من هو الضالّ المضلّ: الحكومة أم جماعات العنف
أما آن (للفئة الضالة) أن تنتهي؟
لا نقصد من العنوان التساؤل عن توقيت توقف فئات العنف
عن ممارسة عنفها ضد الدولة (وإن كان هذا مما يتمناه المواطنون
في معظمهم).. لكن ما نقصده بالضبط، هو التساؤل عن مصير
تلك الفئة التي تقول الحكومة وأجهزتها أمنها أنها انتهت
أو أنها في طريقها الى الإنتهاء.. حيث يصرّ الخطاب الرسمي
على أن دعاة العنف مجرد فئة صغيرة تمّ تضليلها، وأن الجهد
توجّه لاستئصال قادتها ورؤوس تنظيرها، وقد تمّ ذلك ـ كما
يقول الخطاب الرسمي ـ الأمر الذي دفع مسؤولي الأمن بل
وأعلى هرم السلطة الى زفّ البشرى للمواطنين بأن العاصمة
وبقيّة المدن ستعود الى حالتها الطبيعية، بلا حواجز تفتيش،
ولا أصوات انفجارات، ولا اغتيالات.
لقد بالغ المسؤولون في قوة الجهاز الأمني، وأثنوا على
الإستراتيجية الأمنية التي اتبعت: ضرب الرؤوس، الحشد الديني
المضاد الذي يقوده مشايخ السلطة، تفنيد مبررات العنف جميعاً
حتى تلك الحقيقية، واستعراض العضلات الأمنية في الشوارع
وغيرها، وتحفيز قوى الأمن بالمزيد من الإمتيازات والرواتب،
وأخيراً التعاون مع السي آي أيه والإف بي آي واستيراد
أجهزة حديثة لمكافحة الإرهاب.
وخلال الأشهر الثلاثة الماضية لم يعد هناك حديث عن
مراجعة الذات وإصلاح الخلل في الممارسة السياسية والأوضاع
الإقتصادية والإجتماعية، حيث اضطرّ الإعلام المحلّي الى
التماشي مع السياسة الرسمية، بأن لا وجود لمسببات العنف،
لا فكرية ولا اقتصادية ولا اجتماعية. كل ما في الأمر أن
(الخوارج الجدد) هبطوا من السماء، وأنهم استخدموا من قبل
حركات عنف عربية وإسلامية خارجية لتحقيق مآربها، ولا علاقة
للأمر بأي خطأ ارتكبته العائلة المالكة!
هذه الصورة الساذجة والإستراتيجية المتهافتة يراد لها
أن تقضي على العنف. وبالأمس القريب (10/10/2004) صرّح
وزير الداخلية بأن الوضع الإقتصادي ليس سبباً للعنف، أما
الدليل الذي ساقه فهو أن أكثر من انخرط في العنف يتمتعون
بدخول معقولة ولهم عمل أي لا يعيشون بطالة. والحقيقة ان
هذا التحليل من رأس الجهاز الأمني يرثى له، فأولاً إن
كثيراً ممن انخرط في العنف جاؤوا من مناطق فقيرة، ويعيشون
حالة إقتصادية دون المستوى. ثم إن الفقر والحاجة وتدهور
الخدمات لا تؤثر بالضرورة على الفاعل لكي يقوم بعمله المعارض
للسلطة وممارسة العنف ضدها، فكما هو معلوم فإن الحافز
ليس بالضرورة شخصي وإنما إجتماعي، وكثيراً ما يتحدث علماء
السياسة عن حقيقة أن الفقراء المشغولين بقوت يومهم لا
وقت لديهم للمعارضة ومواجهة السلطات، كما أن الطبقة المخملية
الملتصقة بالنظام ولاءً ومصالح لا تتحرك ضدّه، ولذا فإن
النهوض والمعارضة يأتيان دائماً ويقودهما دائماً المنتمون
الى الطبقة الوسطى، التي تولد في حضن النظام، ثم تتمرد
عليه، لإصلاح الأوضاع العامة ـ وليس الشخصية بالضرورة
ـ وهذه الطبقة لديها الطموح والتطلّع ولكنه مقتول بسبب
إنغلاق الطبقة السياسية وعدم قدرتها على استيعاب الرؤى
والأفكار والأشخاص.
فسوء إدارة الدولة وخدماتها، وتفشي الفقر لا يضرّ بالطبقة
المسحوقة فحسب، كما يتوهم الأمير نايف وإخوته، وإنما هو
مبرر ومحفّز للعنف والثورة والسخط في الجمهور بشكل عام،
وإذا كان من يقوم بالعنف هم من الطبقة المسحوقة في الغالب،
فإن القيادة المخططة والعقل المنظّر يكون في الغالب بيد
عناصر من الطبقة الوسطى، ولعلّ تطبيق هذا الأمر على الوضع
السعودي ليس ببعيد.
إن العائلة المالكة تريد أن تتنصل من مسؤوليتها عن
تأجيج العنف.
فهي لا تريد أن توضع سياسات وممارسات النظام والأمراء
تحت المجهر، وتوجيه الإتهام لها بأنها أحد دوافع السخط
والعنف. لا يريد الأمراء أن ينظر اليهم بأن ما يقومون
به من نهب وسلب ومفاسد أخلاقية فضلاً عن فشل سياساتهم
في توفير الحدود الدنيا من الخدمات التي تحفظ للمواطن
كرامته، بأنهم فاشلون وأن فشلهم يجرّ الى عنف ضدهم وضد
نظامهم. ولهذا يبحث هؤلاء عن مبررات أخرى تبعد التهم عنهم.
أيضاً لا يريد الأمراء أن يتهموا بأنهم وراء ترويج
فكر العنف ليس في المملكة فحسب بل في كل أصقاع الدنيا.
وأن فكر العنف أصيل في المجتمع السعودي، ويتغذّى على التراث
الوهابي الهائل والمتفجر والمليء بفتاوى التكفير والدعوة
الى القتل والتدمير. وقد ترددت الحكومة السعودية في السماح
بنقد الفكر السلفي أو بعض منه خشية أمرين: استثارة رجال
المؤسسة الدينية الوهابية، والثاني خشية اتهام الأمراء
أنفسهم بأنهم كانوا طيلة العقود الماضية وراء ترويجه كاستراتيجية
للدولة وعلى نفقتها، بل أن بعضهم يطبع الكتب على نفقته.
معروف أن كتب التراث الوهابي كانت تطبع على نفقة الملك
عبد العزيز، وقد سار الأمراء على ذات المنهج، فالحرس الوطني
يطبع ملايين النسخ من الكتب والكراريس كل عام، ووزير الدفاع
يتبرع بطبع كثير من الكتب وفي مقدمتها كتاب التوحيد للوهابي
المتطرف الشيخ الفوزان، والذي سبب أزمات كثيرة في المجتمع
السعودي كونه يهاجم الجميع بلا استثناء عدا من هم على
موقفه الفكري والمذهبي.
لكن العائلة المالكة، وهي إذ فتحت الباب موارباً لنقد
بعض من الفكر الوهابي التكفيري، فإنها حوّلت التهم الى
حليفها الديني للضغط عليه من أجل المزيد من إخضاعه لها
وليس للقضاء عليه، وظهرت وكأنها هي بريئة من فكر وفعل
ذلك الحليف. بالرغم مما هو معروف من أن التيار المتشدد
إنما تربى في حضن السلطة، وهو إنما اعتدى على حقوق الآخرين
قبل حقوق الدولة فبأموال السلطة وبسلاحها وبإعلامها وبمؤسساتها.
ومع هذا كله، يظهر بين الفينة والأخرى، الأمير نايف وجناح
السديريين عموماً، ليزايدوا على دعاة العنف، بالتأكيد
على (سلفية/ وهابية الدولة!) وعلى أنهم لا يساومون على
(العقيدة!) وأن المملكة تطبق (شرع الله) وفق تفسيرات رموز
الوهابية، بل ويقومون بالدفاع عن الفكر الوهابي المتطرف
ـ الذي في الحقيقة لا نعرف كيف نميزه عن المعتدل إن كان
هناك اعتدال اصلاً، فالوهابية كمّ هائل من التطرف من مبتداها
الى نهايتها ـ بدفاعهم عن مناهج التعليم الدينية الوهابية
التي تدرس، والقول بأنها لا تصنع أحادية رأي وتطرف فكر،
بل هي في غاية الإعتدال والسلامة والرصانة والأمانة!.
فإذا كانت الدولة ـ العائلة المالكة ـ غير مسؤولة عن
العنف، في جذوره الإقتصادية والإجتماعية والفكرية، بل
والسياسية ـ فهي لا تؤمن بأن العنف له جذور سياسية محلية
وربما خارجية سببها الإستبداد المحلي وموالاة الأجنبي
الغربي ـ فماذا عساها أن تفسر ظاهرة العنف بغير ما تقوله
من تهريج: خوارج، فئة ضالة، وشرذمة حادت عن الصواب، وأنها
في سبيل القضاء عليهم أو شارفت على الإنتهاء من ذلك؟!
لا يكاد يمر أسبوع دون حوادث عنف في المدن السعودية
وخصوصاً العاصمة، وكثير منه لا يعلن عنه.. فالمصادمات
مستمرة، كان آخرها ما حدث يوم 12/10/2004، حيث وقعت مصادمات
أدت الى مقتل ثلاثة من جماعات العنف وجرح سبعة من قوات
الشرطة، في حين تصر الحكومة على اعتماد خيار الأمن دون
السياسة ودون الإصلاح الإقتصادي والإجتماعي. إذن لا تتوقعوا
أن تنتهي تلك (الفئة الضالة) في وقت قريب، فالعائلة المالكة
بسياساتها الحاضرة توفر الوقود الكافي لمسيرة العنف لعشر
سنوات قادمة!
|