في ظلال محاكمة الاصلاحيين
نكبة الاصلاح السياسي
هل نجحت القوى النابذة للاصلاح السياسي سواء كانت تقليدية
وتحديداً من التيار الديني المحافظ أو من داخل السلطة
في إستعادة قبضتها الحديدية على النظام، وبالتالي كسر
ارادة قوى الاصلاح والتحديث التي نشطت بدرجة عالية منذ
يناير العام الماضي؟. أم خرجت العائلة المالكة من معركة
التجاذب بين التحديث والتقليد منهكة رغم ما يظهر أنها
انعتقت من ربقة إحدى القوتين، وبالتالي خرجت بأقل الخسائر
من معركة تنظر اليها وكأنها مؤامرة لقضم سلطانها، فإذا
ما يممت وجهها الى غير الاتجاه الاصلاحي حسبت ذلك نصراً
مؤزراً. وفي السياق نفسه، هل احتفظ الحرس القديم بالكعكة
من خلال التعاضد الجمعي على حماية العرش؟.
لاشك أن العائلة المالكة كرمز للسلطة السياسية كانت
مشغولة بالبحث عن مخارج نجاة بأقل الكلفة، فهي كجزء من
نظام محافظ ديني وسياسي تجد نفسها عصية على القبول بمطالب
التغيير خصوصاً حين تأتي استجابة لرغبة من تصفهم بالمعارضة،
ولذلك نجد بأن ثمة خيطاً رفيعاً بين الشعار الاصلاحي الذي
يطلقه بعض رجال السلطة وبين النزوع التقليدي لديهم نحو
الاحتفاظ بتمامية السلطة، بل هناك ما يبرر الريبة في هذا
المشترك المعلن والمستور.
ولذلك ليس من غير المألوف ان يرتد الرجل الاصلاحي المأمول،
أي الامير عبد الله، على منزعه الافتراضي العلني في الاصلاح،
رغم أن قطاعاً واسعاً قد علّق آمالاً كبيرة على عاتقه،
ولا ريب أن شعاراته في الاصلاح السياسي قد ساهمت في صناعة
مخيال شعبي نهب إهتمام الكثيرين، وأوحى إليهم وكأن هذا
المخيال يخفي في داخله فارساً قادماً ويحمل في يده البشارة.
و للأسـف الشـديد، رأينا في نهاية المطاف أن ولي العهد
لم يحقق طموحه في أن يصبح الفارس المأمول في ميدان الاصلاح
السياسي كما كان يأمل الكثيرون، بل لم يبعث رسولاً من
طرفه كيما يفسّر هذا الارتداد المفاجىء والعاجل على شعارات
الاصلاح. وقد لحظنا بعض إنعكاســات ذلك الارتداد في الفتور
وربما النفور من الاشكال الاصلاحية أعلنت عنها العائلة
المالكة بما فيها اللجان، بل لحظنا أيضاً غيوماً داكنة
خيّمت على فعاليات الحوار الوطني في دورتها الاخيرة، هذا
الحوار الذي كان ولي العهد قد راهن عليه كثيراً في صناعة
الصورة الجديدة للمملكة السعودية. لاريب أن تلك الغيوم
الداكنة قد تجمعت بفعل نكوص ولي العهد عن الوفاء بوعوده
الاصلاحية، وتكثفت بفعل الانتقادات الواسعة التي كانت
تنتشر في وسائل الاتصال الرسمية وغير الرسمية حول خضوع
ولي العهد تحت تأثير ضغوط القوى التقليدية ومن داخل العائلة
المالكة بما يسلب عنه صفة الحاكم القادر على امتلاك زمام
المبادرة، ومن جهة ثانية، فإن بعض الانتقادات كانت تدور
حول المدعى الاصلاحي لولي العهد نفسه الذي بدا أمام الجميع
وكأنه لم يكن بالامس رافعاً لشعار الاصلاح, أو متحمساً,
كما كان في البداية, لمشـروعة الإصلاحي الافتراضي، وهذه
الانتقادات تساق في اطار الصراع الداخلي على السلطة، بمعنى
أن ولي العهد ليس الفارس الوحيد في الميدان كما أنه ليس
الحاكم الاعلى للبلاد، وإنما هو أحد الفرسان وأحد الحكّام
ولذلك فإن القول بأن مســار الأمور في هذه البلاد قد يتحول
إلى أخيه الامير نايف وزير الداخلية له ما يبرره.
وعلى أية حال، فإن الاكتشاف المتأخر لدى الكثيرين بأن
الارادة العليا للدولة منقسمة على نفسها بين عدة أمراء
يعتبر اكتشافاً مثيراً للحزن والأسف، وخصوصاً بالنسبة
لشخص كان الجميع ينظر اليه بأنه شديد الطموح وخصوصاً منذ
اضطلاعه بالصلاحيات المخوّلة اليه كنائب للملك بعد عام
1996. والانكى من ذلك، أن هذا الشخص حاول أن يقنع أغلب
معارضيه بأن يصطفوا خلفه وأن يدعموا نظراته حول الإصلاح
السياسي، رغم ما يكسو هذه النظرات من غموض وتشويش، كونها
في الغالب تأتي في سياق خطابي ودعائي أكثر من كونها منبثقة
من أجندة اصلاحية واضحة المعالم.
لقد أغرق ولي العهد الرأي العام المحلي بمبادرات متسلسلة
وصلت أصداؤها الى الخارج وأشادت بها وسائل الاعلام الاجنبية،
بحيث لو أجري استفتاء شعبي حول قيادته للبلاد لحظي باجماع
عارم وتأييد شامل، كإنعكاس حقيقي للتوقعات والآمال الشعبية
بأن سيتحقق على يد ولي العهد الوعد المنتظر في الاصلاح
وستشهد البلاد مرحلة انفراج حقيقي ويعيد بناء الدولة على
أسس المساواة والعدل والحرية، وستفتح السجون أبوابها لخروج
المعتقلين السياسيين، وستتحطم القيود المفرضة على حرية
التعبير والاجتماع، وستزول قرارات منع السفر ضد أصحاب
الرأي الآخر، ومنح المرأة حقوقها كاملة غير منقوصة، وتدشين
قواعد النظام التعددي، واشاعة قيم المشاركة الشعبية والتنظيم
والعمل الاهلي.
لقد احتفظ ولي العهد بمكانة استثنائية وكاد يطير بتلك
الخاصية الكاريزمية، فقد كانت الآمال معقود بناصية هذه
الشخصية الفريدة الافتراضية، وبالفعل كانت الأمور تسـير
سـيراً يبشـر بالخير، وخصوصاً وأن بعض تمظهرات المأمول
قد عكس نفسه على الصحافة في لغتها الناقدة والتقويمية
للاوضاع الداخلية، وفي تأسيس بعض اللجان المتخصصة التي
يراد منها المساهمة في المشروع الاصلاحي الشامل، وفي تأسيس
مركز الحوار الوطني الذي بدا عليه وخصوصاً في دورته الثانية
وكأنه جزء من حركة اصلاحية وطنية كما عكسه البيان الختامي
الذي تلاه رئيس مركز الحوار الوطني أمام ولي العهد وحمل
مطالب متطابقة مع مطالب التيار الوطني العام.
لا ريب أن تلك المفردات منفصلة ومجتمعة تمثل منجزات
استثنائية في بلد لم يعتد سوى على واحدية صارمة وخانقة،
مع الفات الانتباه الى أن هذه المنجزات تأتي عن طريق شخص
طالما نظر اليه كثيرون بأنه ضعيف الجانب غير قادر على
مواجهة الكتلة السديرية المحكمة والحاكمة.
لقد سعى الامير عبد الله أن يحقق المعجزة التاريخية
في هذا البلد، أي ارضاء جميع الاذواق وتحقيق كافة الرغبات،
وهو ما كان يبديه من حرص ظاهري، حتى يخيّل للمرء وكأن
ماركس وابن تيمية قد وجدا متكئا في مجلس ولي العهد. إن
الافراط في استعمال الشعارات الاصلاحية والمصطلحات السياسية
غير المعهودة في نظام شمولي لاشك أنه يبعث ارتياحاً من
نوع ما لدى أولئك الذين أصابتهم كروب الاستبداد، فقد باتت
كلمة (الاصلاح) الأكثر رواجاً ونطقاً والأوسع انتشاراً
طيلة أكثر من عام أي حتى الخامس عشر من يونيو الماضي،
أي حتى عشية اعتقال جمع من الشخصيات الاصلاحية.
إن هذا التحوّل الظاهري الذي قاده ولي العهد قد حفّز
دول الجوار (التي كانت في يوم ما تتردد في السير نحو التغيير
كي لا تغضب الشقيقة الكبرى)، على أن تواصل بثبات مسيرة
الاصلاح كما في البحرين وقطر، بالرغم من أن تجارب الاصلاح
السياسي في دول الجوار كانت قد كسرت التقليد الخليجي وعبرت
الى الضفة الاخرى بعد أن خسرت الشقيقة الكبرى منذ بدايات
التسعينيات القيمومة السياسية على شقيقاتها الاخريات،
بل صارت الاخيرة مصادر الهام للقوى الاجتماعية والسياسية
في السعودية.
على أية حال، أشاعت تصريحات ولي العهد ومبادراتها المبتسرة
جواً من التفاؤل في أوساط التيار الاصلاحي الوطني، ولكن
الخامس عشر من يونيو كان نقطة تحوّل دراماتيكي، فقد تبددت
روح التفاؤل وتلاشت النشوة العابرة لدى القوى الاصلاحية
الطامحة، فأولئك الذين لقوا الحفاوة والترحيب من ولي العهد
مؤكداً لهم تبنيه الشخصي لمطالبهم الاصلاحية، وجدوا أنفسهم
خلف القضبان بتهمة اشاعة الفرقة والاضرار بالوحدة الوطنية،
بله بات المطلب الاصلاحي ذات عشية صنواً حميماً للتفرقة.
ببســاطة, يمثل التدبير الامني الغاشم ضد الرموز الاصلاحية
والذي تبنّاه ولي العهد سراً أو صمتاً هو انحياز تام مع
خيار التشدد المناوىء للاصلاح والخضوع لارادة الجناح السديري
الرافض من الناحية التكوينية للتغيير والمطالب الاصلاحية
الواردة في عرائض التيار الوطني بأطيافه المتنوعة. وفي
الوقت الذي كشفت فيه مثل تلك الردة عن المسار الاصلاحي
عن القوة الحقيقية لدى الامير عبد الله، فإنها كشفت ايضاً
عن حقيقة أن الاصلاحات المقترحة أو النموذج الاصلاحي المراد
تعميمه هو الذي لا يفضي في نهاية الأمر الى تكسير السلطة
الى اجزاء أو تقديم تنازلات سياسية أو تخلي العائلة المالكة
عن ما تراه حقوقاً تاريخية وعائلية متوارثة.
بإمكان المرء أن يتنبأ وربما يحدد على وجه الدقة الاسباب
الدافعة لموقف ولي العهد فهو مهما يكن ينتمي الى العائلة
المالكة، وهذا وحده كافٍ لتفسير خلفيات المواقف التي يتخذها
أفرادها، فهؤلاء يريدون الاحتفاظ بالسلطة مهما كلف الأمر،
وأن ما يضطرون لتقديمه هو القدر الادنى من السلطة. ولذلك
لم يكن استثناءً أن يتم تكريس الاهتمام بالطلاء الخارجي
لللدولة بحيث تبدو الاصلاحات السياسية كما لو أنها عرض
تجاري، بالرغم من أن هذا الاجراء الشكلي التضليلي لم يعد
صالحاً للاستعمال حتى في مقصده الدعائي، خصوصاً في ظل
عالم شفاف، مع التذكير بأن وسائل الاتصال لم تعد محتكرة
من قبل الحكومة، بحيث تكون قادرة على اختطاف الوعي والرأي
العام الخارجي على طول الخط. ولذلك فإن الاشكال الاصلاحية
التي ظهرت في السعودية خلال هذه السنة بقيت مسلوبة الجاذبية،
إذ لم تعد عملية إقناع الشعب سهلة خصوصاً في ظل ازمات
تزداد استفحالاً وتفاقماً، الامر الذي يجعل حتى الشعارات
الاصلاحية بعد الآن غير مقبولة مالم تتجسد في مشاريع حقيقية
ومثمرة.
المحاكمة الغاشمة
قضى الاصلاحيون الثلاثة: الدكتور عبد الله الحامد،
الدكتور متروك الفالح، الاستاذ الشاعر علي الدميني شهرين
في معتقل عليشه بالرياض، تخللتها مداولات عسيرة مع الاجهزة
الامنية من أجل تسوية الاعتقال غير القانوني بصورة سلمية
على أن يخرجوا من المعتقل دون توقيع تعهدات تقضي بحظر
النشاط الاعلامي والسياسي العلني. ولكن ما إن تصل الامور
الى نقطة الانفراج حتى تدخل في دوامة جديدة من الاجراءات
البيروقراطية والاحاديث المعقدة، حتى حسمت الاجهزة الامنية
الأمر بإخضاع الاصلاحيين للمحاكمة في التاسع من أغسطس.
ولابد أن الحديث عن المحاكمة يفتح بصورة تلقائية الباب
على الاجراءات القانونية المتبعة في مثل هذه القضايا،
وعلى الضمانات الكفيلة بتحقيق محاكمة عادلة وتوفير الشروط
القانونية لانعقاد جلسات المحكمة بحضور محامين يتمتعون
بكامل الصلاحيات ويحظون بالقدرة على التواصل مع المتهمين.
لقد حاولت عدد من المنظمات الحقوقية في جنيف ولندن
الى جانب منظمات حقوقية عربية في القاهرة وبيروت وتونس
التعرف على لائحة الاتهام الموجّهة الى الاصلاحيين الثلاثة،
ولكن دونما فائدة، فهذه اللائحة لا يمكن توفيرها في بلد
مازال النظام القضائي فيها مغلقاً وأن المحاكمات العلنية
تبدو مستهجنة. وفي حقيقة الأمر أن مسوّدة التحقيق مع الاصلاحيين
الثلاثة تلفت الى طبيعة الاتهامات التي يمكن أن يواجهونها،
وقد أفصح عنها الامير سعود الفيصل أول مرة ثم ذكرها الامير
نايف أمامهم واخيراً صارت جزءا من المسائلة غير القانونية
داخل المعتقل.
وطالما أن الغموض والسرية ستحيط بسير المحاكمات فإن
ما يتوقع صدوره من أحكام ضد الاصلاحيين غير مستغرب. إن
التفسيرات المقدّمة من قبل الامراء حول النشاط الاصلاحي
ستلقي بظلالها الكثيفة على سير المحاكمة، بما يجعل قائمة
الاتهامات تدور حول: الخضوع تحت تأثير جهات أجنبية وربما
العمالة للأجنبي، والعمل على إثارة البلبلة والفوضى وزعزعة
الامن والاستقرار والوحدة والوطنية، واستعمال وسائل الاعلام
من أجل الترويج لأفكار مخالفة للشريعة والقيم والتقاليد.
مهما كانت الاتهامات يبقى بأن هذه المحاكمة غاشمة ولا
تقل من حيث عدم شرعيتها عن قرار الاعتقال نفسه، وأن ما
بني على باطل فهو باطل بالضرورة. إن ثمة ايجابية في هذه
المحاكمة كونها ستكشف مواطن خلل أخرى ليس في النظام القضائي
فحسب بل في النظام السياسي السعودي برمته، وبالتالي ستفتح
الباب على ماهو مغفول عنه.
إن ثمة مسؤولية دينية ووطنية وانسانية ملقاة على عاتق
القوى الوطنية، الدينية والليبرالية، في أن تهب للاضطلاع
بدورها المنشود في هذه القضية التي لا يجب السكوت عنها
لارتباطها الشديد بالقضية الوطنية عموماً، ولأن الاصلاحيين
هم جزء من حركة وطنية طالما شارك الجميع فيها.
|