كتاب الله أم كتاب الوليد
هل من أميرٍ يتمثل سيرة عمر بن عبد العزيز؟
د. باسم عبد الله عالِم*
إن أول تحول حقيقي في نظام الحكم الإسلامي كان انتقال
مفهوم الحكم مما عرف بالخلافة الراشدة إلى مفهوم مستحدث
يخالف أسس شرعية الحكم الإسلامي وذلك من خلال استيراد
أنماط الحكم القديمة جاعلاً من الدولة الإسلامية كياناً
مضافاً إلى حكمها الفردي المطلق لتصطبغ بصبغته وتأتمر
بأمره دونما آليات مشروعة لتبني قرارات أو توجيهها. ومن
هنا نشأت حقبة المُلْكْ العضوض الذي اخبرنا به رسول الله
صلى الله عليه وسلم قبل حدوثه. وكان لهذا النمط المستحدث
أسوأ الأثر، حيث رفعت المظلة الرقابية على تصرف الحاكم
في الشئون العامة وأصبحت الدولة بما فيها وبمن عليها تحت
تصرف حاكمها تصرفاً مطلقاً دون قيد أو شرط.
ومما لا شك فيه أن السلطة المطلقة المتحررة من الرقابة
الموجبه للمسؤولية وما ينجم عن التقصير في أداة هذه المسؤولية
من عقوبة هي مفسدة مطلقة لمخلوق، وهي حق لا ينبغي أن يكون
لغير صاحب الكاف والنون سبحانه وتعالي عما يصفون. وبانتهاء
حقبة الخلافة الراشدة وبزوغ فجر دولة بني أمية، نجد أن
التحرر من هذه الرقابة قد أثر تأثيراً مباشراً على أداء
الحكومة وشخصنة قراراتها التي أصبحت في مجملها مرآة للحاكم
و طبيعته الشخصية وطموحه وأحلامه وغرائزه الإنسانية، ولعل
أولى ضحايا هذا النمط من الحكم هو بيت مال المسلمين وخزائن
الدولة التي تم اختصار ذمة المسلمين فيها وإدماجها في
ذمة الحاكم، فلم يعد يميز بين ماله الخاص ومال المسلمين
حيث أصبح كلاهما وجهان لعملة واحدة.
وكانت البداية الأليمة اصطفاء بلدة فدك لبني أمية بشكل،
عام وتلا ذلك كتاب معاوية رضي الله عنه إلى عامله على
فلسطين يأمره بأن يتخذ له ضياعا، فكانت المرة الأولى التي
يتجرأ فيها حاكم المسلمين على اقتطاع أراضي يمنحها لنفسه،
كما كانت المرة الأولى التي تكلف فيها شخصية عامة للقيام
بمسؤوليات شخصية خارجة عن توصيفها الوظيفي، مما يعني إضافة
إلى ما تقدم استغلاًلاً مباشراً للسلطة والنفوذ لأغراض
شخصية. إن أول خطوة على الطريق المؤلم لم تكن سوى قراراً
وأحداً على غرار ما ذكر أعلاه يصب في الطموح والمطامع
الشخصية، ولكن أثره المدمر بقي سرطاناً ينهش في كيان الأمة
حتى يومنا هذا. وكان من تبعيات هذا القرار الأثافي الثلاث
وهي:
أولاً: الاستئثار ببيت مال المسلمين وتحويل تدفقاته
المالية للكسب الشخصي.
ثانياً: إساءة استغلال المنصب والسلطة.
ثالثاً: تسخير مقدرات الدولة وموظفيها للمطامع الشخصية
الخاصة بالحاكم وأهله وأعوانه وحاشيته. وطالما كانت هذه
هي البداية، فإن ما تلى ذلك من أحداث يبين خطورة جريمة
سن سنة سيئة من نتائجها إهدار موارد الأمة وتسخيرها للأهواء
الفردية. فتوسعت العطاءات والإقطاعيات وأضفى عليها مسوح
من المشروعية المبنية على سوء تطبيق وإستغلال لنظرية جلب
المصالح ودرء المفاسد. فبدأ تتابع العطاءات لزعماء القبائل
كسباً للولاء في إطار الصراع السياسي، وما لبث الأمر أن
شمل كل من يخطر على بال الحاكم من شاعر ألقى قصيدة أو
مهرج أضحك الحاكم فيخرج بإضحاكه للحاكم بالدار والفرس
والجارية والمال، وكل ذلك في غياب ضبط المصالح بضوابطها
الشرعية. وما أن انتهت خلافة معاوية رضي الله عنه حتى
أصبح بنو أمية أغنى أغنياء الشام حيث أثروا ثراء ليس له
اتصالاً سبـبيا بالكسب المشروع سوى إنعام معاوية رضي الله
عنه عليهم بمخصصات بخلاف سائر المسلمين، واقطاعهم الحدائق
والضياع، رافعاً بني أمية إلى مصاف الأسرة الحاكمة وأصحاب
الدماء الزرقاء، أهل الاستحقاق المزعوم، دون تساؤل أو
استنكار من أحد.
وبتوالي الحكام ازداد التوسع في استحداث الأسباب والأعذار
التي تسمح للحاكم أن يسخر هذه الأموال للمصالح الشخصية
والأهواء الفردية. واستمر الأمر كذلك حتى مجيء عمر بن
عبد العزيز رضي الله عنه لتكون فترة حكمه دليلاً ناصعاً
لا يقبل الجدل أن بمقدور أي جيل من أجيال المسلمين حاكماً
أو محكوماً، مهما بعد عن زمن الخلافة الراشدة، ومهما حاصرته
الظروف أن يتمثل بالمثل العليا وأن يضعها حيز التنفيذ
لتؤتي أكلها. وما مثال عمر بن عبد العزيز إلا برهاناً
صادقاً على أن سيرة الصحابة والخلفاء الراشدين ليست حقبة
زمنية مثالية فحسب، ولكنها في مجملها مثالاً يظل على الدوام
نبراساً حقيقياً للامة وحاكمها ومحكومها على مر الأجيال.
وقد اتخذ سيدنا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه في
ومضة حكمه التي لم تتجاوز السنتين العديد من الإجراءات
الإصلاحية من جهة، والتزم هو بحقوق الحاكم المسلم وواجباته
تجاه شعبه وأمته من جهة أخرى، فكانت هذه الومضة أنصع مثالاً
في التاريخ الإسلامي على العدالة الاجتماعية وضمان الحقوق
المدنية والمالية والإنسانية حتى انتهت فترة حكمه رضي
الله عنه وقد امتلأت خزائن بيت مال المسلمين بأموال الزكاة
لا يعرف أين يضعها، وقد رفع الله بكرمه وفضله ومنّه عن
الأمة ما يدعوها إلى الفقر والعوز وأزاح عنها فتنة الخوارج
وكل ما كان يحيط بني أمية من فتن ومعارضة، حيث هدأت النفوس
والتأمت الجراح، وتآلفت المجتمعات المختلفة بفضل المنهج
الراشدي الذي سلكه عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه.
وبما أن هذا العمل الإصلاحي يعتبر الأول من نوعه في
أي دولة إسلامية أعقبت عصر النبوة والخلافة؛ وحيث أن نتائجه
كانت عظيمة كثيرة الفائدة، فكان حري بنا أن نتلمس نهج
عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه في الإصلاح، ونخص هنا
الإصلاح المالي. إن إصلاح ما فسد اصعب أنواع الإصلاح ويختلف
عن الإصلاح التطويري.
إن أول وأهم خطوات الإصلاح كانت أن بدأ عمر بن عبد
العزيز رضي الله عنه بنفسه وخاصته فجردهم من كل ما غلب
على ظنه أن منشأه بيت مال المسلمين، وضرب أروع الأمثال
في الزهد والعفاف والعيش الكفاف، لا يمد يده إلى بيت مال
المسلمين إلا بقدر ما تمنعه مشاغله العامة عن كسب قوت
يومه له ولعياله.
أما الخطوة التالية في الإصلاح فكانت الدعوة العامة
للجوء إليه رداً للمظالم المتراكمة منذ أن ولي بني أمية
هذا الأمر، وفي ذلك إدراك حسي مرهف ونظرة ثاقبة لعمر بن
عبد العزيز رضي الله عنه، فقد كان يعلم أن المظالم على
شقين: شق درست آثاره وضاعت معالمه وصعب الرجوع إلى أصحاب
الحقوق فيه، و شق آخر هو موضوع الخطوة الثانية من الإصلاح،
أي شق المظالم القائمة والتي تشكل هوة عميقة بين الحاكم
والمحكوم، وتدفع باتجاه الإضطرابات الإجتماعية التي تفسد
الأخلاق وتستبيح الحرم وتتحول الظلامة الأولى إلى ظلامات
متفرعة بعضها فوق بعض بين طبقات المجتمع وفئاته وعناصره.
فكان لزاماً على عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أن يبدأ
بهذه الخطوة في الإطار العام، بعد أن جعل نفسه وخاصته
مثالاً يحتذى به، مضفياً المصداقية المطلوبة التي يجب
أن يتمتع بها ولي أمر المسلمين في شعبه وأمته. وقد بدأ
برد الأرض المغتصبة التي أقطعها الوليد بن عبد الملك لإبنه
العباس بن الوليد، معيداً إياها إلى صاحبها الكتابي الذمي
الذي طالب عمر بن العزيز بأن يعمل في الأمر بكتاب الله،
واحتج العباس بن الوليد بكتاب الوليد له بالأرض، ورد الذمي
مرة أخرى قائلاً: يا أمير المؤمنين أسألك كتاب الله تعالى،
فقال عمر: نعم كتاب الله أحق أن يتبع من كتاب الوليد،
قم فاردد عليه ضيعته. وقد نظر عمر رضى الله عنه في جميع
المظالم التي قدمت بين يديه حتى فرغ منها، وبالرغم من
حبه لبني أميه واعتزازه بهم، إلا أنه لم تأخذه في الحق
لومة لائم في الحقوق والواجبات، فطال الأمر العديد منهم
وليس أقلهم هشام بن عبد الملك، حتى فرغ من رد المظالم
الحالّة، ثم استخلف على الأمر من يقوم به.
ثم أتجه إلى الخطوة الإصلاحية الثالثة واضعاً بني أمية
وهم أحب الناس إليه وعزوته وعصبته موضع التهمة مطالباً
كل فرد منهم أن يثبت مصدر أمواله أو يعيد ثلثيها إلى بيت
مال المسلمين في محاولة جادة لإحقاق مفهوم العدالة وإعادة
الحقوق إلى أهلها في الإطار الجماعي، إن تعذر إعادة الحق
بشكل مباشر للشخص المعني الذي هُضم حقه منذ أن بدأ هذا
الأمر أبان خلافة معاوية رضي الله عنه، حتى انتهى إلى
عمر بن العزيز رضي الله عنه وأرضاه. وقد لاقى من بنى أمية
اشد المعارضة، حتى لاحت بوادر فتنة عظيمة اضطر معها لإرجاء
إنفاذ قراره أملاً أن يعود إليه، إلا أن المنية عاجلته
دون أن يتم إنفاذ الأمر.
وبعد التخلية والتطهير بدأ عمر بن عبد العزيز بالتحلية
والترشيد واضعاً القيود والضمانات على مصارف بيت مال المسلمين
ليخرج كل درهم ودينار إلى موضعه الذي فيه مصلحة المسلمين
ومرضاة الله أولاً وأخيراً، فهدأت النفوس وارتفع الفقر،
وتآلفت القلوب، وعمت البركة، وأمن الراعي على غنمه من
الذئب، فإذا ما اصبح صبيحة يوم ووجد الذئب قد أنقض على
غنمه بكى، إذ أدرك الراعي من ساعتها أن أمير المؤمنين
عمر بن عبد العزيز قد مات.
أنه مثال حري أن يتبع، طبّقه رجل من الأمة، ليس بصحابي
أو تابعي، وقد أحاطت به جميع المغريات والملذات وعوامل
الترف والحرج العائلي والضغوط السياسية، ولكنه تجاوزها
جميعاً وأثبت تجرده لله سبحانه وتعالى فأكرمه الله وأكرم
الأمة به في ومضة لم تتجاوز العامين من تاريخ الأمة، مثبتاً
للجميع أن هذا الأمر بمقدور كل حاكم على مر العصور والأجيال.
وأخيراً لا ننسى فضل سليمان بن عبد الملك الذي تجاوز
إخوته وأخذ البيعة لابن عمه عمر بن عبد العزيز (الأصلح
بين قومه) مقدماً مصلحة الأمة على الأهواء الشخصية والضغوط
السياسية والعائلية.
* محامِ ومستشار قانوني
|