة مدخول مالي، كان
على صانع القرار التصرّف بكونه مسؤولاً عن بناء دولة مكتملة
الأركان، وليس سلطة منبثقة من اختلال موازين القوى المحلية
وحروب داخلية.
على مستوى الشبكات العلائقية، كان على الافراد نسج
علاقة مشفوعة بالولاء مع الدولة، بدلاً من كبير العائلة،
وشيخ القبيلة، ووجهاء المنطقة، أو حتى علماء المذهب. في
حقيقة الأمر، إن هذه العلاقة المفترضة، بين الأمير والمجتمع،
إن تحقّقت نسبياً في مناطق، فإنها أخفقت في مناطق أخرى،
بفعل الرؤية القاصرة لدى صنّاع القرار الذين لم يتخلوا
عن إرث ما قبل الدولة، أي إرث قائم على الإرغام والقوة
الإكراهية، وعلاقات تسلّطية تحتكم الى السلاح ووسائل الاكراه
الأخرى.
ولكن ثمة متغيّرات اجتماعية غير مغفلة مثل تغيّر وظائف
القبائل التي استوطنت الهجر من الرعي والترحال والغزو
الى الزراعة والاستقرار، وما صاحبها من قيم جديدة ذات
صلة بالاستقرار والعلاقات الاجتماعية الممتدة، وتطوّر
أساليب الكسب والانتاج. وكذلك الحال في المجتمعات الأخرى
المستقرة منها، على وجه الخصوص المنطقتين الغربية والشرقية،
حيث كان التبدّل الاجتماعي نابعاً من تطوّر وسائل الانتاج
فحسب وما أنجبته من معادلات وعلاقات، وما سمحت لقيم ثقافية
وعادات جديدة من المرور والاندغام في منظومة القيم المجتمعية
والثقافية للسكان المحليين.
ثمة لا ريب عوامل ناشطة في إحداث تغيير في البنى الاجتماعية
نتيجة اكتشاف النفط وتزايد مداخيله وتشغيل جزء منه في
تطوير البنية التحتية، والتي ساهمت في نشأة مجتمعات حضرية
حديثة وانحسار البداوة بالمعنى الثقافي والاجتماعي، وتوسّع
الحركة التجارية والاقتصادية من خلال إنشاء الموانىء،
والارتفاع التدريجي في حركة التبادل التجاري البري، والبحري،
والجوي، وقدوم الشركات الاجنبية الأوروبية والاميركية
والآسيوية للعمل في السوق السعودية، ولا سيما في قطاعات
النفط، والبناء والتشييد، والبنية التحتية بصورة عامة،
وانشاء البنوك العقارية التي فتحت الباب أمام القروض السكنية،
وأنواع أخرى من القروض، وتطوير القطاع الزراعي عبر إقامة
السدود، وتنمية المشاريع الزراعية، وبناء المدن الصناعية
التي استقطبت المزيد من السكان المحليين الذين أقاموا
فيها وحواليها، وتالياً تطوّر الجهاز البيروقراطي للدولة،
وبناء شبكة مؤسساتية فرعية لتنظيم الاعمال الادارية.
|
|
تصريح بقيادة دراجة هوائية |
بصورة إجمالية، فإن عملية تحوّل بنيوي شامل شهدتها
المكوّنات السكانية في المملكة السعودية عبر مرحلتين،
الاولى منذ الوحدة الكيانية للدولة السعودية، والثانية
تبدأ بخطط التنمية الخمسية.
في النتائج، ثمة مجابهة كبرى ذات طابع هويّاتي أرستها
عملية التحوّل، إذ بات على الأفراد والجماعات أن تحسم
موقعها الثقافي والحضاري، وإما أن تتخلى جزئياً على الأقل
عن ولاءتها الفرعية (القبيلة، المنطقة، المذهب) أو التحصّن
داخل الذات الخاصة. لا شك أن ضعف الهويات الفرعية كان
بدرجات متفاوتة، بحسب المكاسب ومستويات التهديد.
في منطقة نجد، على سبيل المثال، حيث تعلو الهوية القبلية
على باقي الهويات، شكّلت الدولة السعودية مصدراً بديلاً
لحماية ورفاه أفراد القبائل لا سيما المتحالفة معها، فكانت
استجابتها للانضواء في كنف السلطة الجديدة طوعية ودون
مصاعب لاعتقادها بأنها شريك في مشروع الدولة التي شاركت
في بنائها وقاتلت المناطق الأخرى كي تسهّل أمر رسوخها
وتوسّعها وادامتها.
لقد بادل عبد العزيز تلك الرغبة لدى القبائل، إذ كان
يعمل على إضعاف دور القبيلة السياسي وربطها بكيانه الجديد،
من خلال بناء الهجر أولاً، وتشجيع النمو الحضري في مرحلة
لاحقة، لتشجيع أبناء القبائل على الانتقال والعمل في المدن
بما يؤول الى تفكيك الروابط القبلية المبنية على الاستقرار
في مواطن محدّدة.
بالنسبة لباقي المكوّنات، الحجاز التي يغلب عليها ثنائي
المكان والمذهب، والشيعة في المنطقة الشرقية، والاسماعيلية
في الجنوب، فإنها قاومت سياسة الإلحاق المستندة الى طمس
الهويات، والتمييز المناطقي والمذهبي، والغاء الخصوصيات
التاريخية والثقافية والإجتماعية لكل مكوّن لحساب مذهب
المتغلّب.
نعم، كانت المكوّنات السكانية جميعاً أمام متحوّلات
كبرى فرضتها عملية التحديث التي طاولت: الهوية، التعليم،
القانون، وسائل النقل، اللباس، الأكل، وسائل الانتاج،
المسكن، التبضع.
في ضوء التحوّلات المتسارعة، برزت الاختلالات الاجتماعية
والفوارق الطبقية على أساس الحرفة، ووفق معايير مستحدثة
تزامنت مع سيرورة الدولة وصيرورتها، فبات هناك ما يطلق
عليه الطبقة العليا المؤلّفة من الأمراء والوزراء والتجّار،
والطبقة الوسطى من موظفي الدولة: المعلّمون، والقضاة،
والعسكر، والعاملون في الخدمة المدنية عموماً، والطبقة
الدنيا وهم صغار الكسبة، والموظفين في القطاع الخاص والفلاحين،
والمشتغلون في الاعمال الحرة.
طاول التحوّل الأفراد كما طاول الأسرة كنسق اجتماعي،
فلم تعد العلاقة بينها وبين بقية الأسر تعتصم بالنظام
القديم بكامل حمولته الحياتية. فقد توزّعت الأسر على مساكن
متعدّدة، بعد أن كان يجمعها بيت واحد، وتوزّع الأبناء
على مناطق متعدّدة فلم يعد يجمعهم حي واحد، وحتى التزاوج
تبدّل فلم يعد يقتصر على الأقارب بناءً على العصبية العائلية
أو القبلية، بل صار بين الأباعد نسباً، وتبدّل معه شكل
الزواج، والمهور، وإقامة الأعراس بحسب النشاط الاجتماعي
والاقتصادي لكل عائلة، كما لم تعد المهن سمة موصولة بالعوائل،
فقد دخلت مهن حديثة الى سوق العمل، ويضطلع بمزاولتها عدد
كبير من الناس ومن مختلف المكوّنات مثل التعليم، والقضاء،
والصناعة بمختلف أشكالها، والتجارة الحديثة، والطب، والهندسة،
والطيران.
ودخلت المرأة كمسألة اشكالية ابتداءً وكمحك رئيس في
موضوعة التحوّل الاجتماعي بوصفه الكائن الأكثر غبناً بالمعنى
الشامل للكلمة، سواء على مستوى المكانة الاجتماعية، أم
على مستوى الوظيفة والدور، أو حتى على مستوى الحقوق الفردية
بدءاً من حقها في الحياة، وتالياً الحق في التعلّم وحقّها
في تقرير الحياة التي تشاء عبر ارتباطها بزوج ما.
كانت المرأة في العهود السابقة تعمل في الرعي، والزراعة،
والطهي، إلى جانب الوظائف التقليدية التي تمليها عليها
كإمرأة، وزوجة وأم. كان قرار تعليم المرأة مترافقاً مع
تجاذب اجتماعي حاد ليس وسط التيار السلفي المتشدّد بل
شمل غالبية المكوّنات السكانية المحافظة، ولكن مستوى الحدّة
انخفض تدريجاً مع التغيّرات الاقتصادية والاجتماعية في
مرحلة اكتشاف البترول. وبدأت المرأة تشغل عدداً من المهن
مثل التعليم والطبابة، ولاحقاً التحقت بوظائف ذات طابع
مكتبي إداري دون الأعمال الخشنة التي تتطلّب جهداً عضلياً
والعمل تحت حرارة الشمس الحارقة لاسيما في فصل الصيف.
التمدد المديني، وتحوّل العمل من الزراعة والرعي الى
الصناعة، عكس تأثيراته المباشرة على بنية الأسر، وعلى
علاقة الأبناء، وعلى الأثمان التي يفرضها الابناء من أجل
تنشئتهم وتأهيلهم علمياً ووظيفياً، والذي ضاعف من الأعباء
المالية على الأسر، إذ لم يعد الأبناء يشاركون في الانتاج
وتأمين الدخل، وإنما تحوّلوا الى مستهلكين بصورة كاملة.
فقد بات على الآباء تأمين المأكل، والمشرب، والمسكن، ونفقات
التعليم، وحتى الكماليات مثل السيارة، وأجهزة الهاتف،
والسفر وغيره لأبنائهم.
لا ريب أن التحوّل الاجتماعي الذي شهدته المملكة السعودية
لم يكن من النوع الراديكالي والانقلابي، وإنما يعبّر عن
الطبيعة المحافظة للمكوّنات السكانية وأن ما كان يعجّل
من وتيرة التحوّل هو طبيعة التغييرات الاقتصادية الكبيرة
التي أنجبت أنماطاً جديدة من الحياة والثقافة، ومنها ثقافة
الاستهلاك، والأدوار والمشاركة الاجتماعية.
|
|
مكة المكرمة والمشاعر قبل التحولات الاجتماعية
|
إن أهم ما أنتجته عملية التحديث أنها زعزعت بصورة عميقة
حقل اليقينيات في المجال الاجتماعي، لا سيما المفاهيم
التي تربط التمايز بين الرجل والمرأة على أساس جندري (gender)،
أي وفق الفارق البيولوجي، وبمرور الوقت فقدت تلك المفاهيم
زخمها وسطوتها الاجتماعية والثقافية لحساب أدوار جديدة
بدأت المرأة تشغلها في سياق حراك نسوي فاعل وعنيد يتّسم
بمسحة ليبرالية لافتة سواء على مستوى التعليم، وأماكن
العمل، أو الذهاب الى الأسواق، أو حتى الرؤية الدينية
حول المرأة التي ناضلت هي من أجل تصحيحها وصولاً الى الحقوق
المدنية الثابتة لها بوصفها مواطنة في دولة.
فبعد أن كان المجال العام منقسماً جندرياً، حيث يقتصر
حضور المرأة على فضائها الاجتماعي المنفصل، وإن ما هو
مشترك يكون مخصّصاً للعوائل، فإنها تمكّنت من إزالة السدود
أمامها بدأت أول مرة في التعليم الجامعي بطريقة محدودة،
ثم انتقل الى الأسواق التجارية والمطاعم، ولاحقاً عبر
اختيار شكل اللبس والحجاب.
إن مشهد التحوّل الاجتماعي حين يستوعب سنوات الاحتكاك
الاولى مع الحداثة ومتوالياتها ينبىء عن قفزات قياسية
عطفاً على الأزمان التي تستغرقها التحوّلات في المجتمعات
التقليدية. لابد من التذكير بأن القرن العشرين، والنصف
الثاني منه على وجه الخصوص وما تلاه، يعد الزمن الأسرع
في تاريخ التحوّلات الانسانية، لا سيما على مستوى الحركة
الصناعية والتكنولوجية. لنتذكر فحسب أن الثورة التكنولوجية
بدأت في الستينيات عبر مجموعة شركات ذات طبيعة كونية من
اليابان، والولايات المتحدة، ودول الاتحاد الاوروبي، والصين،
وكوريا الجنوبية، وهي مثّلت مجتمعة ما يعرف بـ صناعة أشباه
الموصّلات (Semiconductor Industry)(3).
ولإدراك أهمية وسرعة وتيرة التطوّر التكنولوجي فإن
العالم تجاوز الموجات القديمة التي بدأت في سبعينيات القرن
الماضي بالتكنولوجيا التناظرية (Analog)، واستمرت حتى
مطلع التسعينيات، وقدّمت التلفزيونات بأحجام كبيرة، وأجهزة
التسجيل (الكاسيت)، وغيرها، لينتقل العالم الى ما وصف
بالثورة الرقمية، في منتصف الثمانينات واستمرت الى ما
بعد الألفية الثانية بسنوات، وكانت درّة منتوجاتها الكمبيوتر
الشخصي (PC)، ليمهّد لمرحلة جديدة عرفت بالموجة الرقمية
الثالثة التي انطلقت مع الانترنت في منتصف التسعينيات
لتؤسس لمجتمع شبكي كوني، يؤسس لتحوّل كوني غير مسبوق،
يعيد على ضوئه تشكيل المجتمع الانساني، وهويته وعاداته،
وثقافته، ورؤيته، معطوفاً على منتجات الهواتف الذكية (IPhone)
واللوحة الضوئية (IPad) و(Tablet).
ومنذ مطالع الألفية الثالثة بدأت ارهاصات الموجة التكنولوجية
الرابعة أو ما يعرف بالواقع الافتراضي (Virtual Reality)،
حيث تلعب الصورة ذات الأبعاد الثلاثة وما بعدها في صوغ
الواقع الذي يتخيّله الانسان أو يرسمه، إذ تتآزر العلوم
الحديثة (الهندسة، الميكانيكا، الرياضيات، الاقتصاد، التكنولوجيا،
الابستمولوجيا، علم النفس..الخ) في إعادة تشكيل العالم
الذي نعيشه.
في تعاضد مع هذا الواقع، يتولى الروبوت أو الانسان
الآلي دور الأداة التنفيذية لتحويل الحلم الى حقيقة. ولذلك،
تخوض شركات التكنولوجيا الموصّلاتية سباقاً محموماً لتقديم
تشكيلة واسعة من الروبوتات ذات الوظائف المتعدّدة التي
تجعل من أحلام الانسان وقائع على الأرض، مع أنها تحيله
الى مجرد مستهلك جامد، أو متقاعد قهري، بعد أن حلّ الروبوت
مكانه في أداء كل الأدوار التي كان يقوم بها بدءاً من
الأعمال المنزليّة (الطبخ، الكنس، الغسل) ومروراً بمزاولة
مهمة التدريس والتدريب والتخطيط على أنواعه، وصولاُ الى
الطبابة البشرية، وتشغيل المصانع، وقيادة المركبات والسفن
والطائرات التي سوف تكون التحدي الأبرز في المرحلة المقبلة.
إن ما يعنينا من هذه الثورة التكنولوجية بموجاتها المتصاعدة
والمتطوّرة والمتسارعة هي انعكاساتها على الأفراد والجماعات،
كما على المجتمع والدولة، فهذه الثورة لا تستثني أحداً
أو جانباً من حياة الإنسان. بكلمات أخرى، هي ثوّرة شاملة،
طاولت كل شيء بالمعنى الشامل والمضطرد، فقد فرضت نفسها
بسطوة شديدة على حياتنا اليومية، وعلى أنماط تفكير الإنسان،
وأنساق علاقاته، ورؤيته لذاته ولمن حوله، ولوسائل تواصله
مع العالم، وطرق تلقيه المعرفة، وكيفية تنظيم شؤون حياته.
وإذا كان التلفزيون فيما مضى يوصف بأنه المربية التكنولوجية،
فإن شبكة الانترنت هي الأم الكونية، وأبناؤها الموبايل،
والقارىء اللوحي، والعارض الضوئي، فيما تتحوّل شاشات التلفزة
الى مجرد لوائح ضوئية لاستعراض ما تضخه الشبكة العنكبوتية.
ماذا يعني ذلك كله؟
إن العقود الأربعة من التكنولوجيا الموصّلاتية بموجاتها
الأربعة أحدثت تغييراً ثورياً في النظم الاجتماعية عامة،
حتى بات الإنسان رهينة لتلك الموجات. وما يجدر الالتفات
اليه، أن كثيراً من الناس عاشوا الموجات الأربع وخضعوا
تحت تأثيرها المباشر منذ بدء دخول التلفزيون والراديو
في شكله البدائي وصولاً الى الواقع الافتراضي، ما يعني
أن هذه الثورة كانت خاطفة ولم تدع لأحد التدخّل فيها أو
التقاط الانفاس لاستيعاب منتجاتها بصورة كاملة. لقد بدّلت
هذه الثورة رؤية الفرد وسلوكه، وعاداته، وقيمه، وأولوياته،
واهتماماته، وأجندته اليومية، وشبكة علاقاته، وتطلعاته،
وأحلامه، وتوقعاته.
|
|
بعد ممانعة سياسية.. المرأة تقود السيارة |
في مواكبة ديناميات التحوّل الاجتماعي يبرز فيض من
المتغيّرات الكمية والنوعية في منظومة القيم الاجتماعية،
والمعايير الأخلاقية، وحتى الأنساق العلائقية والثقافية.
ولكون التحوّل الاجتماعي يأتي في الغالب من الخارج وليس
بناء على إرادة وتخطيط وفعل في الداخل، فإن ضبط وجهته،
وحجمه، ونوعه، ومداه الزمني كان مستحيلاً، ولذلك كانت
السلطة السياسية عاجزة في بدايات انهمار السيل عن فعل
أي تدبير وقائي للحيلولة دون زعزعة أركان الدولة.
وكانت دعوة الملك عبد الله بن عبد العزيز لشراء «تويتر»
برغم طرافتها الا أنها تنطوي على دلالة قويّة على الشعور
بالخوف من تأثيرات أحد منتجات العولمة الاتصالية على السكّان
المحليين. على أية حال، فإن ما كان طرفة أصبح حقيقة، وإن
جزئية، فقد اشترى الأمير الوليد بن طلال ما نسبته 4.9%
من شركة تويتر، وإن من منطلق تجاري بحت.
ومهما يكن، فإن الثورة الجامحة في مجال التواصل الاجتماعي
وبرغم من محاولات تقييدها لم تحل دون أن تضع بصماتها الواضحة
على مسار التحوّل الاجتماعي الذي شهدته المملكة السعودية،
وهذا ربما ما أغرى توماس فريدمان الذي اختار تمجيد تجربة
محمد بن سلمان في التغيير بأن يمنحه صفة قائد الثورة من
أعلى.
إن أهم ما يميّز التحوّل الاجتماعي في عصر العولمة
الإتّصالية هو استهدافه الشباب كشريحة اجتماعية في صميم
التحوّل، والبيئة التي تخضع لاختبارات مفاعيل العولمة.
ولا تفسير ممكناً لمواجهة استحقاقات مستقبل هذه الشريحة
دون عقد مقارنات بين ما قبل وما بعد، وكيف تتمظهر التوجّهات
الثقافية والسلوكية لدى الشباب في عصر التكنولوجيا الاتصالية.
التحّول الاجتماعي في عصر الانترنت
لا تقاس مظاهر التحوّل الاجتماعي بما طرأ من تغيير
في حقل ما أو ما جرى في تاريخ ما، كأن نعتمد العام 1961
كتورخة لبداية التعليم النسوي بإنشاء الرئاسة العامة لتعليم
البنات، أو نهاية الاربعينات كبداية لإنشاء الاذاعة السعودية.
قبل أقل من قرن كانت النظرة الى الهاتف في وسط الجزيرة
العربية على وجه التحديد على أنه سحر ومن أعمال الشيطان،
وكان من بين عوامل تفجّر الصراع بين عبد العزيز وجيشه
العقائدي (إخوان من طاع الله) الذي اتهموه باقتناء ماصنعته
الكفّار. من الطريف، أن الدراجة الهوائية كانت من المقتنيات
الخاضعة لرقابة صارمة في منطقة نجد، وهي في الأصل منبوذة
اجتماعياً وكان يطلق عليها «حمار إبليس» او «حصان إبليس».
وكانت الرخصة الخاصة بقيادة الدراجة الهوائية تصدر
من هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفق شروط مشدّدة
منها شهادة شهود وكتاب عدل وعمدة الحي وكبير قبيلة صاحب
الدراجة. وبحسب وثيقة تعود الى العام 1379هـ/1959م أن
السماح باستعمال الدراجة يقتصر على الضرورة أي من البيت
الى الدكان “وما عدا ذلك فلا يكون له رخصة إلا بشغل لوالده..
بشروط ألا يخرج عليه بالليل ولا خلف البلاد ولا يردف عليه
ولا يؤجّره ولا يدخل عليه وسط الأسواق».
وكان قائد الدراجة يمنع من حمل الخبز، والحنطة، والشعير،
وكانت النساء يتغطين عنه والرجال يتعوذون من الشيطان الرجيم
كلما مرّت من أمامهم دراجة هوائية، وكان صاحبها يعامل
معاملة «الداشر الذي يشرب التتن» ولا يخالطه إلا من يطلق
عليهم «دشير القوم» حتى أن قولاً لاحق قائد الدراجة الهوائية
في ذلك الوقت وهو «شرابة التتن ركابة السياكل مطردة الدجاج»!(4).
لقد تبدّل المشهد بصورة راديكالية، فقد كشفت مصلحة
الجمارك السعودية بأن إجمالي واردات المملكة من الدراجات
النارية والهوائية من 2016/1/1 حتى 2017/12/9 ، بلغ نحو
1,449,785 دراجة(5).
وبلغة الأرقام أيضاً، كان عدد أجهزة الهاتف النقّال
في السعودية 6 ملايين جهازاً في العام 2006، وفي يوليو
2016 بلغ تقدير العدد 47.9 مليون جهازاً، منها 3.6 مليون
فقط اشتراك ثابت، بحسب تقديرات وكالة الاستخبارات المركزية
الاميركية. في تقديرات أخرى، فإن عدد أجهزة الهاتف النقّال
في السعودية بلغت في العام 2015 نحو 19.42 مليون جهازاً،
وارتفعت في العام 2018 الى 21.87 مليون ويتوقع وصولها
في العام 2020 الى 24 مليون جهازاً(6). وتصنّف السعودية
بأنها الثالثة على مستوى العالم في استخدام الموبايل بنسبة
تصل الى 75 في المائة من إجمالي عدد السكان(7).
ومنذ بدء إدخال خدمة الانترنت إلى المملكة السعودية
باشراف مدينة الملك عبد العزيز للعلوم التقنية بالتنسيق
مع جهات أخرى وذلك في العام 1998م ارتفع عدد مستخدمي الانترنت
من 200 ألف في العام 2000 أي ما يعادل 0.9 في المائة من
إجمالي عدد السكان الى 13 مليون مستخدماً في العام 2012
أي ما يعادل 49 في المائة، ويصل عدد مستخدمي الموبايل
الى 95 في المائة من إجمالي عدد السكان، فيما ارتفع عدد
مستخدمي الانترنت في العام 2017 الى 24 مليون مستخدماً(8).
في الترجمة العملانية لمثل هذا الاستيعاب الهائل لمنتجات
التكنولوجيا الاتصالية، يمكن المقارنة بين مقاربتين متنافرتين
لموضوع كان في زمن ما محرّماً وربما غير قابل للنقاش وأصبح
مباحاً بل السمة الأشد سطوعاً لمرحلة الاصلاحات الجديدة
التي تبناها ولي العهد محمد بن سلمان في رؤية السعودية
2030 ولتكون هذه أهم بطاقة عبوره نحو العرش. قيادة السيارة
التي دفعت المرأة للحصول عليها بكونها حقاً ثابتاً أثماناً
باهظاً من سمعتها، ونضالها الاجتماعي والثقافي والسياسي
والاعلامي، وحتى من أمنها الشخصي والمعيشي تتحوّل هي الأخرى
الى منجز سياسي يراد توظيفه بصورة احتفالية لرفع منسوب
شعبية الأمير ومشروعيته وتالياً حظوظه نحو العرش. وعليه،
لم يكن الديني هو من كان المعطّل للحق كما يحلو للأمراء
السعوديين إشاعته، وإنما هو السياسي هو المعطّل وحين وجد
فيه مصلحته أذن به.
أحد المحسوبين على التيار السلفي يتحدّث عن دور العامل
الساسي في التغيير ويمثّل لذلك بالفضائيات التي لعب فيها
العامل السياسي دوراً في تحويلها الى واقع.
|
|
الهاتف الجوال.. المسافة صفر! |
ويذكر في المقابل مثالاً مضاداً من واقع النضال السلمي
النسوي في مواجهة السلطة السياسية بصفتها المانع الرئيس
لتحقيق المرأة ذاتها ونيل حقوقها المشروعية. يقول: “ثم
لا أنسى قدرة العامل السياسي على كبح جماح التغير وإعادته
الى نقطة الصفر رغم وجود بداية لحراك يفرض واقعاً جديداً
ومنه قيادة المرأة للسيارة في المملكة التي قامت بها مجموعة
من النسوة بدايات عام 1411هـ (1990م) وجوبهت برفض من السلطة
السياسية فانتهى الأمر في حينه. ولو لاقت تلك الحركة قبولاً
سياسياً لأحدثت تغيراً كبيراً في المجتمع السعودي كان
سيبدأ بأفراد معدودين ثم ينتقل الى المجتمع بأسره..”(9).
بطبيعة الحال، لم يذكر الغفيلي المثال على سبيل نقد
السلطة لحؤولها دون نيل المرأة لحقوقها، وإنما يضعه في
سياق الاطراء وتمجيد دور السلطة السياسية في منع ما يعدّه
«انفلاتاً» اجتماعياً تقوده المرأة.
مهما يكن، فإن منطق التحوّل فرض نفسه على الواقع الاجتماعي،
ونلحظ ثمة علاقة حميمية بين التغيّر الاجتماعي والتحوّل
الاقتصادي المحمول على الارتفاع القياسي لمداخيل النفط،
وتالياً التحوّل التشريعي بما يتطلبه التحوّل الاقتصادي
ـ الاجتماعي من أنظمة ولوائح وقوانين جديدة تواكب تعقيدات
التحوّل وتنظّم العلاقات بين القوى الاجتماعية والاقتصادية
والدولة وبينها وبين الدول والشركات الخارجية، وصولاً
بطبيعة الحال الى تطوير الجهاز البيروقراطي، أي إرساء
البناء المؤسساتي للدولة(10).
من منظور التحوّل الاجتماعي في سياق العولمة التوصّلية
والاتصالية، إن أهم مدلولات هذا التحوّل هو أن عصر الانترنت
وثورة التواصل الاجتماعي أفضت الى تلاشي الواحدية بكل
أشكالها، ولم يعد الرأي الواحد سمة ثقافية في مجتمعات
الشرق، كما في العقود وربما القرون السابقة، فقد أصبحت
الثقافة متاحة للجميع، وأن حظر الحكومات للرأي الآخر بات
عبثياً، فقد حطّمت العولمة الاتصالية القيود كافة المفروضة
على التدفق الحر للمعلومات، وعلى حركة الأفكار والآراء.
أحد الصور المكتظة بالدلالات على التحوّل الاجتماعي
في عصر العولمة هو التغيير الهائل على مستوى لغة التخاطب
اليومية، حيث دخلت اللغة الانجليزية كلغة تخاطب جزئية
أو كلية..واصبحت هي لغة الفنادق، والمستشفيات، والمطارات،
وفي المؤتمرات العلمية، وفي الندوات البحثية، وحتى الشركات
ذات الصلة بالمنتجات التقنية..أما اللغة العربية فتقتصر
على دروس الدين، وتعليم القضاء الشرعي، وفي المساجد، وحلقات
الدروس الشرعية، والنحو الصرف والأدب..
صورة أخرى على التحوّل الاجتماعي يعكسه التطوّر العمراني،
والانتقال من البيوت الطينية الى البيوت المسلّحة. وقد
جاء في سيرة الشيخ عبد الرحمن بن قاسم جامع فتاوى شيخ
الاسلام ابن تيمية وهو من كبار علماء الدولة السعودية
الثالثة (1312 ـ 1392هـ) ومن ابرز تلامذته الشيخ عبد الله
بن جبرين:
(ومن شديد زهده، وكبير ورعه، أنه كان ينفر من البيوت
المسلّحة، ولا يدخلها، ويقول: هذه كبيوت الفراعنة!! حتى
إنه مرة كان يمشي بعد خروجه من المسجد مع الشيخ محمد بن
إبراهيم - وهو من هو في الورع والزهد ولما وصل بمعيته
إلى بيته الذي بناه أخيراً، رجع أدراجه!!)(11)..
الطريف في الأمر، انّ الشيخ نفسه ـ أي ابن قاسم ـ سافر
الى بعض الدول العربية والغربية، ولم ينكر السفر بالطائرة
أو السكن في فنادق مسلّحة، ويركب سيارات حديثة لم تكن
معهودة في تاريخ الاسلام الأول.
هل السينما حاجة أم حالة؟
في الشكل، السينما في السعودية لم تولد في 19 إبريل
2018، حيث كان أول عرض لفيلم سينمائي بصورة رسمية، وإنما
تعود الى ما قبل ثمانين سنة للوراء، أي في العام 1938،
وكان ذلك داخل ما يمكن تسميته بـ”المنطقة الخضراء” الخاضعة
لإدارة شركة أرامكو. وكانت الأفلام الاجنبية، والأميركية
على وجه الخصوص، تعرض في صالات خاصة لموظفي الشركة، ولا
سيما من المراتب العليا (Senior Staff and above). وكان
قصر الملك عبد العزيز يشتمل على سينما، كما ذكر نجله الامير
طلال بن عبد العزيز في برنامج (شاهد على العصر) في قناة
الجزيرة القطرية(12).
وفي العام 1950 تم افتتاح عدد من دور السينما في جدة
والطائف، ومنها سينما الششة، وسينما نادي الضباط، وسينما
أبو الروس، وسينما حي اليماني، وسينما عكاظ، وتم إغلاقها
جميعاً في العام 1976، فيما كانت دور العرض تعمل بلا انقطاع
في عدد من مناطق المملكة ولا سيما في الاندية الرياضية
والأدبية الى جانب عدد من السفارات. ومع انطلاق الموجة
السلفية في مطلع الثمانينات كرد فعل على الثورة الاسلامية
في ايران، أوقفت كل دور السينما باستثناء شركة أرامكو.
على أية حال، لم يكن حظر السينما في المملكة السعودية
معزولاً عن نظام الحظر المفروض على قائمة كبيرة من المناشط
الثقافية، والفنية، والاجتماعية، والدينية. وعليه، فإن
الحظر كان يعبّر عن حالة سياسية، أسبغ عليها رداءً ثقافياً
وجرى تسويغها إجتماعياً، وتبريرها دينياً.
إن الانخراط الجماعي الكثيف في عصر العولمة بكل ضروبها
أطاح مبررات الحظر على السينما، وكذلك على الكتاب، والصحيفة،
والمجلة، والقناة الفضائية، والاذاعة..فالتشويش والمنع
سمات مرحلة سالفة، لم تعد أدواتها متوافرة. فما تحظره
وزارة الاعلام من كتب بدعاوى مختلفة: خدش الحياء، والنيل
من المقدسات، والتحريض على ولاة الأمر يمكن الحصول عليها
عبر المكتبات الالكترونية المنتشرة على الشبكة العنكبوتية.
وينسحب ذلك على الصحيفة، والمجلة، والقناة، والاذاعة،
فبعد أن تعطّلت وظيفة التشويش، باتت وظيفة «الحجب» مجرد
محاولة أخرى فاشلة، فقد أوجدت الشركات المخدّمة على الشبكة
آليات تجاوز الحجب سواء عن طريق (proxy) أو توليد روابط
بديلة، أو معدّلة، أو مواقع مخصصة لها يمكن قراءة ومشاهدة
وسماع كل ماهو ممنوع. في نهاية المطاف، إن العولمة بكل
منتجاتها، ولا سيما التوصّلية والاتصالية منها وفي بعدها
الثقافي حصرياً، حطّمت احتكارية الدولة، وبات على الأخيرة
الاعتراف بالفشل أمام تسونامي الانترنت.
لقد وضعت العولمة في أبعادها التوصّلية والاتصالية
بمفاعليها الثقافية، والهوياتية، والاجتماعية، والاقتصادية،
والسياسية حدّاً فاصلاً لسجل الجدليات التقليدية القديمة
المعتصمة بثنائيات الأنا والآخر بمتوالياتها. الاكتساح
الكوني لثورة الانترنت ومنتوجات التكنولوجية الاتصالية
أزال خرائط ثقافية واجتماعية وفي طريقه نحو إزالة الخرائط
السياسية في كل أرجاء العالم.
إن ما ينعت بالمجتمع الشبكي المرتبط على مستوى كوني
بشبكات واسعة من التلفزيون الى الهواتف المحمولة الى جروبات
التواصل الاجتماعي عبر أجهزة الموبايل الى مواقع التواصل
الاجتماعي تويتر، وفيسبوك، وانستجرام، وسناب شات، وواتساب،
وتيليجرام..الخ؛ هو صورة المجتمع الذي تشكّل على نحو غير
قابل للمقاومة، إذ أن تأثير حياتنا الرقمية ينعكس في طريقة
تفكيرنا، وسلوكنا الفردي والجمعي، وأنماط عيشنا، وأنساق
علاقاتنا.
ان نعت “موت المسافة”، كما أسماها فرانسيس كيرنكروس،
هي أهم سمة في الثورة الاتصالية الحديثة، حيث أحالت الشبكة
العالم الى وحدة جغرافية صغيرة، وأصبح كل مكان قابل للوصول
افتراضياً في غضون ثوان. فالعالم الافتراضي بات أكثر حضوراً
من العالم الواقعي، وأصبح تعامل الناس مع الافتراضي أطول
زماناً من الواقعي.. حيث يمضي الأفراد ساعات أطول على
الافتراضي كما تؤكد الاحصائيات.
يجدر بنا التوقّف قليلاً عند كتاب كيرنكروس، بالرغم
من صدور طبعته الأولى في العام 1997، أي في بدايات انطلاقة
عصر الانترنت، ولكن لاتزال المقاربة المنهجية التي قدّمها
المؤلف صالحة لفهم التحوّل الكوني الذي كان العالم على
وشك أن يشهده، وكيف غيّرت ثورة الاتصالات حياة البشر عموماً،
وألغت عنصر المسافة في التواصل بين بني الإنسان. ربما
كان تحليل كيرنكروس استباقياً، كما مارشال ماكلوهان حين
صكّ مصطلح «القرية الكونية» في نهاية الستينيات، على أساس
الانتقال من عصر الطباعة الى العصر الالكتروني، إذ جاءت
توقعاتهما معاً أكثر واقعية من أي شيء آخر.
يلفت كيرنكروس الى أن هذا الإختراع، أي الانترنت، والذي
يكتسب شهرة عالمية هو الأكثر شيوعاً وغموضاً. في العام
1990 كان عدد قليل من الأكاديميين من سمع عن الانترنت.
وحتى في العام 1997، عندما افتتح الرئيس الفرنسي الأسبق
جاك شيراك مكتبة بلاده الوطنية الجديدة، وتم عرضها من
خلال «فأرة» الكمبيوتر، كان شيئاً مستغرباً. ولكن بحلول
العام 2000، كان لدى 385 مليون شخص حول العالم طريقة جديدة
للتواصل، ومصدر عالمي جديد.
ما لبث ان بدأت محرّكات البحث بالعمل على الشبكة العنكبوتية،
مثل فايرفوكس، وجوجل، واكسبلورر. وبدأ العالم بأسره يتهيأ
للإنتقال الى العالم الجديد: الأسواق المالية، والشركات
التجارية والصناعية، والإدارات الحكومية، والجامعات، والمكتبات،
وشركات الطيران، والقطارات، والفنادق، والنوادي الرياضية،
ومحلات التجزئة، والمطاعم، وأدوات التسليّة.
في حقيقة الأمر، كل شيء في واقعنا الفعلي حجز مكاناً
له على الشبكة. في النتائج، أصبح الإنترنت نموذجاً أوّلياً
وأرضية لاختبار مستقبل الاتصالات، كما يقول كيرنكروس،
في وقت لا تزال فيه أجهزة الهاتف المحمول في بداية انطلاقتها،
ولم يشهد العالم بعد تطبيقات التواصل الاجتماعي على الشبكة
والهواتف المحمولة، ولكنّ الانترنت كان بحق المنصّة التي
انطلقت منها شركات الاتصال على مستوى العالم(13).
حتى الوقت القريب، استفاد العالم من امكانيات الإتّصال
الهاتفي عبر برامج المحادثات في هوتميل وياهو، وسكايب،
وبال توك وغيرها، وكيف وفّرت الشبكة خدمة المشاهدة التلفزيونية.
بمعنى آخر، نجحت شبكة الانترنت في إطلاق مروحة واسعة ولامحدودة
من الخدمات بما جعلها عالماً قائماً بذاته، بل وبديلاً
عن العالم الواقعي.
وهذا يؤكّد مفهوم «موت المسافة»، إذ لا معلومة في أي
نقطة من العالم محكومة لمسافة، فهي تصل الى كل مكان في
غضون «زمن صفري»، فحتى مفهوم الزمن تبدّل جوهرياً، فلم
يعد هو زمن نيوتن التقليدي، ولا زمن اينشتاين النسبي،
أما الزمن الصفري، من منظور محض بشري، هو الذي تتساوى
فيه البداية والنهاية.
في عصر الانترنت، تنتقل المعلومات آنيّاً بموت الزمن
والمسافة معاً. في بدايات انبثاق عصر الانترنت، كان السؤال،
وربما لا يزال وسوف يبقى لبعض الوقت، يحوم حول مصادر المعلومات
وأثمانها. ومن المعلوم أن منتجات عصر الانترنت بكل توابعها
هي أميركية بامتياز، الذي جعل احتكار مصادر تدفق المعرفة
ممكناً. فثمة سلطة تستوطن دولة ما هي المسؤولة عن تقديم
الخدمات، وهي بالتأكيد التي تقبض أثمانها.
ولذلك، فإن الصبغة الأميركية على عصر الانترنت بكامل
حمولته ينطوي على مخاطر جمّة ثقافية، وهوياتية، واقتصادية،
واجتماعية. لقد نجحت بعض الدول في كسر الاحتكار الاميركي
للانترنت عن طريق نصب شبكات محلية تقوم بعملية "غربلة"
(filterization) لما يتدفق من الخارج، فيما سعت دول أخرى
مثل روسيا، والصين، والهند الى المشاركة في اختراع برامج
وتطبيقات وأجهزة إتّصالية وتوصّلية خاصة بها من أجل كسر
سلطة تقديم الخدمات. وهذا من شأنه أن يفتح باب التنافس
بين عدد كبير من الأطراف، يحسّن من جودة الخدمات ويقلّل
من أسعارها.
في مطلع الألفية الجديدة، كان عدد مستخدمي الانترنت
في حدود 350 مليون شخصاً، أكثر من نصفهم من خارج الولايات
المتحدة، ولكن الوضع تبدّل دراماتيكياً حيث ارتفع عدد
مستخدمي الانترنت في العام 2005 من 1.024 مليار الى 3.57
مليار مستخدماً في العام 2017(14). وتحتل الصين المرتبة
الأولى في عدد مستخدمي الانترنت بواقع 746 مليون مستخدماً،
تليها الهند بواقع 391 مليون ثم الولايات المتحدة 245
مليون(15).
إن أهم دلالة لمثل هذا التحوّل الهائل في المجتمعات
البشرية خلال القرن العشرين هي وضعه إياها على عتبة قرن
آخر جديد يحمل تباشير انتقالات خاطفة، بعد أن حطّمت الحدود
الجغرافية، والثقافية، والحضارية، وألغت الخصوصية الهوياتية
بتظهيراتها الاجتماعية، والتاريخية، والفكرية، وباتت الكونيّة
هي السمّة المشتركة بين بني الإنسان.
كانت القرية نافذة على العالم فتحوّل العالم الى قريّة،
بفعل «موت المسافة». هذا الانتقال الفجائي الذي لم يستغرق
سوى سنوات محدودة بدّل عالماً مضى على قوانينه عقوداً
وربما قروناً.. فقد تزعزعت الرؤى، وشبكات العلاقات، وحقل
اليقينيات، وخضع كل شيء لامتحان الجدارة والصلاحية، أفكار
تولد وتتناسل وتنتشر، وأخرى تندثر وتتوارى.
مجتمعات تتباعد مع القريب وتتقارب مع البعيد، وأصبح
للتواصل الاجتماعي معنى آخر غير الذي كان يعني الزيارات
العائلية، والمجالس الخاصة، والديوانيات، فقد بتنا أمام
أشكال جديدة من التواصل على العالم الافتراضي بين أناس
لم يلتقوا قط في الواقع، ولكنهم نسجوا روابط وثيقة، بل
ثمة قصص عشق كانت الشبكة العنكبوتية هي عشّها الأول قبل
أن تنتقل الى الواقع..
المصادر
1ـ أنظر: الجوهرة ابراهيم الرويس، هجرة الغطغط في عهد
الملك عبد العزيز، دار جداول للنشر والتوزيع والترجمة،
الرياض، 2017. وأيضاً: حركة الاخوان من البداية الى النهاية،
أنظر:
http://www.tabarjalcity.com/vb/showthread.php?t=423602ـ
للمزيد أنظر: حمزة الحسن، الشيعة
في المملكة العربية السعودية، دار الساقي بيروت، الطبعة
الثانية 2012، الجزء الثاني، ص ص 259ـ 297
3- Annual Semiconductor Sales
Increase 21.6 Percent, Top $400 Billion for First Time,
ISA, 5 Feb, 2018;
https://goo.gl/53RBLU
4ـ «حمار إبليس» تتغطى عنه النساء
ويتعوذ منه الرجال، صحيفة (الرياض)، 4 أكتوبر 2008، أنظر:
http://www.alriyadh.com/378386
5ـ 422 مليون ريال واردات السعودية
من الدراجات النارية والهوائية في عامين، صحيفة (الاقتصادية)،
26 يناير 2018، أنظر:
http://www.aleqt.com/2018/01/25/article_1321091.html
6- http://web.archive.org/web/20180715181635/
https://www.cia.gov/library/publications/the-world-factbook/rankorder/2151rank.html
http://web.archive.org/web/20180821212012/https://www.cia.gov/library/publications/the-world-factbook/geos/sa.html
https://www.statista.com/statistics/494616/smartphone-users-in-saudi-arabia/
7- Haya Alshehri and Farid Meziane,
Current State of Internet Growth and Usage in Saudi
Arabia and Its Ability to Support Ecommerce Development,
Journal of Advanced Management Science Vol. 5, No. 2,
March 2017;
http://www.joams.com/uploadfile/2017/0510/20170510052302213.pdf
8 - https://freedomhouse.org/report/freedom-net/2017/saudi-arabia
9 ـ د. فهد بن عبد العزيز الغفيلي، التغير الاجتماعي..مظاهر
التغير في المجتمع السعودي (المظاهر المادية والثقافية)،
دار المجدد للنشر والتوزيع، الطبعة الاولى 2012، ص 59
10ـ أنظر د. إياس بن سمير الهاجري، تاريخ الانترنت
في المملكة العربية السعودية، الرياض، 1425 (2004
11ـ د. بوسف بن أحمد القاسم، ابن قاسم: الفلاّح الزاهد
والفقيه والمؤرخ، مقالة منشورة في ملتقى أهل التفسير،
بتاريخ 7 مايو 2008، أنظر الرابط:
https://vb.tafsir.net/tafsir12038/#.W1echvZuJjo
12- https://goo.gl/b1yMTp
13- https://www.princeton.edu/~artspol/workpap/WP17%20-%20DiMaggio,%20Hargittai,%20Neuman,%20Robinson.pdf
14- Cairncross, F. (1997) The
Death of Distance: Harvard Business School Press, Massachusetts,
United States
15- https://www.statista.com/statistics/273018/number-of-internet-users-worldwide/
https://www.worldatlas.com/articles/the-20-countries-with-the-most-internet-users.html
|