الدولة المتصدّعة
تحقق الدولة صيرورتها وتماسكها من خلال أربعة عوامل:
ـ الخصائص الكاريزمية للحاكم: إن ظهور شخص يحوز على
خصائص فريدة ومؤهلات شخصية متميزة، ويأتي على صهوة منجز
ما سياسي/ تاريخي كما حصل لكاسترو كوبا، وماو الصين، وخميني
ايران وغيرهم، يحقق هدفين هما: وجود الدولة واستقرارها..
فهؤلاء الى جانب كونهم أنجزوا بنجاح مشروع الدولة عبر
ثورات شعبية، فأصبحوا قادة ثورات تاريخية فإنهم تحوّلوا
الى رموز شعبيين، بحيث أضفت الكاريزما معانيها الخاصة
على الوعي الشعبي، فجعلت استقرار الدولة، وتماسكها ومشروعيتها
ووحدتها مرتهناً بشخص القائد، المؤسس، والزعيم التاريخي..
ولذلك، قد يبطىء أو يوقف القائد الكاريزمي تقدّم الدولة
وتطوّرها الاقتصادي والسياسي والفكري ولكن يظل الاحساس
بالمشكلة كامناً وفي الغالب محاصراً في طبقة معينة وصغيرة،
لأن القيادات الكاريزمية قادرة على اخماد الاحساس بالحاجة
الى التغيير بصورة شاملة وفي الوقت نفسه قادرة على توفير
القدر الضروري من الاستقرار الداخلي في الدولة.
ـ جدارة الحاكم والجهاز الاداري للدولة: وخصوصاً في
مجالي تأمين الاحتياجات الضرورية للحياة وحفظ الامن. وفي
الغالب يرتبط وصول ذوي والكفاءات والخبرات الى سدة الحكم
بالعملية الديمقراطية، كآلية ليست لتنظيم تداول السلطة
فحسب، بل وكنظام لاصطفاء ذوي الكفاءات المتميزة والخبرات
من خلال عمليات التنافس التي تدور على مستوى ضيق كما يجري
داخل الاحزاب حيث تتيح المنافسة الداخلية بروز ذوي الطاقات
الخلاّقة، وعلى مستوى وطني من خلال الحملات الانتخابية
وعرض البرامج السياسية للمرشحين أمام الناخبين..
ـ القوة القاهرة: إن تجارب الاستبداد الشرقي بخاصة
تقدّم أدلة فائضة على دور الأمير المتغلّب في تحقيق شروط
الاستقرار، ولذلك كانت إمارات الاستيلاء تمثل البؤر المستقرة
في المحيط المضطرب. والسبب في ذلك يعود الى أن الحكم السياسي
في تاريخ المشرقيين لم يتأسس قانونياً بل كان على الدوام
لصيق الصلة بشخصية الحاكم فهو يضفي عليه شكلاً محدداً،
ويرسم له السياسات، ويحدد له الاهداف، وفي الأخير يكون
استقرار السلطة مرهوناً بحياة الحاكم.. وقد غالى أحد المفكرّين
الاسلاميين المعاصرين في توصيف الدولة الاسلامية فقال
بأنها الحاكم.. الذي تكون فيها (ارادته قانون) فلا يعلو
أحد جبلاً ولا يهبط وادياً الا بأمره، فهو يسيّر دفة البلاد
وأحوال العباد ويملي عليهم الطريق التي يجب أن يسلكها
الناس، اقتفاءً لعقيدة فرعون في قومه (وما أريكم الا ما
أرى وما أهديكم الا سبيل الرشاد).
ولاشك في أن الديكتاتوريات في العالم عموماً حققت في
ظاهرها درجة متقدمة من الاستقرار الداخلي قد يفوق أحياناً
الاستقرار في الدول الديمقراطية، ولكن مع فارق أن الاستقرار
في الدول الديكتاتورية ليس ناشئاً عن قناعات فكرية او
سياسية ولا تنطوي على ضمانات بالاستمرار بل هي متوقفة
بدرجة أساسية على تأثير القوة وجوداً وعدماً أو انخفاضاً
وزيادة.
ـ التنمية الاقتصادية: غالباً ما يقارن الاستقرار الداخلي
للدول بالاوضاع المعيشية للأفراد، بحيث تؤجل او تخمد الحاجة
الى الحقوق السياسية التي يصاحبها غالباً أوضاع مضطربة
وحالات شغب.. إن الاحوال الاقتصادية تضفي ظلالها على الاوضاع
العامة للدول، فكلما تحسّنت الاحوال المعيشية للافراد
كلما نزعوا الى المحافظة على النظام بصرف النظر عن شكله
ديمقراطياً او شمولياً طالما كفل استقرار احوال عيشهم،
وهذا ما يخفّض أهمية الملاحظات الناقدة لسيرة النظام السياسي،
بفعل ما يوفّره من تعويضات مادية قابلة للتوظيف لخدمة
استقرار السلطة والدولة معا.
عوامل الاستقرار هذه بصورة منفردة تصلح كأدوات تفسير
لطبيعة الانظمة السياسية في العالم، وفي الوقت نفسه لاستشراف
الآفاق المستقبلية لكل دولة.. وبطبيعة الحال، فإن عامل
استقرار ما قد لا يكون حتمياً وأبديّاً وإنما يتم استبداله
بعامل آخر حين يلتغي تأثير العامل الأولي، فقد لحظنا بأن
رحيل الزعماء التاريخيين أو القيادات الكاريزمية يعقبه
تبدّل في سياسات الدولة، بحيث تتطلب من الحكومات التي
ترث حقبة الزعيم الكاريزمي إحداث اصلاحات جوهرية من أجل
الحفاظ على الكيان ووحدته، ولذلك لم يكن مصادفة ان يتفق
كثير من الباحثين والمراقبين على ان الدولة تكون عرضة
للتفكك والانهيار عقب موت زعيمها التاريخي وقائدها المؤسس،
الامر الذي يفرض إحداث عمليات جراحية معقّدة في جسد الدولة.
ولذلك نرى بأن برامج اصلاحية انطلقت في عدد من البلدان
التي غاب عنها الزعيم التاريخي كما حصل في مصر عبد الناصر،
وايران الخميني، والسعودية عبد العزيز. ونرى ايضاً وبنفس
القدر فإن تدهور الاحوال المعيشية في بلد ما قد تطلب تنازلاً
في المضمار السياسي من أجل امتصاص التوترات الاجتماعية
والسياسية المحتملة.. وهكذا.
بتطبيق ما سبق على الدولة السعودية نلحظ بأن عوامل
الاستقرار الداخلي تضاءلت كماً ونوعاً، وقد حصل ذلك في
غضون العقود الثمانية الماضية من عمر الدولة. وباستثناء
عامل الجدارة المنبثقة من العملية الديمقراطية، فإن العوامل
الثلاثة الأخرى للاستقرار إما تلاشت كلياً أو فقدت قدراً
كبيراً من تأثيرها.. فالقيادة الكاريزمية الممثلة في عبد
العزيز قد رحلت منذ نوفمبر عام 1953، وبالتالي فنحن نتحدث
عن عاملين محددين: التنمية الاقتصادية والقوة القاهرة.
وليس خافياً بأن النمو الاقتصادي منذ السبعينيات لعب دوراً
فاعلاً في استقرار الاوضاع السياسية الداخلية.. ولكن هذا
العامل بدأ بالتصدّع التدريجي منذ منتصف الثمانينات أي
مع فقدان الدولة القدرة على توفير الحدود المتوسطة من
المتطلبات المعيشية للسكان، ثم جاء ارتفاع معدلات البطالة
بوتيرة عالية، وانعطاب مشاريع التنمية ونظام الرعاية والخدمات
العامة، والتي اصابت ما يتراوح بين 60 ـ 70 بالمئة من
الشباب الذين تتراوح اعمارهم بين 15 ـ 25 عاماً، وبالتالي
شكّل هؤلاء الفجوة الهائلة في جدار الاستقرار الداخلي
للدولة.
أما عامل القوة القاهرة فقد أثبتت الاحداث التي جرت
خلال العامين الماضيين بأن هيبة الدولة قد تهدمت ولم تعد
تملك من إدوات الردع ما يحقق الاستقرار أو يكف يد المتمردين
عليها، بل صار مسلسل الهجمات الصغيرة والكبيرة الحجم اعتيادياً
ومألوفاً، وقد إستهدفت إحداها مراكز العصب الامني في الدولة..
بكلمات خاتمة إن عوامل استقرار الدولة السعودية باتت هزيلة
وأنها في طريقها للاضمحلال، وأن قدرتها على إبداع عوامل
جديدة بات في حكم المستحيل لعدم إمكانية ذلك.
|