دولة المفاجئات
في الدول والمجتمعات المنفتحة والتي تعتمد مبدأ الشفافية
في التعامل مع شؤونها العامة تكون في مأمن من أي مفاجئات
كارثية، بخاصة تلك التي تؤدي الى انهيار في النظام العام،
او تصدعات خطيرة في بنية المجتمع.. ولذلك فإن اسدال ستار
من أي نوع على بعض الشؤون العامة يحدث صدمة في الرأي العام،
لأن الاتفاق قائم على أساس الشفافية فيما يتعلق بالشؤون
العامة، فالدولة بما يجري فيها ويدور في أجهزتها هي حق
عام يتقاسمه المنتسبون اليها، وبالتالي فإن إساءة استغلال
هذا الحق من قبل الموكلين بالاشراف عليه ورعايته يحرمهم
من الاستمرار في مناصبهم.
تصوّروا معي أن رئيس وزراء بريطانيا يستعمل طائرة بالقدر
الذي يفوق الحاجة، كأن يستعملها في نزهة أو ينقل معه فيها
أشخاصاً غير مدرجين على قائمة المرخّص لهم قانونياً باستعمال
الطائرة لأغراض خاصة.. كيف كان رد الفعل؟ لقد فعلها سابقاً
فكتبت الجرائد المحلية مقالات تهاجم رئيس الوزراء وتتهمه
بإساءة استغلال أموال الضرائب التي يدفعها الشعب للحكومة.
لم يقل رئيس الوزراء بأن منصبه وما يقوم به إنما أوتيه
على علم من عنده، ولم يتوسّل بحق الآباء والاجداد، ولم
يتذرع بالسماء في تبرير سياسات ومسالك أرضية.
تصوّروا أن المفاجئات التي تهز المجتمعات الغربية ترتبط
بمخالفات وانتهاكات باتت معروفة مألوفة في بلداننا، كأن
يتورط وزير أوروبي في رشوة مالية او فضيحة جنسية أو حتى
في شبكة دعارة تعمل لحساب أحد الامراء في بلادنا، أو أي
بلد آخر في المنطقة المليئة بالفحولة من العرب. بالنسبة
للوزير فإنه ينال عقاباً قاسياً من الجنِّة والناس أجمعين،
ثم يلاحقه العار من بين يديه ومن خلفه، فيما تعمل الصحافة
بكامل طاقتها من أجل الكشف عن مزيد من أخبار تلك الفضيحة،
حتى لا تجعل لمستقبله السياسي ذرة أمل يعوّل عليها في
القادم من أيامه.. بطبيعة الحال، فإن الصورة في بلادنا
هي نقيض ذلك، فإن الأمير المتورط يبقى محتفظاً بكافة مواصفات
التقوى والايمان والعمل الصالح، ويحظى بدعاء العلماء وأئمة
المساجد باعتباره من ولاة الأمر الذي أوجب الله علينا
طاعتهم، بل يظل الأمير الداعر طليق اللسان وخطيباً مفوّهاً
يحث الناس على الاخلاق والقيم بما في ذلك المتصل منها
بالشرف وحفظ الاعراض والابتعاد عن المفاسد الاخلاقية..
هاتان الصورتان المتقابلتان تعكسان حقيقة ما جرى سنة 1995
حيث كشفت القناة الرابعة البريطانية بالاشتراك مع جريدة
الجارديان اللندنية عن فضيحة شبكة دعارة تعمل لحساب حاكم
المنطقة الشرقية وتورط فيها مسؤول بريطاني رفيع المستوى
وعدد من الشخصيات الخدماتية في بريطانيا وأوروبا.
فبينما اهتزت الحكومة البريطانية بفعل تقرير القناة
الرابعة لهول الفضائح الواردة فيه، وخصوصاً المتعلق منها
بشقق وبيوت للدعارة تعمل لحساب الامير ابن الملك وحاشية
المتنسِّكين، فإن بلادنا كانت تنعم بالايمان والتقوى والعمل
الصالح.. فقد بات المتورطون ليلتهم قريري العين، وبقوا
محتفظين بمناصبهم بل وزادوا عليها أوسمة ونياشين، أما
صاحبهم ايتكن فقد بقي في السجن لسنوات طويلة، وحين خرج
كان جهاز الرقابة قد وضع حول رسغه بدلاً من الاوسمة كيما
يكون تحت الرقابة، هذا فضلاً عن خسارته السياسية الفادحة
والقاصمة.
مما سبق يمكن الالماح الى ماذا نعني بدولة المفاجئات..
إن هناك رابطة جدلية بين المفاجئة والكتمان المحيط بأسرار
يعتقد بأن البوح بها أو الكشف عنها يؤول الى إحداث صدمة..
ولذلك فإن الدول والمجتمعات المغلقة تكون فيها كمية الاسرار
المكتومة متفوقة على المعلن منها، حيث تسير الحياة في
هذه الدول على أساس روابط واتفاقيات وتضامنات غالباً شفهية
وذات سرية عالية، إذ إن الاعتماد على المعلن والمكتوب
يهدد بقاء الروابط والتضامنات القائمة على أساس مصالح
متبادلة. ويمكن القول بأن الانظمة الديكتاتورية وهي بالضرورة
انظمة مغلقة تعتمد السريّة والكتمان كمصدر قوة فاعل يكفل
به تحقيق استمرار واستقرار معادلة المصالح.. يقال بأنَّ
السريّة تمثل سلاحاً فاعلاً في يد الانظمة الشمولية التي
به ترسم صورة متضخمة مرعبة في أذهان الخاضعين تحت سيطرتها..
ولكن ما إن تتهدم أركان أي من هذه الانظمة فإن دهشة عارمة
تجتاح من إستبدّ بهم الخوف من القوة المفتعلة والمتوّهمة
التي أحاطت هذه الانظمة نفسها بها.. فإذا بتلك الانظمة
وكأنها بيوت العناكب و(إن أوهن البيوت لبيت العنكبوت).
ورغم أن عصرنا تكاد تختفي فيه الدهشة، حيث بات سيء
الطالع قانوناً بل يكاد الأمر ينقلب رأساً على عقب، حيث
من المحتمل ان تحدث المفاجئات السارة صدمة نفسية لأجيال
لم تكن تجني من سياسات حكامها سوى الثمار المرّة. اقول
ان اختفاء عنصر الدهشة في حياتنا الشرقية، يكاد يضفي لوناً
باهتاً على المفاجئات، فقد بات نبأ سرقة المليارات من
خزانة الدولة خبراً قديماً ومألوفاً واعتيادياً، وأصبحت
قصة مصادرة الامراء الكبار سلطان او نايف او غيرهما لأراض
الغير ونزع ملكية اصحابها لها قصة بائته لكثرة ما تكررت
ليس خبراً بل أثراً، كما صار الحديث عن عمولات تحت وفوق
الطاولة في صفقات الاسلحة ومشاريع البناء والتنمية بأحجام
مختلفة حديثاً بارداً.. إن كثرة الفضائح في بعض الاحيان
تميت الاحساس بها، بل تعطب ردود الفعل عليها، وفي بلادنا
هناك إصرار على عدم الاقرار بالمفخالفات رغم أنها غمرت
الارجاء وسمع بها القاصي والداني، وهذا السماع لم يأت
بفعل الشفافية السياسية والاعلامية السائدة، ولم تأت في
بيان رسمي تعلنه الحكومة او العائلة المالكة في الصحافة
المحلية وتقرّ بأخطاء اقترفها العهد البائد وتعد بتصحيح
ما ارتكبه السابقون.. لا ليس الامر كذلك، إنما هي فضائح
تسرّبت في الاعلام الخارجي، فوصلتنا أخبارها حتى باتت
شائعة ورائجة الصيت.
بلادنا مرشحة لأن تكون دولة مفاجئات في المرحلة القادمة،
لأن التفاوت الاقتصادي، كمثال واحد، يدفع كثيرين للبحث
عن أسباب هذا التفاوت فيزيد الاهتمام بموضوع السرقات،
تماماً كما أن حجم الدين الداخلي الذي تجاوز الحد الفلكي
أحدث صدمة لقطاع واسع من الناس.. من الناحية النظرية،
أقرّ الامير عبد الله مبدأ الشفافية ولكن اكتشف فيما يبدو
حجم الفساد الذي لو اطلع عليه العباد لثاروا على من حرمهم
لعقود من خيرات ربهم وكنوز أرضهم.. ولاشك أن الامراء الكبار
ممن نهبوا ووهبوا يضيرهم جداً إعتماد مبدأ الشفافية، الذي
يؤدي الى تقديم كشف حساب المفاجئات المالية الضخمة، وقد
يطلق ثورة الغضب الشعبي التي لا يعلم سوى الله مداها ومنتهاها.
|