عندما يكون ( الإصلاح) جرماً
قراءة في محاكمة الإصلاحيين في السعودية
عبدالرحمن اللاحم
لقد غدت مفردة ( الإصلاح) من أكثر المفردات استخداماً
لدى النخب المثقفة في السعودية بعد تفشي أجواء الانفتاح
وروح النقد والشفافية التي سادت خلال السنتين الماضيتين
في السعودية وشهدت حركه سياسية غير مسبوقه، وتم خلالها
تقديم العديد من الرؤى الإصلاحية للقيادة السياسية، شارك
في بلورة أفكارها والتوقيع عليها رموز وطنية من كافة الطوائف
الفكرية و المذهبية. هذه الطوائف اعتمدت المطالبة بالحقوق
السياسية المشروعة، والدعوة إلى دور شعبي فعال، وتحفيز
الدخول في المعادلة السياسية، والمطالبة- بأسلوب سلمي
وحضاري -بحقوقها من توسيع لهامش المشاركة السياسية في
صناعة القرار، وإزالة القيود على حرية التعبير، وتحسين
الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والرقابة الشعبية
على أداء المؤسسات الحكومية، وإيقاف عمليات هدر المال
العام، والسيطرة على تورم الدين العام الذي يهدد مستقبل
الأجيال القادمة. وهذا التنوع في الخارطة الفكرية والمذهبية
والجغرافية لدعاة الإصلاح يعطي مؤشراً بأن مطلب التغيير
والإصلاح أصبح مطلباً وطنياً شاملاً، وأن أية خطوات في
إتجاه الإصلاح لا بد أن يكون الشعب جزءً فيها ومشاركاً
أساسياً في برمجة خططها.
لكن يبدو أن (ربيع الرياض) لم يعمر طويلاً، ولم يكن
سوى فجراً كاذباً سرعان ما تلاشت أنواره وعادت الأوضاع
إلى ما كانت عليه، حيث ضاقت المؤسسة السياسية السعودية
من دعوات الإصلاح الجادة، فأقدمت على إعتقال رموزه وكبار
دعاته، ومن ثم أفرجت فيما بعد عن مجموعة منهم بعد تجريدهم
من حقوقهم السياسية والمدنية، وأصرت على تقديم ثلاثة منهم
(الدكتور عبد الله الحامد والدكتور متروك الفالح والشاعر
علي الدميني) والذين رفضوا التنازل عن حقوقهم السياسية
المشروعة، إلى المحاكمة، وكانت التهمة الموجهة لهم (الدعوة
إلى الإصلاح) بعد أن حورها الإدعاء العام إلى أنها (دعوة
إلى الفتنة، ونزع يد الطاعة، والتأليب على ولاة الأمر
ومناهضتهم، وبث بذور الخلاف بين أبناء الشعب، وإثارة التحزب
المذهبي والطائفي).
لا يمكن تكييف (البيان) الذي تلاه المدعي العام في
الجلسة الإفتتاحية لمحاكمة الإصلاحيين على أنه (لائحة
اتهام) بالمعنى القانوني للمصطلح، ولا اعتقد أنه يمكن
قبوله بهذه الصفة في أي نظام قضائي على هذا الكوكب، حيث
لم يرد في تلك اللائحة أي نص شرعي أو قانوني يسند التهم
المدعى بها، ولم يتم تأسيسها من الناحية الشرعية أو القانونية،
الأمر الذي يجعل الرد عليها ضرباً من ضروب العبث. فهي
ـ أي اللائحة- قد حُشيت بإدعاءات مرسلة مبنية على إفتراضات
ومحاسبة للنيات، ومبنية على منطق سياسي عفا عليه الزمن
سيعوق في حالة الاستمرار عليه الخطوات نحو التنمية والتحديث،
وسيرسخ مفهوم الاُحادية السياسية ومصادرة الحريات وحرمان
الشعب من التعاطي مع الشأن العام، في وطن الجميع شركاء
في حاضره ومستقبله.
إن كل الممارسات التي زعم الإدعاء بأنها أفعال مجرمة
وطالب (بإنزال العقوبة الشديدة عليها) ما هي إلا ممارسات
مباحة لا يوجد نص شرعي (صريح صحيح) يجرمها، ولم يرد ثمة
نص قانوني في أي وثيقة قانونية في المملكة العربية السعودية
يمنع مثل تلك الأفعال، بل على العكس من ذلك، فقد ضمنت
النصوص القانونية السارية في السعودية حرية التعبير، وجعلتها
حقاً أصيلا من حقوق المواطن، ومن ذلك ما نصت عليه المادة
الثامنة من نظام المطبوعات و النشر بأن (حرية التعبير
عن الرأي مكفولة بمختلف وسائل النشر في نطاق الأحكام الشرعية
والنظَامية). لذا فإن الإصلاحيين الثلاثة وغيرهم إنما
يركضون في منطقة مباحة لم يطلها التحريم، وبالتالي فلا
يوجد مبرر قانوني لمساءلتهم قضائياً عن تلك الأفعال.
بل أن الخطاب السياسي الرسمي للقيادة السعودية تبنى
أطروحات الإصلاح وأكد على ضرورة (المشاركة الشعبية) وإطلاق
الحريات في تناول الشأن العام، ووعد بجملة من الإجراءات
الإصلاحية التي تصب في ذلك السياق، الأمر الذي يجعل ممارسة
تلك الأفعال أو الدعوة لها، والتي تستند عليها وزارة الداخلية
في الادعاء على هؤلاء، ما هي إلا واجبات وطنية تجاه الوطن
والمواطن، على الجميع المشاركة فيها، والتفاعل معها دفعاً
لعملية التحديث السياسي والحقوقي في السعودية، بل أن العاهل
السعودي الملك فهد بن عبد العزيز وعبر خطابه الشهير في
مجلس الشورى بتاريخ (17/5/2003) استخدم ولأول مرة مفردة
لم تكن دارجة في القاموس السياسي السعودي وهي مفردة (المشاركة
الشعبية) وأكد على أن الجميع شركاء في الوطن، وبالتالي
فللمواطن الحق الكامل في تناول القضايا المتعلقة بهذا
الوطن.
كما أن ولي العهد السعودي الأمير عبد الله بن عبد العزيز
- الرجل الثاني في الدولة - كان قد استقبل الإصلاحيين
وتسلم منهم وثيقة (رؤية لحاضر الوطن ومستقبله) والتي وردت
كإحدى التهم الجنائية في لائحة اتهام الإصلاحيين، وأكد
بأن تلك المطالب هي مطالبه هو شخصياً، ومن ثم نفاجأ بأنها
أدرجت في (القاموس الجنائي السعودي) على أنها جريمة تستحق
أشد عقوبة، كما ورد في لائحة الاتهام.
إضافة إلى ذلك، فإن مجريات المحاكمة أبانت مدى تدخل
السلطة التنفيذية في أعمال السلطة القضائية، حيث استجابت
المحكمة لقرار وزير العدل الذي يعد جزء من السلطة التنفيذية
باستبعاد ثلاثة من محامي الدفاع عن المعتقلين، مع أن اختصاصات
وزير العدل لا تعطيه الحق في إصدار مثل هذا القرار، كما
أنه ينال من استقلالية القضاء الذي طالب ولا زال يطالب
به الإصلاحيون، حيث أن ذلك الإجراء يعد تدخلاً في مجريات
المحاكمة، وإدارة الخصومة التي تنفرد بها المحكمة ولا
سلطان عليها في ذلك إلا سلطان الشرع والأنظمة السارية،
كما ينص على ذلك النظام الأساسي للحكم. ولا ريب أن استقلال
القضاء هو أحد الركائز الأساسية في المطالب الإصلاحية
التي اعتقل هؤلاء الإصلاحيون من أجلها.
إن محاكمة الإصلاحيين السعوديين أعادت المطالبة بضرورة
إيجاد قانون جنائي مكتوب يحدد سلفاً القاعدة الجنائية
بشقيها (السلوك والعقوبة) بشكل دقيق، حتى لا يكون هناك
كوة تنفذ منها الأجهزة الأمنية لتكميم الأفواه وتجريم
المطالبين بالإصلاح والتحديث السياسي، تحت ذريعة المساس
بالوحدة الوطنية، أو نزع يد الطاعة أو التأليب على ولي
الأمر، أو إثارة الفتنة، وغيرها من التهم المعلبة التي
لا تنتهي ولا يحكمها قاعدة أو نص مكتوب يمكن التحاكم إليه.
كما أن غياب مثل هذا التقنين يُغيب المواطن عن معرفة مركزه
القانوني بشكل واضح، ويعيق في الوقت ذاته إنضمام السعودية
إلى الوثائق والصكوك والمعاهدات الدولية المتعلقة بحقوق
الإنسان والتي تعتبر (المشروعية الجنائية) إحدى محدداتها
الأساسية حيث (لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص) خصوصاً وأن
المملكة العربية السعودية شهدت في الفترة الأخيرة انفتاحاً
على المؤسسات والمنظمات الحقوقية الدولية، بما يرسخ قناعة
الحكومة بإحداث توازن بين الإصلاح السياسي الداخلي، وأفكار
المنظمات الدولية في الخارج.
لقد سمحت السعودية بزيارة وفود منظمات حقوقية دولية،
من أبرزها ممثل للجنة حقوق الإنسان التابعة لهيئة الأمم
المتحدة، ووفد لمنظمة هيومن رايتس والتقوا بمجموعة (منتقاة)
من القضاة والمحامين واطلعوا على (بعض) السجون والمنشآت
التابعة لها.. إلا أن تلك الخطوات لا بد أن تتبع بإصلاحات
تشريعية من خلال مراجعة شاملة للبنية التشريعية للدولة،
ومواصلة حركة التقنين في كافة المجالات، وعلى وجه الخصوص
فيما يتعلق بالجانب الجنائي.. لاسيما وان تجربة تقنين
المواد الجنائية في السعودية نجحت بشكل كبير من خلال تقنين
الجرائم المتعلقة بالوظيفة العامة (الرشوة ـ التزوير-
العدوان على المال العام) وكان من المفترض مواصلة حركة
التقنين في ظل التحديث الشامل للنظام القضائي السعودي
من قبل المؤسسة التشريعية، والتي كان من مظاهرها صدور
الأنظمة القانونية ( نظام المرافعات الشرعية ـ نظام الإجراءات
الجزائية ـ نظام المحاماة) حيث مثلت خطوة إيجابية في ترسيخ
قيم حقوق الإنسان في النظام التشريعي، لكنه لن يكتمل ما
لم تقنن جرائم التعازير، وتقيد سلطة القاضي من حيث تحديد
الأفعال المؤثمة، وتحديد العقوبة عليها سلفاً. بدون ذلك
يكون القاضي قد مارس اختصاصاً مزدوجاً يتمثل في التشريع
والقضاء وخصوصاً وأن النظام الأساسي للحكم (الدستور المكتوب
للدولة) قد نص في مادته الثامنة والثلاثين على أن: (العقوبة
شخصية ولا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على نص شرعي أو نص
نظَامي، ولا عقاب إلاّ على الأعمال اللاحقة للعمل بالنص
النظَامي).
إن قبول مثل تلك التهم الموجهة للإصلاحيين المعتقلين
والتسليم بها سيرسخ احتكار السلطة السياسية للفضاء الاجتماعي
والسياسي، وسيحرم المواطن من حقه في ممارسة المواطنة من
خلال المشاركة السياسية بالوسائل السلمية، وسيساهم بشكل
مباشر في ضمور الإنتماء الوطني في وقت تحتاج السلطة السياسية
إلى تعميق روح المواطنة لدى قطاعات الشعب المختلفة وتجسير
العلاقة والثقة المتبادلة بين دعاة الإصلاح والمؤسسة السياسية..
وذلك لا يكون إلا عبر إطلاق الحريات، وحماية الحقوق، وليس
عن طريق الخطب والأهازيج الوطنية واستقبال وفود القبائل
والأعيان؛ وبالتالي فإن نتيجة هذه المحاكمة ستكون (البوصلة)
التي ستحدد مستقبل الإصلاح السياسي في السعودية، حيث أن
إدانة هؤلاء الإصلاحيين بأي صورة سينعكس بشكل سلبي على
الحريات، وسيوقف الحراك الشعبي نحو الإصلاح والتحديث،
وسيؤكد بأن (حركة الإصلاح الحكومي) لا تعدو أن تكون جرياً
في المكان.
إن هذا التصعيد يؤكد بأن الحكومة اختارت ـ إزاء الاختناقات
والمشكلات المستفحلة التي تواجه الوطن على كافة المستويات
الإقتصادية والسياسية والاجتماعية ـ الأسلوب الأمني لتدوير
الأزمة، وممارسة الهروب للأمام، وتجاهل الاستحقاقات الوطنية
الملحة وترسيخها (دستورياً) من خلال تدشين إصلاحات دستورية
حقيقية من أهمها إقامة سلطة تشريعية منتخبة مباشرة من
الشعب تكون لها سلطة رقابية على كافة السلطات في الدولة،
والعمل على معالجة المرجعية الفردية للبنى السياسية للدولة
(التشريعية والتنفيذية والقضائية) والفصل بينها حتى يمكن
الحديث عن دولة (المؤسسات) وسيادة القانون.
إن (حرية التعبير) بكل مكوناتها هي الحبيسة في قفص
الاتهام في محاكمة الإصلاحيين في السعودية، وليس أولئك
الشرفاء الثلاثة الذين حملوا هم وطنهم ومستقبله وضحوا
بحريتهم في سبيله، وستكون هذه المحاكمة المحك الحقيقي
للقضاء السعودي ومدى كونه سياجاً لحريات المواطن وحقوقه
من عدوان السلطة، ومدى استقلاله عن كافة المؤثرات السياسية.
لقد كان من بين الصور المعبرة في أولى جلسات محاكمة
الإصلاحيين في السعودية صيحات (مالك) و(غيداء) الرضيعين
اللذين مزقا حجب السكون في المحكمة، حيث ضجت قاعة المحكمة
بصرخات ذينك الرضيعين، وكأنهما يريدا أن يسجلا رفضهما
وإستنكارهما لمحاكمة دعاة الحرية والإصلاح وأن يعترضا
على أن توضع (الحرية) في قفص الإتهام، وكأن (غيداء) و(مالك)
يعلنان ميلاد جيل جديد يعتز بكرامته ويعي حقوقه ويناضل
من أجلها، ويرفض كل صور ومظاهر الاستبداد وتكميم الأفواه..
جيل يستشعر إنسانيته وحريته ويدرك أنها حق أصيل لا يوهب
له بأمر ولا يسلب منه بنهي.
نقلاً عن الجزيرة نت
|