دولـة الوهـم
ورد في صحيفة (العروة الوثقى) لمصلحي الشرق البارزين
السيد جمال الدين الافغاني والشيخ محمد عبده: (الوهم يمثّل
الضعيف قوياً، والقريب بعيداً، والمأمن مخافة، والموئل
مهلكاً. الوهم يذهل الواهم عن نفسه، ويصرفه عن حسّه، يخيل
الموجود معدوماً، والمعدوم موجوداً، والواهم في كون غير
موجود، وعالم غير مشهود، يخبط فيه خبط المصروع، لا يدري
ماذا أدركه وماذا تركه. الوهم روح خبيث يلابس الروح الانسانية
وهي في ظلام الجهل، اذا خفيت الحقائق تحكمت الأوهام، وتسلطت
على الارادات، فتقود الواهمين الى بيداء الضلالة، فيخبطون
في مجاهيل، ولا يهتدون الى سبيل، ولا يستقيمون على طريق).
الجانب الفاعل في الوهم يخبر بأن قوة أي دولة في العالم
يكمن في كمية الاوهام التي تحيط نفسها بها أمام الغير،
وخصوصاً من يراد منهم أن يصدقّوا هذه الاوهام وأن يتصرفوا
بناء على ما تخلقه من مشاعر خوف ورهبة. لقد نجح الاستعمار
الانجليزي على قلة عدده وصغر ذراعة في السيطرة على مناطق
عديدة من العالم لأنه كان يملك عبقرية صناعة الوهم، وأن
يزرعه في أذهان خصومه، هكذا كانت تحكي تجربة الاستعمار
الانجليزي في الهند ومناطق عديدة في الشرق. والوهم يلعب
دوراً في مضاعفة القوة الحقيقية التي ينطوي عليها صاحبها،
فتنخلق هالة قوة غير مرئية تبعث الرعب في نفوس الخصوم.
ويروى بأن عبد الله بن زياد حين حكم الكوفة بإسم الخليفة
الاموي يزيد بن معاوية وقد تفرّق أهلها عنه ولم يبق معه
سوى كتيبة من الجيش فأراد أن يخيف أهل الكوفة، فكان يخرج
تلك الكتيبة في آخر النهار ويعيدها في أوله من اليوم التالي
كيما يوحي لأهل الكوفة بأن قافلة الكتائب متصلة لا تتوقف
على مدار اليوم. ومن المصادفات العجيبة أن نظام العراق
البائد كان يستعيد جزءا من تجربة الاسلاف، فقد تكشّفت
حقائق القوة العسكرية المهيبة والجيش الخامس في العالم
في معركة بغداد المنتظرة التي ذهبت بأسرارها وهزيمتها.
فقد تمزّقت هالة الرعب بعد سقوط النظام وحتى المعمل النووي
الذي طال الحديث عنه بدا وكأنه مجموعة براميل مبعثرة في
مفرزة لا تدل سوى على عبث المؤسس وهشاشة مشروعه وتطلعه.
إن هذا النظام الذي أوحى لمن في الداخل والخارج بأنه قد
أحكم مراسمه وعقّد طلاسمه حتى خيّل للكافة بأن جذر هذا
النظام ممتد في الاعماق فلا ينقلع الا بانقلاع الارض بمن
عليها، واذا به كسراب بقيعة، تفككت أجزاؤه، وتناثرت أشلاؤه،
ولم يبقَ منه سوى الوهم الذي يخلّف السؤال المدهش: لماذا
بقى وكيف رحل؟.
بعد أن نشأت الدولة السعودية عام 1932، بقيت القوة
الاستبدادية هي القوة الوهمية الوحيدة التي صنعت هالة
لنظام الحكم ـ شأنه شأن باقي أنظمة الحكم الاستبدادية
ـ وخلقت إنطباعاً بأن هذه الدولة تملك من عناصر البقاء
والاستمرار ما يجعلها الدولة الخالدة التي سترث الارض
ومن عليها. في الستينيات تعرض المناضلون للتنكيل على يد
أجهزة الأمن السعودية، حتى أن بعضهم مازال يعاني من آلام
وجبات التعذيب التي ذاقها على يد رجال المباحث الذين كانوا
تحت إمرة الملك الحالي، بل أن بعض من هاجر للخارج هرباً
من بطش النظام منذ تلك الفترة رفض العودة للبلاد بعد عقدين
من رحيل الملك فيصل عن دار الدنيا الا بعد أن وصلته رسائل
طمأنة من جهات عدة، فيما بقي آخرون حتى الآن خارج البلاد
رافضين العودة الى البلاد بانتظار زوال الدولة السعودية
من الوجود.
في الثاني من أغسطس 1991 واجهت الدولة السعودية أول
امتحان فعلي لقوتها العسكرية التي أنفقت عليها ما يربو
على 150 بليون دولار حتى ذلك الحين. إن حزام القوة الذي
أحاطت الدولة به نفسها بدا واهماً حيث التزمت القيادة
السعودية الصمت طيلة الايام الثلاثة الاولى من الغزو العراقي
للكويت بانتظار وصول القوات الاميركية الى جزيرة العرب
للدفاع عن النظام السعودي، الأمر الذي أثار سخطاً شعبياً
عارماً، فقد تبيّن ان مليارات الريالات التي أنفقت على
الآلية العسكرية تطايرت كورق الشجر الأصفر في يوم خريف
عاصف. وقد حلل حينذاك الكاتب السعودي تركي الحمد النظام
العربي (اشارة تمويه الى النظام السعودي) وتوصّل الى أنه
نظام يتصف بالهشاشة، كأحد ملامح ومعالم هذا النظام.
في حقيقة الأمر، إن أزمة الخليج الثانية بدّدت وهم
القوة الذي كان يحيط بالنظام السعودي، وخسر أول ما خسر
مصداقية القوة والهالة الدينية التي كان يتمتع بها قبل
اختبار عاصفة الصحراء. صحيح أن الخطر زال بزوال المؤثر،
وتقهقرت قوات الغزو الى الوراء من حيث أتت، وبالتالي عادت
الأمور الى سابق عهدها الا شيء واحد لم يعد وهو وهم القوة.
وكان بإمكان العائلة المالكة أن تعي جيداً بأن الماضي
لا يعود مجدداً، وعليها أن تبدأ من النقطة التي انتهت
اليها، وأن تعيد نظم حلقات النظام السياسي على أساس حسابات
جديدة تضع فيها مطالب الناس وحاجاتهم، ولكن أهملت فأهملوها.
لقد أصرّت الدولة على مواصلة مسيرة الوهم، ولم تعبأ
بما تراه، وقد رأت بأن الارض قد تناقصت من تحت أرجلها،
وأن ما تآكل من رصيدها الشعبي والسياسي غير قابل للاسترداد
الا بالتنازل والقسمة، فأحجمت عن قبول النصيحة وأوغلت
في الغي اعتقاداً منها بأنها تعرف كيف تداوي عللها. واذا
بظاهرة العنف تتفجر كأنها الدمامل في جسد معلول، فخرجت
الجوف من قبضتها ليلاً وانتشر السلاح في المنطقة الغربية،
وتزايدت عمليات تهريب السلاح، وأصبحت الرياض وجدة ومكة
والخبر مسارح لمواجهات بهلوانية جرّ فيها النظام أذيال
الخيبة والخسارة البشرية والمعنوية، وخشي المقيم والوافد
على نفسه من أن يذهب ضحية عملية مواجهة مسلّحة بين قوى
الامن والجماعات الجهادية المتشددة أو أن يبدد أشلاءهم
تفجير انتحاري، فقد باتت البلاد مسرحاً مفتوحاً لعمليات
عسكرية نوعية.
وبعد ذلك كله، مازال الوهم يرخي ذيوله على صانعي القرار
في هذه البلاد، ويزيد في إيهامهم انتصار وهمي هنا وهناك،
دون أن يكلفوا أنفسهم عناء قراءة الواقع بموضوعية تتجاوز
حد اللحظة وتقرأ المستقبل بعيون حاضر يضخ بعناصر التفجر:
بطالة، استبداد، فقر.. فهل تهدم الدولة وهمها قبل أن يهدمها،
وهل تبدأ الاصلاح كحقيقة خاتمة.
|