الأحداث الإرهابية ومبادرات الحوالي:
بازار للمساومات والمكاسب الشخصية
سعود عبدالله القحطاني
ليس للحوالي أن يطالبنا بالسكوت عن ماضيه حتى يتراجع
فهو من أكبر دعاة التقسيم الفكري وتكفير الأنظمة وقد وصف
مفكرين إسلاميين مثل فهمي هويدي وخالص جلبي وكمال أبو
المجد بالزنادقة!
تحرك الصحويون بقوة في الآونة الأخيرة، وأصدروا بياناً
واضحاً يشجبون فيه العمل الإرهابي في بلادنا، صحيح أن
هذا البيان قد تأخر كثيراً، فقد سبقه السعوديون عامة وبكافة
أطيافهم بشجب هذه الأعمال واستنكارها، بكل قوة وعزم وإصرار،
ولكن تبقى حقيقة، أن تصل متأخراً خير من أن لا تصل على
الإطلاق.
في الواقع، أن الصحويين كانوا في بداية الأمر متذبذبين
في موقفهم، غامضين في كلماتهم، ولا زلنا جميعاً نذكر مبادرة
الدكتور سفر الحوالي في قناة الجزيرة بتاريخ 5/11/2003،
وعبر برنامج بلا حدود، والتي يروج الصحويون في الوقت الراهن
أنها تطابقت وسبقت مبادرة خادم الحرمين الشريفين بخصوص
ذات الموضوع، أي وقف العمليات الإرهابية، وتسليم المطلوبين
الأمنيين لأنفسهم للسلطات المختصة.. من ذلك ما قاله الدكتور
سفر الحوالي تعليقاً على مبادرة الحكومة في تصريح لشبكة
الإسلام اليوم الاخبارية والتي يشرف عليها الدكتور سلمان
العودة: (مبادرة طيّبة جاءت في وقتها، وهي التي نادينا
بها من قبل في غُرّة شهر رمضان المنصرم عند بدء المبادرة
الإصلاحية).
والحقيقة أن هناك فروقاً واضحة بين المبادرتين نذكر
منها:
1- مبادرة الحكومة السعودية صدرت من رأس الهرم السياسي
السعودي، وهو الذي بيده السلطة والقرار، بينما مبادرة
الدكتور الحوالي ليست إلا تعبيراً عن رأي، ممن ليست بيده
أية قدرة على تنفيذه.
2- مبادرة الحكومة صدرت من موقف قوة، وذلك بعد قتل
رؤوس قادة القاعدة، ونشر صورهم، ما أدى وبشكل واضح إلى
تخبط هذا التنظيم، والذي تلقى ضربة موجعة بيّنت أن زواله
ليس إلا مسألة وقت، وتتضح هذه القوة من مفردات الخطاب
الذي ألقاه سمو ولي العهد، ومن ذلك قوله: (الكل يعلم أننا
لا نقول ذلك عن ضعف أو وهن ولكنه الخيار لهؤلاء ولكي نعذر
حكومة وشعبا بأننا عرضنا باب الرجوع والأمان فإن أخذ به
عاقل لزمه الأمان وإن كابر فيه مكابر فوالله لن يمنعنا
حلمنا عن الضرب بقوتنا التي نستمدها من التوكل على الله)،
بينما مبادرة الحوالي كانت في وقت ظُن فيه أن الدولة ضعيفة،
وذلك بعد تفجيرات شرق الرياض، وأعيد تكرارها على لسان
الحوالي وغيره من الصحويين بعد تفجيرات المحيا.. يتضح
ذلك على سبيل المثال من النص التالي من كلمة الدكتور الحوالي
في قناة الجزيرة: (الوضع خطير جداً، خطير بشكل ربما هم
يدركون خطورته أكثر مني، الخطورة هذه تقتضي منا مبادرة
حكيمة وشجاعة في هذا الشهر الفضيل).
3- مبادرة الحكومة كانت تتلخص بتسليم المطلوبين لأنفسهم
من غير قيد أو شرط، وذلك في مقابل العفو عن الحق العام،
بينما مبادرة الحوالي كانت مبادرة مشروطة، اشترط فيها
الدكتور أن تقوم الدولة بعدة أمور، نذكر منها:
1- عفو عن الحقين العام والخاص لكل من يسلم نفسه من
المطلوبين.
2- إعادة جميع الأئمة والخطباء المفصولين من وزارة
الشؤون الإسلامية بسبب تجاوزاتهم.
3- إلغاء جميع القوانين التي أصدرتها الدولة، بحجة
أنها قوانين وضعية!
4- منع الكتاب الذين لا يتوافق الدكتور الحوالي مع
كتاباتهم واطروحاتهم.
5- الغاء قرار الدمج بين وزارة المعارف ورئاسة تعليم
البنات.
6- تراجع الدولة عن تطوير المناهج الدراسية.
فإذا كانت كل هذه الفروق موجودة وواضحة للعيان بين
المبادرتين، فأين التطابق الذي يزعمه الصحويون؟
قد يقول البعض ان لا فائدة في النقاش بمثل هذه التفصيلات،
وكان من الممكن أن يكون لهذا الرأي وجاهة في حال عدم وجود
سوابق تؤكد أن هناك محاولات حثيثة لكتابة التاريخ بشكل
رغبوي من قبل الصحويين.
من ناحيتي أثمن كثيراً تسليم المطلوب الأمني عثمان
العمري لنفسه، هذا التسليم الذي كان بعد مبادرة الحكومة
مباشرة، ولم يكن كما نعلم بعد مبادرة الحوالي الشهيرة،
وبالتالي فأين وجه الربط بين تسليم العمري لنفسه وبين
مبادرة الحوالي؟ إن العمري وقبله زميله صعبان الشهري سلما
نفسيهما وفق شروط مبادرة الحكومة ولم يسلما نفسيهما وفق
شروط مبادرة الحوالي، هذه هي الحقيقة التي يجب ألا تغيب
عن الجميع في معالجتهم لحادثتي التسليم، لأن هناك من يروج
لهذه الفكرة، وكان لا بد من الرد عليه، قبل أن يُغير التاريخ
بحضور شهوده.
وهناك قضية أخرى، تتعلق بالمقترحات الست التي اقترحها
الحوالي في سبيل وقف العنف، ونشرتها شبكة الإسلام اليوم،
هذه المقترحات التي يتحفظ الكثيرون عليها، بدءاً من عنوانها،
وانتهاءً بآخر سطر فيها، فالحاصل من قبل تنظيم القاعدة
ليس عنفاً، فالعنف كلمة مخففة، لما هو في حقيقة الأمر
إرهاب وترويع وافساد في الأرض.
وقد بدأ الحوالي عرضه للمقترحات بالتأكيد على: (أهمية
تغيير الخطاب الإعلامي في الداخل، وأن ينتقل من لهجة التشفي
والتحريض إلى لغة العدل والاشفاق والاشادة بمن يسلّم نفسه)..
لا أدري أي تشفٍ وأي تحريض يقصده الدكتور بكلامه، فالإعلام
السعودي لم يقصر في الاحتفاء بكل من سلم نفسه أو تراجع
عن أفكاره السابقة، ولنا بموقف هذا الإعلام من تراجعات
الخضير والفهد والخالدي المثال الأميز، كما أن لنا بتعاطي
الإعلام مع قضية المطلوب الأمني العمري دليلاً واضحاً
على تحامل الدكتور سفر، ولا أدري إذا كان هناك احتفاء
أكبر من أن يخرج علينا خبر التسليم بالصفحة الأولى في
أحد الجرائد الوطنية، وفي الخبر صورة واضحة للعمري وبجانبها
أخرى للحوالي نفسه، هذا غير المقابلات والتشجيع الذي حوته
الصحافة السعودية في تعاطيها مع هذا الخبر.
وقال الحوالي أيضاً: (إنه من الضروري إيقاف الاتهام
والتعريض بالدين والمتدينين والمناهج التربوية والمناشط
الدعوية، وتقسيم الناس إلى إسلاميين وغير إسلاميين، أو
إلى إسلام سياسي وغير سياسي).. وهذا كلام جميل من الدكتور
سفر، وإن كنت أتحفظ على الجزء الأول من النص، فلا يوجد
في صحافتنا أي تعريض بالدين والمتدينين، وكيف يكون ذلك
ونحن في بلد ينص نظامه الأساسي أن دستوره هو القرآن الكريم
والسنة المطهرة؟ أما المناهج التربوية فهي ليست بالقرآن
المنزل، وهي قابلة للنقد، لأنها في بدايتها ونهايتها ليست
إلا من صنع بشر معرضين للخطأ والتقصير، مثلها في ذلك مثل
المناشط الدعوية، والنقد دائماً هو بداية العلاج، ولا
يخشى النقد إلا من كان ضعيفاً ومتهافتاً وخائفاً في نفس
الوقت.. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن الجزء الثاني
من الكلام، والذي دعى فيه إلى وقف تقسيم الناس إلى إسلاميين
وغير إسلاميين، فهو كلام رائع وجميل، وليت الدكتور سفر
بدأ هذا بنفسه، وأعلن تراجعه عما سابق وان قاله بلسانه
وخطه بيمينه، فهو من أهم دعاة التقسيم الفكري في بلادنا،
ويمكن للباحث أن يقرأ رسالتيه في مرحلتي الماجستير والدكتوراه
- عن العلمانية والارجاء - حتى يتضح له هذا وبشكل جلي،
ويكفي أن نعرض النص التالي المأخوذ بالنص من رسالته للدكتوراه
لاثبات ذلك، حيث عرف ما أسماه بالتيار العصراني بأنه:
(زندقة عصرية يروّج لها عصابة من الكتّاب يتسترون بالتجديد،
وفتح باب الاجتهاد لمن هب ودب وكتاباتهم صدى لما يدور
في الدوائر الغربية المترصدة للإسلام وحركته.. وهذا الاتجاه
على أية حال لا ضابط له ولا منهج، وهدفه هدم القديم أكثر
من بناء أي شيء جديد، وانتاجه الفكري نجده في مجلة المسلم
المعاصر، ومجلة العربي، وكتابات حسن الترابي، ومحمد عمارة،
ومحمد فتحي عثمان، وعبدالله العلايلي، وفهمي هويدي، وعبدالحميد
متولي، وعبدالعزيز كامل، وكمال أبوالمجد، وحسن حنفي، وماهر
حتحوت، ووحيد الدين خان.. وإنما رأيت ضرورة التنبيه عنهم
لخطورتهم واستتار أمرهم عن كثير من المخلصين).. وقد أضاف
لهذه الأسماء اسم الأستاذ خالص جلبي، وذلك في محاضرة له
بعنوان: العلمانية في طورها الجديد.
وعودة إلى النقاط الست، نورد الطلب التالي في مقترحات
الدكتور حيث طالب بـ (أن تُرجع الجهات المسؤولة جميع الأئمة
المفصولين أو الموقوفين عن الإمامة إلى أعمالهم، وأن يطلق
سراح أكبر عدد ممكن من الموقوفين والسجناء، وأهمُّهم:
من انتهت مدة محكوميته، ومن لم يحكم عليه، ومن تهمته لا
تتعدى الحق العام).. لا أدري ما هي علاقة عودة الأئمة
الموقوفين بوقف الإرهاب، ولعل الدكتور سيشرح لنا هذه العلاقة
في تصريح لاحق، أما الموقوفون والسجناء، فإن المبادرة
الحكومية كانت بخصوص من يسلم نفسه طائعاً مختاراً، وذلك
تطبيقاً للآية القرآنية الكريمة، وبالتالي فلا مقارنة
بين من سلم نفسه وبين من قدر السلطان عليه.. وإذا كان
هناك تساوٍ في المعاملة بينهما، فما هي جدوى المبادرة
إذن؟
كما قال الحوالي في تصريحه المذكور: (إن ترك صلاة الجنازة
على هؤلاء جائز لمصلحة الزجر إلا أنه دعا أن يقوم المسؤول
الذي يصلي على جنائز رجال الأمن بالصلاة على الموتى جميعاً
وأن يُعزِّي أهل جميع الموتى لما في ذلك من مصلحة عظيمة)..
حقيقة، لقد ذهلت من هذا الكلام أشد الذهول، فإذا كان الحوالي
يُسلم بجواز ترك الصلاة على هؤلاء لمصلحة الزجر البينة
في حالتهم، فكيف يطالب بأن يساوى هؤلاء بالتكريم بعد الوفاة
بشهدائنا من رجال الأمن، والذين قتلوا برصاص الغدر ولاقوا
ربهم وهم يدافعون عن دينهم وبلادهم، ما سر هذا التعاطف
الشديد؟ وهل هذا محله؟
ثم كانت الطامة حين دعا الحوالي إلى: (أن يتم تعديل
أنظمة القضاء وقوانين الادعاء والايقاف والسجن.. مشيراً
إلى أن الحاجة باتت ماسّة لاجراء هذه التعديلات، خاصة
أنها شكلت مدخلاً لأعداء البلاد عند حديثهم عن العدالة
وحقوق الإنسان في السعودية).. هذا الموقف يتعارض تماماً
مع ماضي الحوالي القريب، فهو من كان يصف الأنظمة والقوانين
المطبقة في السعودية في مبادرته الشهيرة بأنها قوانين
وضعية، وأن في وجودها سبباً للتكفير! جميل أن يعلم الحوالي
الآن أن الأنظمة لم تصدر إلا لتنظيم حياة الناس، وبشكل
يتوافق مع مبادئ الشرع المطهر، ولكن ماذا عن كلام الدكتور
سفر السابق في مبادرته، وفي غيرها، كما هو الوضع في كتاب
وعد كيسنجر أو في شرح رسالة تحكيم القوانين على سبيل المثال؟
هل في ذلك الوقت لم يكن الحوالي يعلم بضرورة وضع الأنظمة
والقوانين؟ وألم يكن يعلم في ذلك الحين بأن عدم وجودها
كان مدخلاً لأعداء البلاد؟ هل كان مخطئاً ولم يتبين له
الصواب إلا في هذا التوقيت بالذات؟ فإذا كان كذلك، فلماذا
لا يبين للناس تراجعه إذن، لاسيما وأن الكثير من أقواله
السابقة تشكلت على أساسها العقلية التي نعاني منها في
حالتنا الراهنة؟
ويبقى في النهاية سؤال أخير للدكتور الحوالي، لقد صرح
في أماكن مختلفة بأن بينه وبين فارس آل شويل الزهراني
مراسلات، وبأنه سيقوم بتسليم نفسه، ولقد نفى الزهراني
هذا الأمر وبشدة وقال: (ولم يكن هناك طلب صريح بالتفاوض
أو التسليم وكان ردي على ذلك صريحاً وواضحاً منذ البداية
وقد أعلنت ذلك عبر مجلة صوت الجهاد في حينه) وذلك عبر
بيان صوتي في موقع مجلة صوت الجهاد في الانترنت، وكان
مما قاله الزهراني أيضاً، إن الحوالي قد عرض عليه عبر
وسطاء عدة أمور كان منها: (تسفيري إلى العراق وهم يقومون
بالتنسيق لذلك)!
نحن بحاجة لرد واضح وصريح من الدكتور سفر على هذا الكلام
الخطير للغاية من قبل المطلوب الأمني الزهراني، فالسكوت
هو علامة الرضا، كما يعلم الجميع.
وتبقى بالنهاية كلمة: أن التراجع عن الخطأ فضيلة، ولست
أرى أي منقصة في أن يعلن الدكتور سفر وغيره تراجعهم عن
مواقفهم وأقوالهم السابقة، والتي بدؤوا بمعارضتها بشكل
ضمني، فهذا التذبذب بالخطاب، هو مدعاة لتشتت وتباين آراء
الناس بخصوصهم، وليس للحوالي ولا غيره أن يطالبنا بأن
نسكت عن ماضيه ما لم يتراجع عنه، وإذا كان الحوالي يطالب
الآخرين بالتراجع، والتوبة، فليبدأ بنفسه، يقول الشنقيطي
في أضواء البيان: (ان الانسان يجب عليه أن يكون منتهياً
عما ينهى عنه غيره مؤتمراً بما يأمر به غيره وقد بين تعالى
ذلك في مواضع أخرى كقوله (أتأمرون الناس بالبر وتنسون
أنفسكم) وقوله: (كبر مقتاً عند الله أن تقولوا مالا تفعلون).
(نقلاً عن الرياض، 10/7/2004)
|