دولة العُصب
كون الدولة السعودية مدموغة بإسم عائلة مالكة تمارس
سلطانها على أساس دعوى الحق التاريخي لا يعني أن القسمة
داخل العائلة المالكة منضبطة على قاعدة التساوي بين أفرادها،
رغم بطلان هذه القاعدة من أصل، إذ الدولة ـ أية دولة ـ
هي حق عام وملك مشاع بين عموم أفراد الدولة نفسها.. ولكن
ولضرورة الدخول الى نقطة جد حساسة في موضوع الشراكة وتقاسم
السلطة داخل العائلة المالكة في السعودية، فإن الدولة
ليست بالضرورة موزّعة توزيعاً متكافئاً بين أفراد هذه
العائلة، فقد جرى تهميش بعض الاجنحة التي لم تنل من كعكعة
الدولة سوى أطرافها أي أن مصالحها في الدولة مقتصرة على
العطايا والهبات أو المخصصات الشهرية التي تمنح عادة لأفراد
عائلة آل سعود. ولذلك ظهرت بعض الاجنحة التي أعلنت عن
تذمرها من استئثار أجنحة أخرى أو ربما أشخاص محددين وضعوا
أيديهم على ثروات البلاد وخيراتها، بمعنى أن الغنم العام
لم يتحصص بدرجة كافية بين أفراد العائلة المالكة. وقد
بات واضحاً أن من يحكم يملك وأن من لا نصيب له في الحكم
لا نصيب له في الملك أيضاً، ولذلك فإن من جرى استبعاده
من السلطة نال قدراً ضئيلاً من الثروة، بناءً على قاعدة
(من ملك استأثر)، مع أن لكل قاعدة استثناء، فالوليد بن
طلال والذي لا يحكم يدير ملكاً جبّاراً ولكن ليس وحده
بل هو يعمل بالنيابة عن أهل الحكم في العائلة المالكة.
تقليدياً كانت الدولة منذ أكثر من عقدين موزّعة بين
جناحين: الجناح السديري وجناح ولي العهد الامير عبد الله،
فهما يتقاسمان الحكم والملك معاً، فلكل منهما امبراطوريته
السياسية والاقتصادية الخاصة به، وقد تواطأ الجناحان على
القبول بهذه القسمة الظالمة. ولعل أول من أسس لهذه القسمة
هو الملك فهد رأس الجناح السديري، والذي شكّل اول عصبة
داخل العائلة المالكة حيث أحاط نفسه بأشقاء وأبناء أمدّهم
بالقوة السياسية والاقتصادية. ومن حسن المصادفات أو سوئها
ـ لا فرق ـ أن يكون ولي العهد منافساً لهذا الجناح بفعل
التسلسل الوراثي، وقيادته لجهاز عسكري منافس للجيش، أي
الحرس الوطني، الى جانب صلاته الوثيقة بزعماء القبائل
الكبيرة.
ولكن منذ منتصف التسعينيات، وبالتحديد منذ أن أقعد
المرض الملك الحالي عن القيام بمهام الملك، انتقلت السلطة
من الناحية العملية الى من هم دونه من حيث القوة والمكنة.
ولاشك أن العصبة السديرية التي كانت تعتصم بالرأس المدبّر
لها، بدأت تتحلل تدريجياً ولكن ليس الى الضعف وإنما في
التحوّل الى أنوية أخرى تستمد من قوتها المكتسبة في مرحلة
لاحقة كيما تصبح كل واحدة منها الى عصبة مستقلة، مع أن
بعض هذه الانوية خرجت بفعل انشطار العصبة الكبيرة من دائرة
التنافس الداخلي.
وفي حقيقة الأمر، أن ترتيبات السلطة بعد مرض الملك
الحالي أفضت الى صعود وهبوط في درجات الملك والحكم أيضاً،
بل حتى التسلسل السلطوي تفكك تبعاً لذلك، إذ لم يعد أفراد
العصبة السديرية كلهم في الملك والحكم سواء أيضاً، فقد
صعد الى واجهة المنافسة السياسية والاقتصادية ثلاثة أمراء
وهم الامير سلطان والامير نايف والامير سلمان فيما خرج
الاعضاء الباقون منهم: تركي وأحمد وعبد الرحمن (وإن كان
الاخيران لا يزالان يحتفظان بمنصب نائب وزير الداخلية
ونائب وزير الدفاع)، من دائرة التكافؤ والتماثل في معادلة
السلطة.
لقد تحوّلت الدولة من الناحية العملية الى عُصب تدير
السلطة والثروة في البلاد، وتحول الامير سلطان والامير
نايف والأمير سلمان على الاقل من الجناح السديري الى عصب
مستقلة، عزّزت قوتها بطريقة التوارث الضيق، أي في سلالة
رئيس العصبة نفسها، فالأمير سلطان يدير امبراطوريته المالية
والسياسية عبر تمكين أبنائه المقرّبين في وزارة الدفاع،
وله حاشية لصيقة به تطوف أرجاء البلاد بحثاً عن غنائم
يجنيها من المال العام والخاص، ولوزير الداخلية امبراطورية
اخرى يديرها أبناؤه ويتصرفون كما لو كانت الدولة ملكاً
له ولأبنائه، فالأمر أمرهم دون سواهم، الى جانب أبناء
الملك الذين تنوء امبراطورياتهم بالمال والعقار الحرام.
وينطبق الأمر على سلمان الذي يدير امبراطورية إعلامية
يتوارثها أبناؤه إذا هلك أحدهم قام مكانه الآخر.
لم يعد تشكّل العصب وطغيان حضورها سراً خافياً، فقد
بات المقرّبون يدركون كيف تدار اللعبة بين العصب المتنافسة،
فما يصطلحه العامة خير دليل على وجود هذه العصب.. يتحدث
العامة عن نشاطات جماعة سلطان وجماعة نايف وجماعة فلان
وفلان من الأمراء، وهذه الجماعات لا يرد ذكرها الا بسوء،
أي حين يجري الحديث عن قصص السرقات والرشاوى وانتزاع الأملاك
والفساد بأشكاله المختلفة، ولم نسمع أحداً يتحدث عن جماعة
تابعة لأمير تعيد الحق لأهله وترد الاملاك المنزوعة ظلما
الى أصحابها أو تساند دعوى الشفافية وتحارب الفساد الاداري،
بل تظافرت جهودها على السباق نحو وضع اليد على ما هو ملك
للغير، وما فيه تأكيد للسلطة والاثراء الفاحش.
وفي ضوء ما سبق، فاننا سندخل عما قريب الى مرحلة انتقال
غير سلمي للسلطة ولربما ستشهد السنوات القادمة صراعاً
علنياً بين من مكّنوا أنفسهم في جهاز الدولة الاداري وفي
مصادر الثروة الوطنية وهذا ما يجعل الاصلاح الشامل عسيراً،
ليس على القوى الاصلاحية فحسب، بل حتى على المصلحين في
داخل العائلة المالكة إن وجدوا، لأن التعامل سيجري ليس
مع تكتلات يراد تفكيكها، بل مع عوائل داخل العائلة الكبيرة
تملك سلطة صناعة القرار دون المرور عبر مؤسسة تشريعية
او تنفيذية محددة.
|