أئمة المساجد يرفضون القنوت والدعاء على الإرهابيين
في شرعية العنف وشرعية الدولة
يطرح موضوع العنف في المملكة وتصاعده موضوع شرعية الدولة
على المحك.
فوجود العنف في ذاته دليل على ضعف الشرعية، كما هو
عنف السلطة وتصاعده دليل على أن أدواتها الإقناعية (الشرعية)
لم تعد كافية أو أصابها العطل. وحين ينتشر العنف في المملكة
وينطلق من بيئة النظام ويتزود بحمولة شرعية من ثقافة مشتركة
اجتماعية ودينية/ وهابية، فإن المسألة تتعدّى شرعية النظام
الى الوسائل المشرعنة ذاتها. فالوهابية لم تعد توفر الشرعية
المريحة للنظام، بل هي الآن توفر الشرعية والمظلّة الآمنة
لدعاة العنف. إن تنازع الشرعية على أساس عقدي مشترك، يؤكد
الحاجة الماسة الى البحث العميق عن مصادر أخرى لشرعية
النظام السعودي.
فإذا كانت الأيديولوجيا الوهابية غير قادرة على إعادة
انتاج نفسها، بحيث تفي ـ ولو في المحيط النجدي الوهابي
كما كانت دائماً ـ بغرض السلطة السعودية الأساس، إذن فما
هي الحاجة اليها اليوم؟ ما هي الحاجة الى أيديولوجيا توفر
النقيض للنظام وتحرّض عليه أو تتبنّى كل ما يتناقض مع
سياساته؟ ويتساءل البعض: لماذا يسمّن النظام الوحش الوهابي
لكي يقوم الأخير بافتراس من رعاه وربّاه؟
بالطبع فإن هذا المنطق غير كافٍ لتوصيف العلاقة بين
الوهابية وآل سعود، وليست المبرر الكافي للفكاك منها.
فزعماء الوهابية الصغار والكبار يعتقدون ـ عن حق أو باطل
ـ بأن فضلهم (سابق) على الحكومة وآل سعود. فهم وعقيدتهم
من صنع مجد آل سعود ودولتهم، فهم من (فتح) ومن (غزا) ديار
الشرك المجاورة، وهم من (جاهد) ومن (استشهد) وهم من (أخضع)
المخالفين و(كسر شوكتهم). هم من حمى النظام وجعله في نظر
العامة ممثلاً للإسلام، وهم من أخفى خطاياه وأخطاءه، وهم
من أدار له الدولة. لهذا يقولون بأن الدولة قامت على (عقيدة
التوحيد) ويقصدون بذلك الوهابية، ويضيفون بأن لا قيام
للنظام ولا استمرار إلا بها، وفي هذا تحذير لآل سعود بأن
لا يفكروا ـ مجرد تفكير ـ في تغيير أيديولوجيا الدولة
(الوهابية) او اختيار ايديولوجيا أخرى مرقّعة.
في الطرف الآخر، يقول آل سعود، بأنهم هم من أعطى الوهابية
الأسنان وهم من نشرها بعد أن كانت مجرد نواة، وهم من حماها
ونفخ فيها من ماله وسلطانه حتى جعلها تغزو الآفاق، وهم
من منح رجالها السلطة والمكنة والمكانة والهيبة ليكون
لهم شأن، وأنه لا قيام للوهابية بدون النظام والدولة السعودية،
وإن من يعترض عليهما أو يسعى لإضعافهما بالعنف أو بحجب
الشرعية فإنما يضعف نفسه ومكانته.
وفي الحقيقة فإن حجة كل واحد من الطرفين صحيحة، فهما
توأمان سياميان، قد لا يستطيع أحدهما العيش بدون الآخر،
مع أن احتمال نجاة النظام وآل سعود بدون الوهابية تبدو
اليوم أكثر حظاً من نجاة الوهابية بدون آل سعود. ولكن
كلا الطرفين ـ مهما بالغا في التهديد ـ يدركان أن لا غنى
لأحدهما عن الآخر، ولا يسعى أحدهما للإنفكاك خشية على
المكاسب الدينية او السياسية او المادية والمعنوية المتوفرة
في ذات اليد.
إذن، والحال هذه، كيف تستطيع العائلة المالكة تفادي
النقص في شرعيتها بين جمهورها الوهابي ـ النجدي على الخصوص؟
المشكلة لم تكن في شحّة الفتاوى الداعمة للنظام ورموزه
والتأكيد على الولاء له. في هذه الناحية لم يتغير شيء،
فكبار العلماء، وكبار رجال المؤسسة الدينية الرسمية، وكبار
المنتفعين في مؤسسات الدولة التعليمية والقضائية وغيرها
من السلفيين، لم ينقضوا عهدهم مع النظام، وهم ـ وإن وجد
بينهم من لا يعترف بالنظام ـ فإنهم لا يبوحون بذلك للعامة،
ورغم اعتراضاتهم الشديدة على بعض السياسات يدركون ان المصلحة
العامة (مصلحة نجد المذهب والزعامة السياسية) تقضي بالتزام
جانب السلطة. ولهذا، فإن بعض الغضب الذي يظهر من مشايخ
السلطة ومن النخبة المتعلمة النجدية على التيار السلفي
الوهابي العنفي، ليس قائماً على المجادلة بشأن النص الديني،
ولا على أن النظام منحرف وفاسد، وإنما على قاعدة المصالح
والمفاسد. فهم يرون أن العنف يطيح بإنجازات الوهابية ونجد،
إنها فتنة داخل الدار النجدية، والعنف وإن كان نتيجة لفساد
النظام، إلا أنهم يرون بأن البقاء معه ومساندته يحفظ القدر
الأكبر من مصالح النخبة المتسلطة على زمام الدولة منذ
نشأتها.
الشرعية الرسمية متوفرة ومبذولة من قبل رجال الوهابية
الكبار لآل سعود، كما كانت دوماً.
لكن هذا البذل الذي صار مبتسراً سهلاً وفي كل ظرف،
لم يعد كافياً لإخماد صوت الشارع الوهابي النجدي المعارض.
الذي تغيّر هو النظام، أما المؤسسة الدينية فهي لم تتغير،
اللهم إلا أن يقال بأن الفكر الوهابي يشجع على الخروج
على الدولة ويحرض على العنف. الذي تغير هو سياسات النظام،
وربما يكون الأصح القول، هو أن سياسات النظام ثبت بطلانها
بعد انكشافها، سواء ما يتعلق بقضايا الأمة أو بالقضايا
الداخلية الإجتماعية والإقتصادية.
وهنا أصبحت شرعية الوهابية غير فاعلة في محيطها النجدي
والمذهبي، لأن النجاح يرتبط بمدى قدرتها على توفير رضا
العامة بدون استخدام العنف والعصا، أو لنقل باستخدام قليل
منه فحسب. ولهذا، فإن النظام لم يكن أمامه إلا التوسع
في استخدام العنف، بدون مظلّة دينية، وإن كان في كثير
من الاحيان برضا شعبي ـ غير نجدي وغير وهابي ـ إذ يريد
الوهابيون حلاً سلمياً (مشروع الحوالي والعواجي للوساطة)
يعطي الإنطباع بأن الطرفين يقفان على قدر متساوٍ من الشرعية
الدينية، فهذا يحق له المعارضة واستخدام العنف لإصلاح
ما يرونه في بنية الدولة (الدينية بنظرهم)، وذاك يحق له
تأطير المعارضة في بعدها السلمي.
زيادة استخدام العنف من قبل اجهزة الأمن لم تكن ـ للحق
كبيرة ـ وإن تألم بعض السلفيين من تلك الأجهزة. فالحكومة
حريصة جداً على عدم توسيع رقعة المواجهة لأنه يخلق استياءً
عاماً بين الوهابيين ويزيد المنتسبين والمتعاطفين مع دعاة
العنف، ولو أن جهات أخرى غير الوهابيين قامت بما قام به
هؤلاء لكانت إجابة النظام الأمنية مختلفة وشرسة الى أبعد
الحدود. وقد صرح الأمير تركي الفيصل، السفير السعودي في
بريطانيا، بما يفيد أن بلاده واعية لما يعنيه اتخاذ اجراءات
مشددة قد تزيد من حالة الصدام بين الشعب وأجهزة الأمن.
الوهابية في وضعها الحالي توفر قدراً متناسباً من الشرعية
للنظام ولمعارضيه الإرهابيين على حد سواء. فهي تمنحها
بقدر لآل سعود في المواجهة دونما تصعيد، وتمنحها بقدر
آخر للمعارضين الوهابيين ضمن حدود درأ الخطر (عن جزيرة
العرب) وبدون أن يصل الأمر الى المدنيين إلا اضطراراً.
وهنا تكمن خطورة الشرعية الدينية الوهابية في وضعها الحالي.
المعتقد الديني يستطيع شرعنة النظام ـ أي نظام ـ ولكن
الى حين. فالإسلام قابل أن يُستغل من قبل السلطات، طالما
طرف الشرعية الآخر، وهو الشعب، يقبل بذلك أو يعتقد بذلك.
ولكن حين تظهر معارضة على أسس دينية، فإن الشرعية تنقلب
الى النقيض، فيوضع الطرفان محل الإختبار، حيث يقوم كل
طرف بكشف خروقات نقيضه الدينية، ويطرح المعارضون أنفسهم
بديلاً شرعياً وأميناً للوضع القائم. هذا ما حدث ويحدث
في المملكة. فالشرعية الدينية القائمة على التفسير الوهابي
لم تعد محتكرة في التيار الديني الرسمي الداعم لسلطة آل
سعود، إذ ظهرت بإزائها شرعية تقويضية أخرى تمنح الطرف
المعارض غطاءً لأعماله.
انه صراع على تمثيل المجتمع الديني النجدي، يراقبه
المواطنون. فالأكثرية غير النجدية، وغير الوهابية، ترى
أن الطرفين العنفي والرسمي، لا يمثلان الإسلام، كما لا
يمثلان أكثرية الشعب. وبين المجتمع النجدي، هناك انشقاق،
قسم مع النظام والمشايخ الرسميين، وقسم مناقض لهم ويؤيد
الأفعال العنفية ضد النظام السعودي. كيف تتغير المعادلة؟
إن ذلك مرهون بسير المعركة وأداء الحكومة. فالطرف الذي
يرتكب الأخطاء أكثر، بنظر النجديين الوهابيين، سيفقد رصيده.
ومن المرجح أن يخسر النظام معركة (الشرعية) مع خصومه،
لأنه الأكثر ارتكاباً للأخطاء، ولأنه الأضعف أداءً باعتباره
ممسكاً بجهاز الدولة ويتحمل مسؤولية العطب والعطل والفساد
فيها.
تجربة نادرة
اعتاد الوهابيون المسيطرون على كل المساجد تقريباً
في المملكة، أن يؤدوا القنوت في الصلوات الجهرية، داعين
على الأميركيين والصهاينة وأعداء الإسلام، ومنتصرين للمسلمين
في الشيشان وأفغانستان والعراق وفلسطين وغيرها. وأحياناً
يجري الدعاء على الشيعة والصوفية وعلى اليهود والنصارى
بأن يخسف الله بهم الأرض، ويهلك حرثهم ونسلهم ويبددهم.
كان كل ذلك يعتبر مظاهرة سياسية، تحمل قدراً من الإحتجاج
على فشل الأنظمة وبينها النظام السعودي. لكن الأخير اعتبر
الأمر تحريضاً على العنف، أو تجييشاً للشعور الشعبي الذي
يحطّ بمكانة النظام غير القادر على تلبية التطلعات الشعبية
في الدفاع عن الأمة وحقوقها المنتهكة.
مع تزايد الهجمات على الغربيين مؤخراً، أرادت وزارة
الداخلية أن تحشد الشارع الديني ضد المهاجمين ليس عبر
الإعلام فحسب، بل عبر المساجد أيضاً. وهذا ما دعاها الى
الطلب في تعميم ـ عبر وزارة الشؤون الإسلامية ـ الطلب
من أئمة المساجد بأن يقوموا بالقنوت داعين الله أن يهلك
الفئة الباغية الخارجة عن الدين.
نموذج نص التعميم يقول التالي:
بسم الله الرحمن الرحيم
الرقم / 4340/19/2/ص
التاريخ / 14/4/1425هـ المشفوعات /
فوري ويبلغ اليوم 14/4/1425هـ
تعميم رقم 60/19/2/ض/في 14/4/1425هـ
الموضوع / إبلاغ الأئمة بالقنوت لنازلة (الفئة الضالة)
في الصلوات الجهرية حسب السنة النبوية
إلى أصحاب السعادة مدير شؤون المساجد في الفرع ومديري
الإدارات والمكاتب في المحافظات والمراكز وأئمة وخطباء
الجوامع وفقهم الله سعادة /
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد
فأسأل الله لنا ولكم المزيد من عونه وتوفيقه
بناء على توجيه معالي الوزير ـ حفظه الله ـ المؤرخ
في 13/4/1425هـ الوارد بالنص الآتي: ( فقد أشَرِ شُّر
الفئة الضالة وتكررت أعمالها التي أجمع العلماء على أنها
فتنة وفساد عريض، ونالوا من الأرواح المعصومة وأشاعوا
الخوف، وصارت هذه نازلة عظيمة نزلت بهذه البلاد- حرسها
الله – ولما شرع الله من قنوت النوازل وفق مقتضياته وشروطه
الشرعية، ورغبة إلى الله في ان يرفع هذا البلاء ويمكن
من القضاء على هذه الفئة فإني ارغب إليكم إبلاغ جميع الأئمة
والخطباء بالقنوت لهذه النازلة في بلادنا في الصلاة الجهرية
حسب السنة النبوية، والإلحاح في الدعاء بما يناسب ذلك
وفق الله الجميع لما فيه رضاه).
انتهى توجيه معاليه، والفرع يؤكد على جميع أئمة وخطباء
المساجد والجوامع في مدينة الرياض والمحافظات والمراكز
اعتماد العمل به – وإنفاذه – متمنياً لكم التوفيق والسداد.
والسلام عليكم ورحمة الله
وبركاته
المدير العام لفرع الوزارة
بمنطقة الرياض
ما يقرب من أربعين ألف إمام مسجد وجامع، تلقوا أوامر
بالقنوت ضد القاعدة وأتباعها ممن يسمون أنفسهم أحياناً
بأتباع السلفية الجهادية، وقد وقعوا على استلام التعميم.
لكن المفاجأة كانت كبيرة وخطيرة في آن. فقد امتنع معظم
أئمة المساجد عن (القنوت) إما تحدّياً أو بالغياب بعذر
المرض وغيره، والقليل منهم من تطرق بخجل وباستحياء وبعمومية
مفرطة الى (الفتنة) الذي سأل بعضهم الله أن يكفي المسلمين
شرّها.
لم يتحدثوا عن القاعدة بالإسم ولا عن ابن لادن ولا
عن غيره، ولا حددوا من المعني بالقنوت.
لقد كان القنوت يجري بصورة غير رسمية وبدون إذن وزارة
الشؤون الإسلامية، أما وقد تدخلت لصالح الحكومة وبصورة
علنية فجّة إملائية، فقد رفض الخطباء ذلك. فهناك احتجاج
حول الطريقة، وهناك احتجاج لأن الحكومة فقدت شرعيتها الدينية
وتحولت الى غيرها ممن يمارسون العنف والإرهاب.
بعض الأئمة صلى الصلاة المفروضة دون الدعاء، وبعضهم
أعلن استعداده لدفع الثمن وهو الفصل من العمل. في حين
حدثت مناوشات داخل بعض المساجد، فبعض أتباع وزارة الداخلية
ـ المباحث بين المصلين، ممن وصلهم خبر التعميم مسبقاً،
طلبوا من الإمام الدعاء على (الإرهابيين) فرفضوا، وقالوا
لهم: اهتموا بوظائفكم، واتركوا هذا الأمر الذي هو أكبر
من عقولكم!
إن فشل دعوة الداخلية والشؤون الإسلامية في حشد أئمة
المساجد الوهابيين ضد دعاة العنف، يكشف عن ضعف خطير في
الشرعية الدينية، وان هناك تعاطفاً كبيراً مع القاعدة
ونشاطاتها، وأن الحملة الإعلامية الحكومية على الإرهابيين
لم تؤثر في القناعات العميقة لدى أتباع الفكر الوهابي.
فيما طالبت بعض الجهات الأمنية اتخاذ عمل إزاء هذا التمرد
الجماعي على الدولة وشرعيتها.
|