السعودية: الأخ الأكبر غير المحترم
د. مضاوي الرشيد
الخلافات بين دول مجلس التعاون الخليجي والتي بدأت
تظهر علناً خلال المؤتمرات السنوية وخاصة مؤتمر المنامة
مؤخراً إنما تعكس أبعاداً أعمق من المشاكل الاقتصادية
وطريقة حلّها. هذه الأبعاد كانت دوماً مرافقة لمسيرة هذه
المؤسسة منذ تأسيسها عام 1981.
من المفروض أن يكون مجلس التعاون الخليجي منظمة مؤسساتية
تحتوي وتنمي التواصل الثقافي والبشري والاقتصادي والسياسي
بين الدول المؤسسة الست. ولكن مع الأسف لم يكن هذا التواصل
الهدف الأول، إذ طغى العنصر الأمني على مفهوم المجلس منذ
نعومة أظفاره حتى أصبحت الأهداف الأخرى أهدافاً ثانوية.
العنصر الأمني كان منذ الثمانينات يُعرّف على أنه خطر
خارجي يهدد أمن حقول النفط.
هذا التعريف كان منذ البداية مرتبطاً بتصور الإدارات
الأمريكية في واشنطن والتي اعتبرت عام 1979 عام الأزمات
في المنطقة خاصة بعد نجاح الثورة الايرانية وغزو الاتحاد
السوفييتي لأفغانستان. جاء مجلس التعاون كخطوة فجائية
وربما تحت ضغط هذين الحدثين وتفسيرات الولايات المتحدة
لهما كردة فعل على غياب شرطي الخليج ، شاه ايران. بغياب
هذا الشرطي اعتقدت الولايات المتحدة أن اللحظة قد أتت
لتنظيم الدفاع عن حقول النفط تحت مظلة مؤسساتية لها صبغة
محلية ولكنها تحت إشراف أمريكي واضح، واكتفت أمريكا بوجودها
الذي اتصف بأنه Over the Horizon أي بمعنى الإشراف البعيد
القريب من وراء الأفق.
واعتقدت الولايات المتحدة ودول الخليج معها أنها بذلك
تقطع الطريق على العراق والذي ربما كان هو الأكثر تأهيلاً
لوراثة منصب شرطي الخليج خاصة وأن إمكاناته البشرية والاقتصادية
والعسكرية تخوله لمثل هذا الدور. وجاءت حرب إيران والعراق
طوال الثمانينات لتقطع الطريق على العراق في البروز علي
الساحة الخليجية كوريث لشاه ايران.
وبانشغال العراق بإيران وإيران بالعراق خلال عقد كامل،
اعتقد النظام السعودي أن بإمكانه تصدر موقع الدفاع عن
الخليج وحقول النفط خاصة تحت ولاية ريغان. وإن لم يكن
باستطاعة هذا النظام لعب دور شرطي الخليج بسبب محدودية
قدرته البشرية والعسكرية إلا أنه اعتبر نفسه الأخ الأكبر
والذي تحت عباءته تستطيع دول الخليج الأخرى أن تنظم دفاعها
عن طريق قوة دفاع مشتركة بدعم تكنولوجي وعسكري أمريكي.
هذه الرؤية لم تنجح إذ أنها كانت مبنية على قراءة خاطئة
لمصدر الخطر الأمني. اعتبرت الولايات المتحدة وجميع دول
الخليج أن مصدر الخطر هو خارجي (من إيران مثلاً أو من
الاتحاد السوفييتي)، ولكن تطور الأحداث أثبت أن الخطر
كان داخلياً حتى في الثمانينات، واستمر الوضع هكذا حتى
يومنا هذا. على الصعيد الأمني يبدو أن الأخ الأكبر (النظام
السعودي) مهدد من الداخل فقط وهكذا كان طيلة الفترة السابقة
المرتبطة بتأسيس مجلس التعاون الخليجي.
ورغم خطأ التصور هذا للخطر ومصدره، نلاحظ أن الأخ الأكبر
ذا الإمكانيات الاقتصادية التي تفوق مقدرات وثروات الدول
الصغيرة الأخرى كان يحاول دوماً الهيمنة المباشرة أو الضغط
غير المباشر على الدول الصغيرة. اعتبر النظام السعودي
مجلس التعاون الخليجي كبحيرة لبسط نفوذه السياسي والثقافي
والديني على الدول المجاورة وخاصة تلك التي لا تمتلك مخزوناً
نفطياً كبيراً. واعتبر هذا النظام الخليج وكأنه امتداد
طبيعي لسياسته بوجوهها المتعددة. وربما في هذا المجال
كانت تراوده أحلام وفتوحات القرن الثامن عشر والتي انطلقت
من الدرعية باتجاه الخليج واستطاعت أن تفرض نوعاً من الهيمنة
السعودية على المنطقة تمثلت بدفع الزكاة ولو لفترات قصيرة
للمركز السعودي. وتاريخياً اصطدمت هذه الفتوحات بالجغرافيا
كما حصل في بعض المناطق وكذلك بالوجود البريطاني على شواطئ
الخليج. هذا الوجود الذي أوقف الزحف على المناطق الخليجية
خاصة في عُمان وما يعرف اليوم بالإمارات. وبالإضافة إلى
الجغرافيا والوجود البريطاني كانت تعددية سكان الخليج
العرقية والدينية واختلاف البيئة على شواطئ الخليج حيث
انصهرت حضارات وثقافات هندية وافريقية عقبة في سبيل التوسع
السعودي. وبما أن هذا الحلم التاريخي السعودي لم يتحقق
فهل يا ترى كان مجلس التعاون صيغة جديدة لهيمنة قديمة
أوقفت تحققها عوامل كثيرة؟
إن المتتبع لأحداث العام الماضي على صعيد الخليج كتوقيع
معاهدات اقتصادية جانبية مع الولايات المتحدة (البحرين
مثلاً) والخلاف السعودي ـ الكويتي حول المراكز الجمركية
التي تطالب بها السعودية لتسهيل سير قوافلها التجارية
( القدس العربي 6 يناير 2005) والخلافات المستترة وغير
المستترة بين قطر والسعودية تدل على تململ جوهري من قبل
الدول الصغيرة من الهيمنة السعودية.
فرغم المقولات الدعائية والبيانات الختامية لزعمات
المنطقة بعد كل مؤتمر والتي تهلل بالوحدة والرؤية المشتركة
إلا أننا نستطيع رصد تذمر من هذه الهيمنة على المستوي
الشعبي وحتى على مستوى بعض الزعامات في الدول الصغيرة.
أحد محاور التذمر صدر من قبل الدول الصغيرة ذات المصادر
النفطية القليلة أو التي بدأت تجف. هذه الدول مطالبة من
قبل الأخ الأكبر بالولاء والتبعية مقابل براميل من النفط
تأتي كهبة من هذا الأخ أو بأسعار قليلة. فبدلاً من أن
يكون التعامل بين هذه الدول قائماً على مبدأ الاحترام
للسيادة، نجد أن الابتزاز قد غلب على العلاقات بين الأخ
الأكبر والدول الصغيرة. وتبقى هذه المسألة من المسائل
الساخنة التي تسمم العلاقات بين الدول المؤسسة لمجلس التعاون.
وإن كانت هذه هي الصفة التي تميزت بها علاقة النظام السعودي
بالأنظمة الخليجية، فهل يا ترى كانت العلاقة علي المستوى
الشعبي أفضل وأكثر لحمة وقوة وإخاء؟ من المعروف أن التواصل
القبلي بين السعودية ودول الخليج كان دوما يمثل عاملا
للاتصال البشري قبل رسم الحدود الدولية، وكان التواصل
الاقتصادي يجبر قبائل الداخل وتجارها على ارتياد موانئ
الخليج التي تحمل بضائعهم من الداخل إلي الخارج ومن الخارج
إلي الداخل. وهكذا كان هو الحال لسكان الخليج في تعاملهم
مع الداخل السعودي. واليوم تبقى السعودية من أهم الأسواق
الاستهلاكية بسبب حجمها وقدرتها الشرائية لذلك يطمح المستثمر
الخليجي أو التجار لأن تبقي مفتوحة من خلال المعاهدات
الاقتصادية المشتركة، وينطبق هذا على رجال الأعمال السعوديين.
ولكن مع الأسف ظل التواصل البشري والاقتصادي خاضعاً لمبدأ
هيمنة الأخ الأكبر السياسية والتي بدورها بدأت تثقل العبء
على الدول الصغيرة، وما الخلافات الاخيرة التي تبلورت
عامي 2003 و2004 الا انعكاسا طبيعيا لحالة التململ التي
تشعر بها الدول الصغيرة.
وهنا لا بد ان نذكر التطورات الحاصلة في العراق منذ
احتلاله من قبل الولايات المتحدة. ولا بد ان تشعر الدول
الخليجية الصغيرة وخاصة الكويت بالطمأنينة اليوم بعد زوال
نظام صدام الذي أفضى الى زوال خطر الزحف العراقي باتجاهها
وفتح سوقا كبيرة لرجال الاعمال والتجار وطالبي الفرص الاقتصادية.
ورغم ان السوق العراقية ما زالت مضطربة وغير آمنة الا
ان الأرباح التي تجنيها الشركات الكويتية من خلال تموين
وتقديم الدعم اللوجستي للاحتلال الامريكي لا بد انها مهمة
وقيمة وقد تغني الكويت عن السوق السعودية في المستقبل.
وهذا ينطبق على بقية الدول الخليجية وخاصة الامارات ذات
العلاقات التجارية المتطورة مع العراق حتى قبل احتلاله.
رغم العلاقة الحرجة والمضطربة بعض الاحيان بين الاخ
الاكبر ودول الخليج الصغيرة الا ان هذه الاخيرة ابدت قدرة
كبيرة على مقاومة الهيمنة السعودية. فرغم قدراتها التي
لا تضاهى تلك المتعلقة بالأخ الأكبر الا انها لم تفقد
قدرتها على اتخاذ القرار الذي يرعى مصلحتها هي كدولة وكشعب
رغم الامكانيات المحدودة اذا ما قورنت بامكانيات السعودية.
اذا استعرضنا بوادر هذه المقاومة سنجد ان البحرين مثلا
استطاعت ان تقفز قفزة كبيرة في مجال الاصلاح السياسي الذي
يظهر تحجر النظام الكبير المجاور. انتقلت البحرين الي
الملكية الدستورية، ورغم ان التجربة ما زالت في بدايتها
وهي بحاجة لان تتطور وتنضج، الا انها تمثل حالة تراقبها
السعودية عن قرب خاصة بعد ان ظهر فيها تيار له نفس المطالب
المتمثلة بالانتقال الي الملكية الدستورية. نجاح التجربة
في البحرين وعلى الاقل بدايتها ما هو الا صفعة للنظام
السعودي اذ انه يبدو يوما بعد يوم وكأنه حالة فريدة في
منطقة الخليج خاصة بوجود برلمان او مجلس امة منتخب في
دول الجوار وانتخابات تشارك فيها المرأة والرجل (قطر مثلا)
ومؤسسات للمرأة فيها وجود كالسلك الدبلوماسي العماني وبعض
محاولات اشراك المرأة في الوزارات والمؤسسات. وليس من
المستغرب ان المجتمع السعودي يقارن نفسه دوما مع مجتمعات
الخليج فهو ينظر بانبهار الى الخدمات والمساعدات والقروض
التي توفرها الدول الخليجية لشعوبها القليلة، ويتحسر على
معدلات البطالة المرتفعة بين شبابه. والكثير يتحسر كيف
افقر النظام شعبه بينما اغنت الدول الخليجية مجتمعاتها.
وعلى الصعيد السياسي ينظر الشعب السعودي الى ما يعتبره
من الحريات السياسية في دول الخليج مقارنة مع التقييد
ومصادرة الرأي في بلاده. وتجربة الكويت في هذا المجال
تبدو بعيدة كل البعد عن تجربته في دولته. ان اي تطوير
او تحديث سياسي يوسع المشاركة الشعبية في صنع القرار في
دول الخليج يعري النظام السعودي.
وتقاوم دول الخليج الصغيرة بطريقة اخرى. خذ مثلا احتضان
دولة قطر، هذه الدولة التي ربما لا تظهر علي الخارطة السياسية
الا بمجهر، لقناة تلفزيونية قلبت معايير الاعلام في العالم
العربي منذ منتصف التسعينات. فرغم محدودية قطر البشرية
وحتى الاقتصادية الا انها استطاعت ان تخرج من ضيق الجغرافيا
الي الحيز الاعلامي العالمي عن طريق دعمها لقناة الجزيرة.
واصبحت هذه القناة محورا للاختلاف وحتى الكراهية المتبادلة
لانها فرضت طريقة في نقل الخبر وتحليله ربما لا تتناسب
مع طريقة الأخ الاكبر واعلامه الفضائي. فرغم مقاطعة الأخ
الاكبر لهذه القناة ربما ان اكثر مشاهديها هم من المواطنين
السعوديين وهذا واضح جدا في البرامج التي يشارك فيها المستمعون
على الهواء. وكما عرّت اصلاحات البحرين السياسية الجمود
السياسي المهيمن علي السعودية منذ اكثر من عقد من الزمن،
نجد ان قطر وسياستها الاعلامية عرّت الاعلام المملوك من
قبل النظام السعودي ورموزه.
واذا اخذنا دبي نجد مثالا ثالثا يدل على قدرة كبيرة
في تجاوز الأخ الاكبر وهيمنته. اليوم اصبحت دبي مركزا
تكنولوجيا واقتصاديا يربط بين اوروبا وآسيا وافريقيا،
واصبحت هذه المدينة الصغيرة ذات النسبة العالية من اليد
العاملة الاجنبية والتي قد تتجاوز 90% من عدد السكان مركزا
ديناميكيا يستغل العولمة لصالحه وصالح طبقة من رجال الاعمال
والمستثمرين وكذلك العمال الفقراء من بلاد الهند وافريقيا
وآسيا. وهاجر اليها رجال الاعمال السعوديون حاملين رأس
المال الذي ينمو ويترعرع بعيدا عن البيروقراطية المستشرية
والقيود والمعاملات البطيئة التي يعهدها أي رجل اعمال
في السعودية. وتحولت دبي الى مدينة توفر الوظيفة والعمل
الناجح يطمح ان يدخل سوقها الكثير من ابناء السعودية العاطلين
عن العمل.
كل هذه الانجازات السياسية والاعلامية والاقتصادية
في دول تربطها بالسعودية علاقات بشرية حميمة وحضارة وثقافة
مشتركة تطرح علامات استفهام على طريقة الأخ الاكبر في
تعامله مع تحديات المرحلة الحاضرة، بل هي تظهر كيفية التطور
الاقتصادي والاصلاح السياسي والانفتاح الاعلامي في بلاد
قريبة جغرافيا وشبيهة اقتصاديا من حيث ثرائها النفطي بالسعودية
ولكنها قفزت قفزات كبيرة في تعاطيها مع ضغوط الحاضر وتطلعات
المستقبل من قبل شعوبها.
ومن الواضح ان دول الخليج الصغيرة قد طوقت السعودية
بحزام سياسي فيه بعض التجديد ولو غير المكتمل بعد وحزام
اعلامي متطور وجريء وكذلك حزام عسكري امريكي علي الشواطئ
الخليجية، بالاضافة الي حزام اجتماعي تتعايش فيه الثقافة
المحلية الاسلامية والعربية مع التعددية الثقافية والحضارية
المتمثلة في تعايش اعداد كبيرة من الجاليات الاجنبية والعربية
في دول الخليج مع عدد صغير من المواطنين الخليجيين. هذه
الاحزمة تظهر الأخ الأكبر مباشرة او غير مباشرة بمظهر
المتحجر غير القابل للمرونة والتجديد ونفض غبار التقليد.
وتعرف الاشياء دوما من خلال اضدادها.
القدس العربي ـ 10/1/2004
|