اللقاء الفكري الأخير
حضرت الدولة وغاب الشباب
اللقاء الفكري الذي انعقد في الظهران بالمنطقة الشرقية
في الفترة ما بين السابع والتاسع من ديسمبر 2004، تحت
عنوان (الشباب الواقع والتطلعات) كان من حيث المبدأ لقاءً
مصيرياً بحق، كونه يتعامل مع قضية أغلبية السكان في هذا
البلد والتي تمثّل 60 بالمئة من سكانه. ولا شك أن الشباب
قضية جوهرية ليس من منظور اقتصادي فحسب، باعتبارهم الاكثر
تضرراً من الأوضاع الاقتصادية المتردّية، وإنما منظورات
اجتماعية وثقافية ونفسية ايضاً.
وكنا نأمل ان يكتسب اللقاء أهمية خاصة لدى صانعي القرار،
كونه القناة الافتراضية للحوار المفتوح بين الحكومة وشريحة
الشباب، حيث لأول مرة سيدلي الشباب بهمومهم في الهواء
الطلق والتي لم يكونوا قادرين فيما مضى على التعبير عنها
بصورة رسمية.. وأكثر من ذلك، فإن قائمة مشاكل الشباب هي
غير كونها مشروعة فإنها تمثّل القائمة الأكثر إلحاحاً
من مطالب السكان، فهم سيمثلون عما قريب العمود الفقري
لنظام العمل والادارة في هذا البلد، فضلاً عن كون إغفال
قائمة الهموم لدى الشباب سيحيل منهم الى قوة انفجارية
خطيرة ضد المجتمع والدولة معا.
لقد صنعت الدولة لنفسها فرصة حل حاسم عن طريق اللقاء
الفكري (مع التحفظ الشديد على استعمال مصطلح لقاء فكري)،
وكان بإمكانها استغلال هذه القناة للتأسيس لقاعدة صلبة
في العلاقة مع مشكلات الشباب، وفي بناء علاقة متينة، فهذه
الشريحة قد انفصلت من الناحية العملية عن المجال الحيوي
للدولة بفعل احساس الشباب بالخسارة في ظلها سيما وأنها
لم تقدّم لهم حلولاً لمشكلاتهم، ولأن هذا الانفصال يعني
انقطاع الصلة المعنوية مع الدولة، إذ لا يمكن لهؤلاء المحرومين
من خيرات بلادهم أن يؤثروا طاعة الحاكم والولاء له على
حاجاتهم البيولوجية واليومية، خصوصاً وأن الحرمان هو ثمرة
الطغيان المالي والسياسي للطبقة الحاكمة.
غير أن ما يظهر من هذا اللقاء أنه تحوّل الى مجرد مهرجان
خطابي، بمضمون شبه معدوم، ولعل رواج عبارة (كلام في كلام)
توصيفاً لهذا اللقاء كان أقرب الى حقيقة الموقف الشعبي
من هذا اللقاء.. فلم يسفر اللقاء عن قرارات عملية، رغم
توصيات اللقاء التي تأخذ طريقها الفوري الى الارشيف إن
وجدت مكاناً فيه والا لفّها النسيان.
وهذا يستدرجنا الى اختبار صدقية ليس هذا اللقاء فحسب،
بل وكافة اللقاءات الفكرية السابقة، والتي لم تتجاوز حتى
الآن بعدها الدعائي المحض، وهذا ما نلحظه جلياً من استعمال
اللقاء الفكري كمصطلح بديل عن الحوار الوطني تبعاً لتبدّل
الغاية منه او ربما تثبيتاً للهدف الاصلي منه. لقد خرجت
اللقاءات السابقة بقائمة توصيات ولكن طويت سريعاً، ولم
يعد أحد يتذكر منها سوى خبراً باهتاً.. فقد تحوّل مركز
الملك عبد العزيز للحوار الوطني الى مجرد مؤسسة مقطوعة
الصلة ومعزولة عن الشأن المحلي تماماً، وأصبح مجرد مركز
للتداول الخطابي الدعائي الذي لم يتجاوز حد احتضان الفئات
السياسية والاجتماعية والفكرية داخل عباءة الدولة.
يجمع المراقبون للقاء الفكري الخاص بالشباب على أن
هذا اللقاء كان بمثابة قراءة بيان نعي على مشروع الحوار
الوطني، إذ لم يكن بالثقل النوعي الذي تميّز به اللقاءان
الأوّليان، لا لكون هذا اللقاء مخصصاً للشباب وبالتالي
فإن المطلوب منه هو حضور أكبر عدد من المشاركين من هذه
الشريحة، ولكن لكون هذا اللقاء لم ينل إهتماماً من قبل
الفعاليات الوطنية، الذين قرروا بعد اللقاء الثاني أن
ينسحبوا تدريجياً بعد أن شعروا بأن مشاركتهم قد أفادت
الحكومة وأضرّتهم، فقد تحوّلوا الى جزء من رسالة الدولة
الى الخارج، فقد جلبت الى فضائها خصومها السابقين من الرموز
الدينية والوطنية والفكرية.. صحيح أن هذه الرموز لم تكن
بالسذاجة التي تدفع بهم للوقوع ضحية للعبة سياسية مكشوفة،
ولكن إن ما تطلّع اليه بعضهم من الدخول الى الكاريزما
السياسية عبر بوابة الدولة وجدوا أنفسهم أمام طريق مسدود،
فالطبقة السياسية الحاكمة إنما طمعت في اللقاء الفكري
كي يكون وسيلة لاعادة ترميم سمعة العائلة المالكة، وتأكيد
مشروعيتها من خلال حضور كافة الاقطاب في مشروعها السياسي،
ولكن في الوقت نفسه أوصدت كافة الابواب أمام الافادة من
هذه اللقاءات من أجل تأكيد الزعامات الدينية والوطنية
لذاتها شعبياً، فهو أمر مرفوض بالنسبة للأمراء..
ولذلك، فإن قائمة التوصيات التي تقدّم بها المشاركون
في اللقاء الفكري الثاني في مكة المكرمة، وهي القائمة
الأكثر قرباً من مطالب التيار الوطني العام في البلاد،
تم التعامل معها باعتبارها خارج صلاحيات وخصوصيات الحوار
الوطني، لما في القائمة من أبعاد سياسية غير مقررة.. وعلى
أية حال، فلربما جاءت التوصيات كيما تضع الطرفين أي المشاركين
في اللقاء الفكري والحكومة أمام اختبار جدّي للعلاقة.
وبصورة إجمالية، فإن تراجعاً حاداً في الاقبال على
اللقاءات الفكرية، كما انحسرت القناعة بجدوى المشاركة
في اية لقاءات أخرى لا تهدف سوى الى تأكيد حضانة الدولة
ومرجعيتها، في مقابل الدعوة الوطنية السابقة لعقد حوار
وطني بين المجتمع والدولة ترتفع عنه سيطرة العائلة المالكة،
ويستهدف بدرجة أساسية مناقشة الموضوعات ذات الطبيعة الوطنية،
والتي وردت في مذكرة (رؤية لحاضر الوطن ومستقبلة)، وما
بعدها من عرائض.
ربما نجحت الحكومة أول مرة في اجتذاب كافة الاطراف
الى الحوار الوطني، ويجب الاقرار بأن هذه الاطراف جاءت
باندفاع الى اللقائين الاول والثاني، على أمل أن تجترح
الدولة طريقاً آخر في التعاطي مع مشكلاتها، وعلى أمل ان
يؤسس الحوار الوطني لمرحلة جديدة من الحريات والانفتاح
والشفافية، الا أن هذا النجاح النسبي مالبث ان تحول الى
خسارة بعد أن خبى وهج اللقاءات الفكرية وبخاصة اللقاء
الأخير الذي كان ضحلاً، هامشياً، متهافتاً، وبالتالي أصبح
في حقيقته مجرد (كلام في كلام).
وإذا كان ثمة ما يخرج به المرء من انطباع عن اللقاء
الاخير حول الشباب، فيمكن القول بأنه قد يلبي تطلع الدولة
وطموحها ولكنه بالتأكيد لا يضيف جديداً لقضية الشباب التي
هي بحاجة ليس الى مهرجان خطابي بقدر ما هي بحاجة الى قرارات
مصيرية او على الأقل بداية صحيحة نحوها.
|