دولة المنشار!
رحل خاشقجي شهيداً.
نشره محمد بن سلمان بالمنشار، وقطّعه إرباً إرباً،
وأخفى جثته، وربما أُهديَ له رأسه في الرياض.
لكن رحيل الخاشقجي لم يكن بلا ثمن، كما حدث لمئات بل
لآلاف الأشخاص الذين غيّبهم النظام السعودي المجرم.
لقد فضح دم خاشقجي آل سعود، وكشف سوءتهم، وأبان للعالم
همجيتهم ودعشنتهم، وهبوط قيمهم، ومزاعم انسانيتهم، وانحطاط
سلوكهم، وضعضع قوائم ملكهم قبل أن تأتي نهايتهم.
الدم البريء لم يفضح محمد بن سلمان وحده، بل فضح أجهزة
الدولة السعودية كافة، وخاصة مباحثها ومخابراتها، فضلاً
عن إعلامها ووزارة خارجيتها، ونيابتها العامّة.
وفضح الدم البريء، العائلة المالكة نفسها، التي لا
تتحمل صوتاً من داخل نظامها، وسلّط الضوء على تاريخ الملوك
السابقين وجرائمهم أيضاً.
ودم الخاشقجي لم يذهب هدراً، بالنظر ايضاً الى حقيقة
أن مقتله مثّل حماية لبقية المعارضين الفارّين من جحيم
الحكم السعودي. فعلى الأرجح لن يُقدم النظام ـ على الأقل
في الوقت الحالي ـ على التعرّض للمعارضين بالقتل أو الخطف.
سيكون انكشاف مقتل الخاشقجي بالطريقة البشعة التي يعلمها
العالم، كابحاً ـ ولو مؤقتاً ـ للمنشار كي يكفّ عن بعض
جرائمه.
ومن جانب ثان، فإن اللاجئين السياسيين المُسعودين في
الخارج، الذين لم يُبتّ في قضاياهم ـ بحجة انهم غير معرّضين
للخطر في وطنهم ـ هؤلاء قد يسرّع دم خاشقجي في حلحلة مسائل
قبول لجوئهم، فقد تمّ وصم النظام السعودي بالإجرام والدموية،
تجاه معارضيه في الخارج، فكيف سيكون حالهم بالداخل؟ وستبقى
وصمة الدموية والعنف والتسلطية تلاحق ابن سلمان ونظام
آل سعود لسنوات طويلة قادمة.
وسيُلقي دم خاشقجي بظلاله الإيجابية على المعتقلين
بنحو أو بآخر، فقد يتم اطلاق سراح بعضهم أو كثير منهم،
وقد تتوقّف أحكام الإعدام ـ ولو مؤقتاً؛ وقد يضطّر النظام
ـ حسب تطور أزمته ـ الى القيام بإصلاحات شكليّة على الصعيد
السياسي، وربما فُكّ الخناق الشديد ـ ولو قليلاً ـ عن
حرية التعبير للصحفيين المحليين.
ولأنّ جرائم آل سعود لا تنحصر في الداخل، فمن المرجّح
ان يضعف دم خاشقجي السيف السعودي المصلت على رقاب اليمنيين
الذين يعانون من الحصار والتجويع وقصف القنابل. من يدري،
فقد يكون من نتائج جريمة آل سعود: إيقاف الحرب العدوانية
على اليمن، وفكّ الحصار عن قطر، وتوقّف التهديدات بالغزو
لسلطنة عمان والكويت.
يمثل مقتل خاشقجي منعطفاً جديداً وحاداً في تاريخ الحكم
السعودي. فخلال العقود الثلاثة الماضية، مرّت مملكة آل
سعود بثلاثة منعطفات حادّة، كان مقتل خاشقجي آخرها وأخطرها.
وقد سبقها منعطف تفجيرات سبتمبر في نيويورك وواشنطن في ٢٠٠١،
ومشاركة ١٥ سعوديا فيها؛ وكذلك الغزو العراقي
للكويت في ١٩٩١.
واذا كانت الرياض قد نجت من تداعيات أزمة احتلال الكويت
واستقدام القوات الأمريكية، عبر قمع الصحويين و»ثورة بريدة»،
وعبر وضع نظام أساسي (تافه) للحكم؛ وتأسيسي مجلس شورى
مُعيّن صوري. فإن تداعيات ٩/١١ لازالت
باقية الى اليوم، وأخطرها قانون جاستا المتطاول كالسيف
(الأملح!) على رقبة آل سعود.
فضيحة جريمة مقتل خاشقجي، هي الأقسى فيما يبدو، والأكثر
خطراً على النظام السعودي، وقد جاءت في وقت تفككت فيه
العائلة المالكة، وانفض التيار الوهابي (في قسم كبير منه)
عن آل سعود، وفي وقت يخوض فيه الأخيرون معارك فاشلة متعددة
على الصعيد الإقليمي، ومعارك قمع داخلية وضغط في المعيشة،
وتناقص في المشروعية.
جريمة مقتل خاشقجي، ودمويتها، وآثارها المستقبلية على
الداخل السعودي، وعلى النظام السعودي نفسه، جعلتنا ـ في
مجلة الحجاز ـ أن نفرد هذا العدد عنها، وهو أمرٌ لم يحدث
(تجاه أي موضوع) منذ انطلاق المجلة قبل ستة عشر عاماً.
وتشاء الأقدار، أن هذا العدد من المجلة، هو آخر عدد
مكمل للعام السادس عشر من المجلة، وهو أيضاً آخر عدد يتم
إصداره، وها نحن نودّع جمهور (الحجاز) بعد أن أدّت غرضها
ودورها، وكانت صوتاً حين لم يكن هنالك من صوت. على أمل
نصر قريب على الديكتاتورية السعودية الوهابية الى الأبد.
|