ولات حين وطن
في اللقاء الذي جمع ولي العهد بوزير التربية والتعليم
ونائبه لشؤون البنات ووكلاء الوزارة ومديري عموم التربية
والتعليم في مناطق المملكة للبنين والبنات بمناسبة العام
الدراسية 1425/1426هـ تظهر نبرة جديدة، فلأول مرة يجري
الحديث عن مشروع تربوي يستهدف تعزيز حسب ما جاء في الخبر
(الأمن الفكري بين الطلاب والطالبات). وينبّه المشروع
كلا من المعلّمين والمعلمات والطلاب والطالبات الى ضرورة
المحافظة على الامن وتعميم مفاهيم الاعتدال والتسامح والمحبة
ونشر الثقافة الوسطية في الاعتقاد والسلوك والتحذير من
الغلو والتكفير والمفاهيم الخاطئة.
ولاشك أن هذا المشروع يمثل انتقالاً جوهرياً في الوعي
التعليمي وقبل ذلك في الوعي السياسي لدى القيادة العليا
للدولة، كونه يحمل إقراراً ضمنياً بفشل وخطورة المنهج
التعليمي السابق والمسؤول بدرجة أساسية عن اشاعة الفكر
الاحادي ومبادىء التشدد والعقيدة الاستئصالية. لكن ما
يفوت مصممي هذا المشروع هو أن المحرّك الرئيسي وراء ذلك
ليس كون الطلاب والطالبات من خارج نجد قد تشرّبوا هذه
العقيدة أو أن الديار الخاضعة تحت حكم آل سعود قد تشبّعت
بالمواد التعليمية الدينية والتاريخية بحسب التفسير الرسمي
للدولة، فمن الثابت أن تأثيرات هذه المواد قد أصابت بأضرارها
المجتمع الديني الوهابي الذي تربى على الايمان الصارم
بنزاهة وطهارة منظومة المعتقدات الحاثّة على تقسيم العالم
الى أهل توحيد وأهل ضلال وان الكون يغرق في ظلام دامس
ما لم ينعم بالنور الذي يسري في حلقات الدعاة، وإن تطلب
ذلك اشعال النار في اجزاء من هذا العالم كيما يصل اليه
النور.
لقد أشاعت الدولة عبر مناهج التعليم السابقة ثقافة
الكراهية ونبذت قصيّاً مبادىء التسامح والاعتدال والتعددية
التي كان المواطنون داخل المملكة بحاجة ماسّة اليها قبل
أن تكون حاجة حضارية من أجل التعايش المشترك بين بني الانسان
وتحقيقاً لمفهوم التفاعل الثقافي بين شعوب العالم. إنها
بتلك المناهج التعليمية فصلت أجزاء المجتمع عن بعضها عن
طريق إخضاعها الى تصنيف: مسلم موحّد، ومشرك وكافر، فصار
التعليم يربي أبناء البلد الواحد على الاعتقاد بأن منهم
مشركين وكفّارا وأن ذلك منصوص عليه في الكتاب التعليمي
الحكومي. فبدلاً من أن تنمّي المؤسسة التعليمية ثقافة
الوطن الواحد والحاضن للتنوع الثقافي والمذهبي والاثني،
فإذا بها تتحول الى أداة لتعزيز الانقسام على خلفية دينية
مذهبية.
لم تكن أحداث الحادي عشر من سبتمبر وحدها المنبّه الوحيد
الى خطورة السياسات التعليمية السائدة حينذاك، فقد نبّه
المتضررون في الداخل في مراسلات وعرائض متصلة الى ولاة
الأمر، لما تضمنته المقررات التعليمية من نصوص تحريضية
ضد مناطق وطوائف، ولكن لأن الحكومة كانت تشعر بأن أصوات
من في الداخل قابلة للخنق والاخماد فقد أعطت العائلة المالكة
نداءات الداخل إذناً من طين وأخرى من عجين، حتى اذا ارتطمت
الطائرات الانتحارية بأبراج نيويورك وبدأ نذير الحرب على
الارهاب يدق العرش السعودي أصبحت الحاجة الى تغيير المناهج
خياراً استراتيجياً وضرورة حضارية.
ولكن ولات حين مندم، فهاهي الدولة تأكل حصرماً مما
زرعت وتحصد هشيماً في ريح صرصر عاتية، فالوطن الذي أريد
بعث رميمه قد مات في وجدان أهله، لأنه وطن مفتعل، لم يشهد
النشأة الطبيعية والتطور التلقائي ولم يسقى ويرعى من أهله
عن رضى وقناعة تامة.
ليس من حق الامير عبد الله ان يتساءل باستغراب ودهشة
عن غياب الوطن في المشروع التعليمي المقترح، لأن هذا الوطن
لم يكن حاضراً لعقود، بل إن السياسة التعليمية كانت قائمة
على نفيه ونبذه، اذ لا يجتمع التقسيم مع الوطن لأن شرطه
الجوهري والمركزي هو الوحدة وهي الغائب دائماً في التخطيط
التعليمي، ولأن الوحدة تتطلب اعترافاً بالتنوع، والتنوع
يتطلب إيماناً بحق الآخر في الاعتقاد، واعتناق مبدأ التسامح
والاعتدال، فإن كل متواليات الوحدة كانت غائبة فغاب معها
الوطن تبعاً لذلك.
كما ليس من حق الامير عبد الله أن يقذف باللوم على
من يأمل فيهم الاضطلاع بدور المبشِّرين بوطن واحد، أو
من يرنو اليهم كي يغرسوا بذرة حب الوطن. لقد تساءل الأمير
ذات مرة عن ضعف الاحساس بالوطن لدى التلاميذ، وها هو الآن
يسأل عن سر غياب حب الوطن. لقد سمع من مسؤولي التعليم
أشياء عديدة باستثناء حب الوطن وحسب قوله (ما سمعت شيء
وهو غرس حب الوطن في أبنائكم التلاميذ.. ما سمعت هذه منكم
كلكم.. سمعت مطالب فقط وهذه أهم شيء).
كان يفترض من الأمير أن يدرك بأن هذا الوطن لم يولد
حتى يحظى بالحب والرعاية، ولا يمكن لمشاعر الحب أن تتشكل
إزاء شيء معدوم فقد يتبرعم احساس من نوع ما ازاء شخص أو
مكان أو قضية حتى في الطور الجنيني ولكن أن ينال كل الحب
وكل الاحساس فذلك مستبعد، لأن الوجدان الانساني يتعامل
مع الاشياء من حوله بطريقة تدرّجية وفي الوقت نفسه غير
إكراهية، اي أن الحب للوطن يتشكّل من وشائج معقّدة تاريخية
ولغوية وثقافية وسياسية واجتماعية واقتصادية. إن هذا الحب
لا يكفي فيه ان ينمّى عن طريق التعليم الرسمي ولا اشاعة
الاحساس بالخطر الجماعي رغم أهميتها ولكن هناك مجموعة
تفاعلات تتظافر مجتمعة في تشكيل تلك الشعيرة الغائبة في
بلادنا وهي حب الوطن.
|
