الإنتصارات الأمنية المؤقتة قد تجعلها دولة أكثر بوليسية
السعودية والعنف المتصاعد القادم من الداخلية
العنف والإصلاح.. مفردتان تدور حولهما النقاشات والتحليلات.
العنف قد يكون نقيضاً ومؤجلاً للإصلاح.
والعنف قد يكون محفّزاً له.
في الأولى، يمكن للدولة أن تزيد من مساحة المواجهة،
وأن تزوّد أجهزة الدولة الأمنية بمبررات إضافية لتنشيط
وتوسعة دور الجهاز الأمني وتسلطه بحجّة مواجهة العنف.
ويمكن الإستفادة من العنف والعنف المضاد لتبرير التباطؤ
باتجاه الإصلاحات، فالأولوية للأمن، أمن المواطن، وأمن
المجتمع. هذا الشعار المضلل، هو الذي يكرس دولة القمع،
ويطلق سراح قوى الأمن من عقالها في الإعتقال والصدام وخنق
الأصوات الحرّة، بحجة مكافحة العنف والإرهاب، فتنخفض الأصوات
المطالبة بالتغيير، وتعلو أصوات المنافقين الداعية الى
الحرب والجهاد على الإرهاب، ويتم تناسي الإصلاحات كطريق
أساسية لتطويق العنف والإنسداد السياسي.
وفي الثانية، قد يكون العنف كاسراً لهيبة الدولة، مضعفاً
لرموز الحكم، مباعداً بين السلطة والمجتمع، الأمر الذي
قد يدفع بها الى الشروع في الإصلاح السياسي وتوسيع هامش
المشاركة الشعبية، بغية إصلاح ما يمكن اصلاحه، وترميم
العلاقة بين النخبة الحاكمة والجمهور، ومنعاً لتطور الأمور
نحو الأسوأ، أي فوران الشارع في ثورات وانتفاضات لا تنتهي
تقود البلاد الى تغييرات عاصفة إذا ما تأخرت الإصلاحات.
وهنا قد يشعر الطاقم الحاكم بأن الإصلاحات هي أهون الشرور.
في المثال الثاني، هناك الأردن، والبحرين وغيرهما.
وفي المثال الأول، هناك السعودية، والعراق وسوريا،
وغيرها.
في المملكة السعودية، هناك من تنبّأ بأن العنف الذي
واجه العائلة المالكة ولازال، سيختطف الإصلاحات الموعودة،
فكأن العنف هبة من السماء جاءت لإنقاذ العائلة المالكة،
بمعنى أنه منحها مبررات التغوّل والتحوّل الى دولة بوليسية
بأكثر مما هي عليه، ومنحها مبررات لرفض الإصلاحات، والزجّ
بالإصلاحيين في السجون، وتعطيل الحركة الإصلاحية الشعبية
التي كانت هادرة حتى منتصف مارس 2004. وبالرغم من وقوف
الجميع من اصلاحيين وغيرهم مع السلطة في مكافحة العنف،
فإن النتيجة هي أنهم كانوا أول ضحايا العنف، وفي حين حصل
العنفيون على عفو ملكي، لازال رواد الإصلاح في السجون
يواجهون تهمة التحريض والعنف!
مما لا شك فيه أن السلطة السعودية كانت تواجه خطراً
أمنياً أثر على السكان، وأضعف هيبة الدولة، وزعزع الجزيرة
الآمنة ـ كما كانت تسمّى، وأنه شجع المواطنين على التجرؤ
على السلطة فيما هو دون استخدام السلاح، في حين تشجع بعضهم
على حمل السلاح والإلتحاق بركب المطالبين بإسقاط النظام
عبر المقاومة المسلحة. رغم أن العنف أضعف الدولة والعائلة
المالكة، فإن الأخيرة كانت تنظر الى العنف كخطر مؤقت،
أما الخطر الأكبر فكان في الحركة السلمية المنادية بالإصلاحات،
فهذه الحركة كانت بالنسبة للعائلة المالكة النقيض المنافس
في المدى الإستراتيجي، وهي المنبع للأفكار الوطنية المؤسسة
لثقافة تناقض ثقافة الخضوع المؤصلة على أساس سلفي ملتحم
مع الإستبداد السياسي.
لقد قدّم العنف خدمة أخرى للعائلة المالكة على الصعيد
الدولي، فبدل أن تتهم بأنها ضالعة في ترويج ثقافة العنف
والإرهاب (الوهابية) تحولت بين يوم وليلة الى ضحية للإرهاب،
وهي بالطبع ليست كذلك.. كون العنف المحلي أو الخارجي ذي
امتدادات سعودية (فكرية وتمويلية). وبدل أن تواجه الحكومة
السعودية ضغوط الخارج على صعيد اختراقاتها الفاضحة لحقوق
مواطنيها المدنية، تصبح مدعومة من تلك القوى الدولية للتخلص
من آفة العنف، التي هي في قائمة أجندات الغرب بمختلف توجهاته.
كل هذا يمكن اعتباره مكاسب مرحلية للحكومة السعودية.
فغمامة العنف لن تنزاح بصورة كليّة عن المملكة بدون
إصلاحات شاملة سياسية واقتصادية وفكرية. وإذا ما كان استمرار
العنف يخدم الحكومة في تأجيل الإصلاحات، فإنه في الوقت
نفسه يثبت بأن العنف لا يمكن مكافحته بالأدوات الأمنية
وحدها، وإذا ما طال الزمان، وخمدت قناعات الحلّ الأمني
لن يتبقى سوى المدخل السياسي له. الحكومة السعودية اليوم
تريد ـ في الظاهر ـ الخلاص من العنف، ورغم قناعتنا بأنها
لن تتخلص منه، وإن نجحت في صدّ موجة من موجاته، فإنها
في حال فرغت منه بالأداة الأمنية وحدها، تنتظر استحقاقات
سياسية طال تأجيلها.
ولكن التعقيد في السياسة المحلية، قد يوجّه الأمور
باتجاه المزيد من تأكيد نزعة الدولة التسلطيّة.
كيف؟
يكثر الحديث هذه الأيام على أن الدولة نجحت خلال الشهرين
الماضيين في إنهاء أهم الخلايا النشطة للعنف، ابتداءً
من مقتل زعيم تنظيم القاعدة في السعودية،........، وانتهاءً
بالقبض على مجموعة من النشطاء بينهم فارس آل شويل الزهراني.
وتوحي لغة الإعلام السعودي المحلية، بأن هناك انتصاراً
ساحقاً قد تمّ انجازه، أو هو في الطريق، بل هو حتمي، كما
توحي اللغة الواثقة للإعلام والتصريحات التي يدلي بها
المسؤولون الأمنيون والسياسيون. ومع أن المملكة تنتظرها
موجة عنف قادمة من العراق، باتت تشكل هاجساً لها، من السعوديين
القادمين من هناك والمشاركين في أحداث التفجير والتفخيخ
والقتل.. ومع افتراض الإنحسار الفعلي ـ الدائم أو المؤقت
ـ لموجة العنف المحلية، فإن الحكومة السعودية ـ اذا حدث
وتوقف العنف ـ ستكون أمام مطالب شعبية للبدء بالإصلاحات
السياسية.
لكن الوضع الحالي لا يوحي بأن الحكومة، وفي ظل نشوة
انتصاراتها وكسر إرادة الإصلاح والعنف معاً، ستقدم على
تنازلات كبيرة وسهلة. فمن جهة، تعتقد العائلة المالكة،
بأنها ستكون في وضع أفضل وربما مثالي لتصدّ مطالب الإصلاح،
بالعصا التي جرّبت أولاً، وبالمال الذي يتدفق اليوم بسبب
تصاعد أسعار النفط. ومن جهة ثانية، فإن الأجهزة الأمنية،
وعلى رأسها وزير الداخلية، قد تمددت ونشطت وتوسعت آفاق
صلاحياتها بسبب العنف، وهذه الأجهزة، كما الوزير المتولي
عليها، ليسوا في وارد قبول الضبط والتقييد، حتى ضمن حسابات
الصراعات المحلية.
فوزير الداخلية حصل على قوة مطلقة وصار الملك غير المتوج
للبلاد، وحصل على صلاحيات جديدة بحجة مكافحة العنف.. وفي
غياب الملك المقعد، ووزير الدفاع المريض بالسرطان، وفي
وجود ولي عهد ضعيف، فإن الرأس للدولة اليوم عن حق هو الأمير
نايف، والذي يستمد قوته من قوة الجهاز الأمني، ومن ثم
من الإنتصارات حتى الموهومة التي حققها في إدارة شبكة
الصراع مع العنفيين. ومن هنا يمكن للمرء ان يتوقع بأن
الدولة السعودية التي قطعت شوطاً بعيداً في التحول الى
دولة بوليسية، لن تعود الى حالها الطبيعي قبيل أحداث سبتمبر،
ولن تقدم بالتالي على إصلاحات ديمقراطية، كون وزير الداخلية
من أشدّ المعارضين لها في العلن، لدرجة أنه لا يقبل باستخدام
كلمة (إصلاحات) في الإعلام بل (التطوير)! ومن هنا فإن
الجناح الرافض للإصلاح أقوى بكثير من الجناح المؤيد له
في حدوده الدنيا!
بقيت الضغوط الغربية، خاصة الأميركية منها، فالسعوديون
يعتقدون بأنهم تجاوزوا عنق الزجاجة في علاقاتهم مع حليفهم
المفضل. والسبب يعود الى الإنتكاسات التي مني بها المشروع
الأميركي في العراق وأفغانستان، والى التنازلات ـ غير
الضارّة ـ التي قدمها الأمراء السعوديون في الحقول الإقتصادية
والأمنية ومكافحة الإرهاب وفق الأجندة الأميركية. ويشعر
الأمراء السعوديون بأن جناح الصقور في الإدارة الأميركية
قد مني بنكسة كبيرة، وهو الجناح الذي كان يؤجج الدعوات
الى تقسيم السعودية والإطاحة بالعائلة المالكة. وحتى مع
مجيء كيري الى سدة الرئاسة الأميركية فإن الأمراء السعوديين
يعتقدون بأن المصالح مقترنة مع فشل نهج الإحتلال والتهديد
بالتقسيم، ستروّض الإدارة الأميركية الديمقراطية في حال
وصولها الى الحكم، وستقبل بالتنازلات السعودية المغرية
في المجالات التي لا دخل لها بنظام الحكم السعودي نفسه.
أمرٌ واحد قد يقلب معادلة الحكومة السعودية: أن يستمر
العنف في المملكة وأن تستمر معه موجة ارتفاع أسعار النفط،
وحينها لن يكون هناك بدّ من الضغط من أجل الإصلاحات السياسية.
وحتى الإغراءات التي ستقدمها السعودية للحلفاء الأوروبيين
والأميركيين (ضخ المزيد من النفط، وبيع برميل النفط بعشرة
دولارات أقلّ من سعر السوق) لن ترضي نهم الغربيين ولا
تحلّ لهم إشكالا استراتيجياً تساهم الحكومة السعودية في
صنعه.
نعم انخفضت التهديدات الخارجية التي تواجهها المملكة،
ولكن ذلك مبني على قدرتها في مكافحة العنف بأدوات الأمن،
وإذا ما فشل الخيار الأمني، وهو سيفشل عاجلاً أم آجلاً،
فإن الغربيين سيعدلون من استراتيجيتهم تجاه العائلة المالكة
وسيطالبونها بالرحيل أو التغيير.
الذين خافوا من تغول الأجهزة الأمنية وتحول الدولة
السريع الى البوليسية، بناء على شماعة مكافحة العنف، لن
يطول تخوفهم، فالعنف قد يخدم العائلة المالكة في توفير
المبررات الوقتية، ولكنه لن يساهم في حل مشاكلها المستقبلية،
لأن السياسة القائمة على مهادنة الفكر العنفي ورجاله داخل
المؤسسة الدينية سيولّد انفجارات قادمة، وما علينا سوى
الإنتظار ولو قليلاً.
|