دع عنك يا سعد
يجب الاعتراف ابتداءً بأني شديد الاعجاب ببعض ما يكتبه
سعد الدوسري في جريدة (الرياض) وخصوصاً تلك المتعلقة بالهم
العام، مثل مقالاته عن تطوير المناهج، ومشكلة الرسوم الباهظة
المفروضة على الكهرباء، والتحدي المالي الذي يواجه الفقراء
في مجال العلاج، ومشكلة البطالة وغيرها.. الا أن ثمة كبوة
مثيرة للانتباه جعلتني أقرأ سعد خارج سياقه، فقد أراد
حياكة رواية لعملية الخبر تندرج في سياق قائمة التمنيات،
بعد أن عجزت الرواية الرسمية ذاتها عن فك اللغز الذي دام
لساعات عدة بعد انتهاء ما اطلق عليها عملية تحرير الرهائن
في المجمع عن طريق الكوماندوز السعودي الذين هبطوا من
السماء على مبنى مجمع الواحة ليقتحموا على الارهابيين
معقلهم ويحرروا الرهائن..
في مقالته (استياء العقول) في الاول من يونيو كتب سعد
الدوسري بعد يوم من انتهاء عملية الخبر ما يصلح لأن يكون
تبريراً متأخراً لفشل (الانجاز) الأمني الذي كان هناك
اصرار على إيهام الرأي العام بحصوله من قبل أجهزة الأمن
السعودية.. كنا نأمل تحقق الانجاز ذاك، لأن أفراد الامن
هم أبناء هذا الوطن، وكنا نأمل أنهم قد أعدّوا ليوم قد
بلغ فيه الهلع مدى غير محتمل، يرافقه تزعزع في مصداقية
وهيبة الدولة ومؤسساتها الامنية.
أراد سعد أن يرد على كل من يعتقد بأن حوادث العنف التي
أظهر فيها الارهابيون تفوقاً قتالياً كبيراً قد صوّرت
المملكة (على أنها بلد غير مستقر، ومهدد أمنياً، في كل
مدنه، الكبيرة والصغيرة). ولا ندري كيف يجب لهذه الحوادث
أن تصنع انطباعاً آخر غير ذلك، فحتى الآن سجّلت الجماعات
الارهابية مهارات فريدة ونادرة في عملياتها، وأن (الفرار)
صار النتيجة النهائية التي تدمغ البيانات الرسمية.
لست أنوي التشكيك في إخلاص أفراد الامن، ولا في نواياهم
ولا حتى في بسالتهم، وكنت من الذين راقبوا الطائرة العمودية
وهي تفتح مؤخرتها ليهبط منها افراد قوات الصاعقة على مبنى
مجمع الواحة، وقد شعرت بالاعجاب لأن في هذا البلد رجالا
أشاوس يضحّون بأرواحهم من أجل انقاذ الابرياء من مواطنين
ووافدين. وقد سهرت ليلتها حتى الصباح لمتابعة تطورات المواجهة
بين قوى الامن و(الارهابيين) وكنت اتطلع الى رؤية فصل
بطولي تسجّله قوى الامن بعد سلسلة ممتدة من النهايات الغامضة
او الاخفاقات الذريعة.. وكانت كاميرات (الاخبارية) و(العربية)
تلاحق من بعيد أي طارىء، وقد طال الانتظار حتى أوحي الى
المشاهدين بأن المتحصنين داخل المبنى لابد أنهم يملكون
من الذخيرة ما تكفي لتفجير الخبر بأسرها أو لا أقل المنطقة
المحيطة بالمبنى لكثرة التحصينات التي أقيمت والسواتر
التي نصبت لمحاصرة الحي الذي يقع فيه مجمع الواحة.
كنا نأمل ان تنتهي قصة المواجهة بالطريقة التي سردها
سعد الدوسري، أي على هذا النحو (إن الساعات الدرامية المأساوية
لاعتداء الخبر، رافقها تخطيط امني دقيق، ولم تمر الساعة
الرابعة والعشرين دقيقة، حتى أحبط رجال الامن، عملية احتجاز
الرهائن، والقبض على المجرمين القتلة، وهذا بالمقاييس
الامنية العالمية، نجاح كبير، يجب الوقوف ملياً عنده،
والثناء عليه: كم كنت أتمنى لو ان قنواتنا المحلية، ظلت
ساهرة في موقع الحدث، لتتابع سير عملية الاقتحام، دقيقة
بدقيقة، ليشهد العالم بأسره، اننا نتصدى جميعاً، كمواطنين
وكرجال أمن، لكل من يحاول العبث باستقرار بلادنا، سواءً
كان عقولاً مدبرة، او منفذين مغرراً بهم).
ولكن هل حقاً وقع ما ذكره أو بالأخرى ما تمناه سعد؟
من المؤسف القول كلا، فقد خرج منفّذو العملية في جنح الظلام
من المجمع، وتجاوزوا كل التحصينات والسواتر وإنضموا الينا
نحن جمهور المشاهدين يتابعون معنا لقطات كاميرا العربية
والاخبارية لجنودنا الاشاوس وهم يتناسلون من داخل الطائرة
الى المواجهة المحسومة قبل بزوغ الشمس بساعات عديدة، فقد
اقتحموا مبنى قد فرّ منه المتحصنون فيه، ولم يقبض على
أحد منهم سوى من فدا نفسه بجسده كيما يسهّل لزملائه الهرب،
وأن ما كان نجاح كبيراً لم يكن سوى خدعة ليس للمشاهد بل
لأولئك الذين أُوهِموا بأن ثمة معركة باسلة يخوضها الهابطون
من السماء.
ليس هناك ما يستدعي يا سعد الحسرة على (قنواتنا المحلية)
التي لم تسهر كما سهرت الاخبارية والعربية في موقع الحدث،
فعملية الاقتحام تمت بعد نهاية المعركة وانجاز المهمة..
وقد رحل الارهابيون بعيداً عن الانظار وراحوا يتبادلون
التهنئة بالانتصار والنكات الهازئة بالقوة الضاربة للدولة.
ومن السخرية ان لا يقف البيان عند تبرير فرار المهاجمين
لمجمع الواحة، بل عمد الى فبركة قصة أخرى لهذا الفرار
تنطوي على هزيمة، فقد قيل بأن المهاجمين استعملوا الرهائن
في المجمع كدروع بشرية للتغطية على فرارهم، وقد جرت مفاوضات
بينهم وبين قوى الامن شارك فيها كبار القادة في الدولة،
وتبين لاحقاً بأن مفاوضات من هذا القبيل لم تتم بل هرب
القوم.. فيا سعد دع عنك.
|