دولـة الشـأن الخـاص
دعي الملك فهد على مأدبة غداء في جدة حضرها جمع غفير
من الشخصيات السياسية والوطنية والاجتماعية الحجازية،
بحسب العادة المتبّعة في دعوة الملك والامراء الكبار في
العائلة المالكة، حيث يتنادى كبار الشخصيات لتلبية مقتضيات
الحفاوة والتكريم. اللافت في هذه المأدبة أن الملك فهد
حين همّ بمغادرة المجلس قام الحاضرون تكريماً له وتوديعاً
فمرّ عليهم وهو يوزّع ابتساماته على من يعرفه ومن لا يعرفه،
ولكّنه فجأة توقف عند أحدهم سائلاً: كيف حالك يا حاج محمد؟
فأجابه قائلاً: الحمد لله بخير.
والحاج محمد هذا هو من لدّات الملك فهد، فأراد أن يختبر
مؤهلاته الذاتية، فسأله باهتمام بالغ: كيف هي فحولتك يا
حاج محمد؟ فدهش الاخير بهذا السؤال وأرخى عينيه حياءً
ولعله يلفت الملك الى حراجة الموقف وانباءً له على الكف
عن مثل هذه الاسئلة. ولكن كبر مقتاً عند الملك فهد أن
يسأل ولا يجاب، فعاد بالسؤال تارة أخرى: سألتك يا حاج
محمد عن فحولتك كيف هي؟ فتنبّه الحاج محمد الى أن الملك
قد بلغ به العناد حده، والصلف مداه، والقسوة أشدها، وهنا
بدأ العرق يتصبب منه لأنه لم يعد يملك الخيرة من أمره..
يقول أحدهم: إن هذه من الامثلة على جبروت الملك أن يرى
الحاج محمد وقد سبح في غرق حيائه ولم يرحم شيبته، أو يقدّر
ذله ومسكنته في مجلس يغص بالحضور، ولا يحتمل هذا النوع
من الاسئلة التي لا تصح إثارتها في أي مجلس فكيف بمجلس
قد جمع علية القوم في الحجاز.
كان أحد المراقبين في المجلس لهذا الحوار غير الراقي
يتمتم مستاءً من سلوك الملك قائلاً: دعك من هذا فقد أنهكته
وانتهكت حرمة المجلس، ألم يثر انتباهك غير هذا الموضوع؟
وآخر قال: لقد أراد ـ أي الملك ـ أن يجد سلوة في الحاج
محمد بعد أن أصيب في فحولته، فأخذته الغيرة والحسد كيما
يجد من يشاطره المصاب الجلل في بيئة يفخر فيها الرجل بفحولته
أكثر مما يفخر بشيم الرجال وبمبالغ الكمال.
وكيما يريح المجلس من وقفة غير تاريخية، أخرج الحاج
محمد ما تبقى مما يملك من شجاعة وجرأة، وقد بلغ بالحضور
الاجهاد من طول الوقوف في توديع الملك، فإضطر أن يعطيه
جواباً مريحاً قائلاً: لم يتبق من الفحولة ما يستحق. وهنا
تنفس الملك الصعداء، وبدت تباشير المسّرة على وجهه بعد
إن اكتشف بأنه ليس العضو الوحيد في نادي الخارجين عن الخدمة
(بالطبع ليس مؤقتاً بل دائماً).
قصة أخرى يعود تاريخها الى مطلع التسعينيات حيث كانت
أجواء إحتلال الكويت والحرب على العراق قد أرخت ذيولها
على المنطقة، كيف وقد غيّرت ـ تلك الاجواء ـ المزاج العام
في البلاد، حتى تجرأ الناس على القدح في أهل الحكم، والسخرية
بهم، والهزء بسياساتهم وصارت مخالفة القوانين أصلاً، ونقد
ولاة الأمر ركناً، وترهّل نسيج الدولة، حتى غدى كأنه عرضة
لمزقة الشارد وطمع الوارد.
في غضون ذلك، كان هناك رجل من أهل الثقافة والفكر ينتمي
الى عائلة نجدية معروفة ومتداخلة مع العائلة المالكة وتمثل
في الوقت نفسه حليفاً استراتيجياً داخلياً، وكان هذا المثقف
قد دأب في فترة التسعينيات على انتقاد العائلة المالكة
في المجالس العامة، وقد بلغت انتقاداته أسماع الملك فهد
الذي كان يحكم القبضة على كافة الاجهزة، بما في ذلك الاجهزة
الأمنية لسببين: أولاً لأنه كان في الاصل وزير داخلية
سابق ويدرك خطورة هذه الاجهزة ودورها في تمكين الملك من
الدولة وخصوصاً في فترة عصيبة كتلك التي تشهدها البلاد
بعد الثاني من أغسطس 1990، وثانياً لأن الأمير نايف كان
منغمساً في تلبية أوامر وطلبات زوجته الأمر الذي أخلّ
بدوره الموكل اليه. على أية حال، إشتاط الملك حنقاً من
انتقادات المثقف النجدي، ولكن لم يكن من الحكمة ان يقدم
الملك على اعتقاله دونما سبب وجيه وواضح، فقرر أن يتخذ
أسلوباً أكثر حصافة وليناً، ولكنه ينطوي في الوقت ذاته
على تحقيق المكنة السياسية والسيادة العليا للدولة. ولضيق
صدر الملك فهد من النقد، شأنه شأن الملوك والرؤساء العرب
قاطبة، اتصل الملك بهذا المثقف، وحين رفع الاخير سماعة
التلفون سأل: من معي؟ قال: معاك الملك فهد يا كذا وكذا
(من ألوان السباب والشتم غير المباح ذكره في المجالس العامة)،
انت الذي تنتقدنا ونحن كذا وكذا فيك، ثم أغلق السماعة
بعد إتمام البيان الملكي غير الرسمي، وبالمناسبة فإن قائمة
الشتائم الواردة في البيان تتعلق أيضاً بالفحولة.
يذكر أيضاً بأن القمم الخليجية وربما العربية تزخر
بهذا النوع من القضايا ذات الاهتمام المشترك، حيث تدور
أغلب المناقشات الجانبية وخارج صالة المؤتمرات وربما في
داخلها ولكن بعيداً عن كاميرات التلفزيون حول الانتصارات
الجنسية التي يحققها القادة ووزراء الخارجية العرب في
حروب غير معلنة ولكنها شديدة الضراوة، أو الهزائم على
الصعيد نفسه، وخيارات الصلح البديلة، حيث يستعرض بعض المسؤولين
جداً آخر منتجات معالجة الازمة المستفحلة في فحولة القادة
العرب.
يذكر جون فيلبي وقد كان شاهداً لفترة طويلة على عصرابن
سعود يقول بأن أهم موضوعين يحظيان بالاهتمام الأكبر في
مجلس ابن سعودهما: الأول، الجنس والمقوّيات الجنسية، والاسرة
الهاشمية باعتبارها الغريم السياسي للعائلة المالكة.
لعل أهم فكرة يمكن استخلاصها من كل ما ذكر هي أن ما
يقال في العلن من الملوك والقادة لا يعكس بالضرورة شخصياتهم
الحقيقية، لأن الكاشف الحقيقي لسيرة وشخصية الانسان، والدالّ
على اهتمامه هو ما يدور خلف الكواليس وفي المجالس الخاصة
أو يقال في المناسبات غير الرسمية حيث يختلي المرء بنفسه
او بمن يحب البوح اليهم، وقد تكون القصص سالفة الذكر معالم
على طريق فهم شخصية ولاة أمرنا أعلى الله مقامهم!!
|