ثلاثي الرياض جوزف سماحة
خبر سيئ من السعودية: المحاكمة.
خبر جيد: العلانية.
الخبر السيئ هو أن لائحة الاتهام الموجهة إلى ثلاثة
مطالبين بالإصلاح الديموقراطي ليست مقنعة: الدعوة إلى
ملكية دستورية، الإساءة إلى الدولة والتشكيك بنهجها، إصدار
بيانات إلى الرأي العام المحلي والعالمي، جعل أنفسهم أوصياء
على المواطنين، الدعوة إلى فصل السلطات، الإقدام على تصرفات
تتضمن إثارة وفتنة، إلخ... وهي لا تستحق، أصلاً، محاكمتهم
فكيف بطلب (تشديد العقوبة حيالهم).
إن متابعة نشاط هؤلاء الثلاثة، متروك الفالح، عبد الله
الحامد، علي الدميني، وقراءة ما كتبوه تؤكد أنهم سعوا
إلى الحوار، وعرضوا وجهة نظرهم على (ولاة الأمر)، واعترضوا
على العنف والإرهاب، وامتنعوا عن المطالبة بتغيير النظام،
واحتجوا على السياسة الأميركية في المنطقة، وطالبوا لبلادهم
بدور أكثر فعالية وتطابقاً مع المزاج الشعبي، ورفضوا التفسيرات
الغربية لنشوء حالة التطرف. أي أنهم نوع من المعارضة يفترض
أن يتمناه كل حاكم لنفسه. ليس في ما فعلوه أو قالوه ما
يستحق المحاكمة. أقصى عقوبة حيالهم يمكنها أن تكون التجاهل.
هذا الخبر سيئ لأن تسعة من زملاء الثلاثة أحرار. ويعني
ذلك أن الذنب الوحيد المقترف هو رفض التوبة ورفض التعهّد
بعدم مخاطبة المواطنين ثانية.
الجانب الجيد (؟) في الخبر هو أن المحاكمة علانية وتتم،
كما يبدو، بشفافية. المحامون حاضرون. لائحة الاتهام معلنة.
ثمة فترة لدرس الملف وإعداد الدفاع عن النفس. ويحصل ذلك
في سياق انفتاح بطيء قاد إلى تدشين حوارات وطنية، وإلى
ضبط خطاب التطرف، وإلى الاستعداد لانتخابات بلدية (مهما
قيل فيها)، وإلى تقبّل الرأي الآخر، وإلى الاعتراف بوجود
نواقص، وإلى الاهتمام بزيادة مضبوطة في المشاركة الشعبية،
إلخ.
ليس بسيطاً ما يجري في المملكة، ولو أنه، بالنسبة إلى
كثيرين، ليس كافياً. تراجع أي طعن بمبدأ الإصلاح. لكن
النقاش مستمر حول المدى، والوتيرة، والمراحل، والقوى،
والوجهة. إنه نقاش لا يحسمه حكم قضائي. يحسمه الرأي العام
أو تحسمه توازنات سياسية بين المجتمع والسلطة وبين تيارات
المجتمع وتيارات السلطة.
لا أحزاب في السعودية. لكن هناك قوتي ضغط متعارضتين
ومتوافقتين. ثمة قوة تكفيرية، ضيقة الأفق، تغذي الميول
الإرهابية، تفتيتية، نابذة حتى لمواطنين، ذكورية بشكل
مرضي، تدّعي أنها الأقرب إلى النسخة الأصلية للخطاب الرسمي
وتحارب باسمه. وثمة قوة ديموقراطية وليبرالية بالشروط
الموضوعية للبلد، واعية لأوضاع وطنها وأمتها، وللحساسيات
والتركيبات المعقدة. لا تعرّض الوضع القائم لأي انقلاب.
تريد التدرج في التغيير وتدعو إلى الحكمة في الاختيار
الدقيق لكل خطوة إلى الأمام.
تلتقي القوتان، حسب العرائض المنشورة، عند لحظة إجماع
وطني نادر ينتقد السياسة الخارجية الأميركية في المنطقة.
يستعيد نمط انتقادي الأطروحات البن لادنية المنغلقة، والمغامرة،
والمعادية لكل آخر، في حين يندرج نمط انتقادي آخر في المزاج
الكوني الذي هو، في الأعم الغالب، رافض لتوجهات الإدارة
الأميركية الحالية.
ولأن هذه نقطة التقاء فإن المحاكمة تستدعي منا، في
ما تستدعي، أن نراقب سلوك واشنطن بدقة.
فمنذ أشهر والولايات المتحدة تزعم أنها تريد انتهاج
سياسة جديدة في عالمينا العربي والإسلامي تقوم على الفرضيات
التالية:
1 الاعتراف بأن (خطأ) حصل على امتداد خمسين عاماً تمثل
بدعم أنظمة لمجرد أنها حليفة ومتجاوبة مع التعريف الأميركي
للمصالح الوطنية.
2 الاعتراف بأن هذه السياسة أدت الى احتقانات في المجتمعات
العربية التي قادتها أنظمتها هذه إلى التعثر.
3 (ملاحظة) أن الأنظمة دفعت التذمر الشعبي، وهو منها،
لتجعل منه احتجاجاً عنيفاً على الخارج، واستخدمت لذلك
حججاً واهية ذات صلة بسياسات هذا الخارج حيال قضية فلسطين
وسواها.
4 الدعوة إلى تغيير التوجه ورفع شعار (الشرق الأوسط
الكبير) لإظهار أن الرهان بات على الديموقراطية، وعلى
التقاء القيم الأميركية بالمصالح الأميركية، وأن (الحريات
للعرب والمسلمين) مصلحة وطنية وأمنية أميركية إذ يكمن
فيها، لا في حل المشاكل الوطنية، العلاج البعيد المدى
للإرهاب.
5 التعهّد بعدم جواز السماح للعلاقة مع أي نظام بأن
تمنع دعم قوى التغيير والإصلاح والديموقراطية. إن الالتزام
بهذا التعهّد هو السبيل الوحيد لردم هوة الثقة بين واشنطن
وشعوب المنطقة.
قيل في مواجهة هذه الفرضيات إنها مجرد ادعاءات. فالولايات
المتحدة لا تعارض الديموقراطية في المبدأ، ولقد كانت (حقوق
الإنسان)، على الدوام، أداة من الأدوات الناجحة في بعض
سياستها الخارجية، ولكن الأمر لا ينطبق على علاقتها بالعرب.
فهي، في هذه العلاقة، ترتضي القدر اللازم من (الديموقراطية)
الذي لا يهدد علاقة التبعية والالتحاق التي نجحت في فرضها
على النظام العربي الرسمي. إن أولويتها، بهذا المعنى،
تأمين مصالحها بالطريقة التي شهدناها في العقود الماضية.
وإذا كان من تغيير فهو باتجاه تأييد (الديموقراطيين) و(الليبراليين)
العرب الذين يوافقونها النظرة إلى هامشية قضية فلسطين،
ووصم كل مقاومة بالإرهاب، وإلى إنجازات الاحتلال في العراق،
وإلى حيوية مشاريع الخصخصة وفتح الأسواق وتحرير التجارة،
إلى ما هناك من أوليات لاستكمال إخضاع المنطقة بواسطة
القضاء على التطلب الوطني والقومي وتغليب الليبرالية الاقتصادية
على حساب (قرينتها) المفترضة الديموقراطية السياسية.
قد تبدي واشنطن استعداداً للتضامن مع ديموقراطيين يختلفون
مع سياستها حيال قضاياهم لكنه، إذا حصل، سيكون تضامناً
من طرف اللسان ولمجرد التمويه. لن يكون، إطلاقاً، عنواناً
لسياسة، ولا مقياساً لعلاقة مع نظام، فكيف إذا كان هذا
النظام متجاوباً مع سياساتها في مكافحة الإرهاب، وتأمين
التدفق النفطي، ومتأقلماً قدر المستطاع مع توجهاتها الإقليمية
والدولية.
لن يجد (ثلاثي الرياض)، والحالة هذه، من يدافع عنه
جدياً إلا الحريصون على السعودية، ودورها، ومكانتها، وقوتها،
وتقدمها، ونجاحها في إصلاح أوضاعها.
قد نقرأ (صرّح ناطق باسم الخارجية الأميركية).. لكنه
تصريح أخرس. إن الولايات المتحدة ستسقط في الاختبار لسبب
بسيط: التناقض كامل وجذري بين الديموقراطية للعرب وبين
هذا الشكل من تأمين المصالح الأميركية لديهم!
السفير، 11/8/2004
|