سعد الفقيه.. المعارضة ـ الشخص
من أجل فهم قصور المعارضة ـ الشخص الممثلة في الدكتور
سعد الفقيه والتي تزعم بعض المصادر الخبرية بأنها انتهت
الى تفسيخ الحركة بضربة قاصمة، وجهتها عدة أطراف عربية
وغربية، ينبغي لنا أن نتذكر حقيقة كون الحركة تستمد زخمها
السياسي من الاتصال المباشر مع الجمهور.. ولا ننسى في
الوقت نفسه بأن الفقيه يتحدر من منطقة ومجتمع لم يألف
العمل الحزبي بالمعنى التنظيمي، رغم وجود أنوية بدائية
لعمل منظم من نوع ما.
إن لجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية التي شارك الدكتور
الفقيه في تأسيسها عام 1992 الى جانب خمسة آخرين هم الدكتور
محمد المسعري والدكتور عبد الله الحامد (الذي لا يزال
معتقلاً في سجن عليشة بالرياض) والشيخ عبد الله المسعري
رئيس ديوان المظالم سابقاً والشيخ عبد الله بن جبرين عضو
هيئة كبار العلماء والشيخ ابراهيم الرشودي والدكتور حمد
الصليفيح، قد شكّلت بداية عمل سياسي منظم.. ولكن قدّر
لهذه اللجنة أن تتفتت سريعاً كونها ظلت مرتبطة الى حد
كبير بصمود اعضاء اللجنة دون التفكير في إحاطة نفسها بقاعدة
شعبية على مستوى اقليم نجد دع عنك على المستوى الوطني،
وهذا ما سهّل ضربها من قبل الحكومة.
وبعد اعتقال اعضاء اللجنة واضطرار الناشطين البارزين
فيها وهما الدكتور المسعري والدكتور الفقيه للهجرة الى
بريطانيا، بدأت مرحلة عمل سياسي بالغة الجدّة، إذ ستبدأ
فصول معارضة من خارج الحدود لأول مرة في تاريخ التيار
الديني السلفي.. لقد حظي كل من المسعري والفقيه بإهتمام
اعلامي بارز في الغرب وبخاصة في بريطانيا، وقد ساهمت النشاطات
الاعتراضية السلفية منذ بداية التسعينيات في تسليط ضوء
كثيف على المتغير الدرامي في منطقة نجد الحاضنة الطبيعية
للسلطة السعودية، أفاد منه الفقيه والمسعري في مستهل تجربتهما
السياسي في الخارج. فقد كان المسعري والفقيه محاطين بهالة
العمل الاحتجاجي الذي قاده رجال دين من المجتمع السلفي
النجدي المتصاهر مع العائلة المالكة. ولذلك، فإن قدوم
المسعري والفقيه الى لندن كان أشبه بالمبعوث الخاص لحركة
الاحتجاج الديني السلفي، ولا غرابة في أن يكونا مركز اهتمام
الاعلام الغربي. وهذا ما أغرى المسعري والفقيه للذهاب
بعيداً في تأكيد النزوع الانعزالي لديهما، وتأكيد الطابع
السلفي والنجدي في نشاطهما طيلة السنوات الماضية، وكانت
تلك من أخطاء الرجلين الفادحة، وقد نبّههما عدد من الناصحين
العرب ممن اقتربوا من الموضوع السعودي من الوقوع في مطب
الانعزال عن حركة الاحتجاج السياسي الواسع في المملكة.
كان الانشقاق الحاصل في لجنة الحقوق الشرعية قد أحدث
صدعاً خطيراً ليس في اللجنة فحسب بل وحتى في مصادر تمويلها
ودعمها في الداخل، وتبع ذلك ايضا أن خبت جذوة النشاط الاعلامي
للمسعري بعد أن كان موضوع الصحافة البريطانية لفترة من
الوقت، وبعد أن كان مكتبه يعج بالنشاط الاعلامي الدؤوب،
وهكذا التواصل الكثيف مع الداخل عبر الفاكس، حتى أن جريدة
الجارديان قدّرت فاتورة هاتف مكتب لجنة الحقوق الشرعية
في فترة بما يصل الى عدة آلاف من الجنيهات الاسترلينية.
إن الانطفاءة السريعة لوهج المسعري في لندن قابله صعود
نجم الدكتور سعد الفقيه الذي كان يتولى الاشراف المالي
للحركة، فبدأ يضطلع بدور قيادي بارز، على حساب المسعري
الذي انخرط في نشاطات سياسية وفكرية غير واضحة المعالم،
وأحياناً على النقيض من الرسالة التي حملها معه من الداخل.
كان بدء الفقيه لنشاط سياسي منفرد ايذاناً بانحسار
النشاط الاعلامي على الساحة البريطانية، فالمسعري الذي
يتحدث اللغة الانجليزية بطلاقة كان يقوم بدور اعلامي بارز،
وكان يمثل بامتياز الناطق الرسمي بإسم المعارضة السلفية
عموماً. الا أن اختيار المسعري للعمل ضمن نشاطات حزب التحرير
أو حركة (المهاجرون) لاحقاً قد أفقدت لجنة الدفاع عن الحقوق
الشرعية والمعارضة السلفية شخصاً نشطاً نهبته اهتمامات
كونية غير مثمرة.
وعلى أية حال، فإن ما يلزم الالتفات اليه أن الفقيه،
كما المسعري، أخفق في تطوير أعمال ذات انعكاسات شعبية،
كما أخفق في تصميم هياكل تنظيمية في الداخل تضطلع بدور
سياسي ضاغط في الداخل. لم تؤهّل نشاطات الفقيه نشوء حركة
شعبية فاعلة، بل إن التطورات اللاحقة عزّزت نخبوية، إن
لم تكن فردانية، العمل السياسي الذي يديره الفقيه كما
المسعري.
لقد اعترف الفقيه بقصور حركته كونها لا تستند على قاعدة
تنظيمية فاعلة، وقد اكتشف هذا القصور منذ ظهور بوادر فشل
ندائه الموسوم (الزحف الكبير) الذي خرج منه مكسوراً بعد
أن كانت قوائم المؤيدين تتزايد وتزيد في قناعته بالمنهج
السياسي الذي تبناه على أمل بلوغ النصر بإقامة الدولة
الدينية. إن الزخم الاعلامي الهائل الذي صنعته قناة (الاصلاح)
خيّل اليه بأنها ستكون وسيلة التغيير الثوري في السعودية،
فيما كان المتصّلون الحقيقيون والوهميون بالقناة يغذّون
ذلك التطلع الكبير لدى الفقيه والقلّة المحيطة به. فقد
ذهل الفقيه في أتون النشاط الاعلامي الدؤوب عن اختبار
صدقية الداعمين له في الداخل، فمن طبيعة الحركة الفردية
التي تتعامل بصورة مباشرة مع الجمهور أنها تفتقر الى أدوات
اختبار عملية، وأنها مكشوفة أمام الآخر بالمعنى الواسع،
فالحركات التنظيمية تبني حول نفسها ستاراً سميكاً من السرية
والعمل التنظيمي المتقن، والذي يمنع تسرب أفراد غير مؤهلين
او عملاء مندسين الى داخل الجسد التنظيمي، فبناء خلايا
العمل لا يتم بصورة اعتباطية بل يخضع لشروط صارمة واختبارات
معقّدة.
بمقدار قصور حركة الفقيه وعلى الضد منها تبنى الفقيه
مشروعاً سياسياً طموحاً وخيالياً الى حد كبير، فالاجندة
السياسية لدى الفقيه كانت مليئة بالشعارات الكبيرة والطموحة
التي تدغدغ مشاعر الغالبية السكانية في المملكة، من قبيل
اعادة توزيع الثروة، وفتح باب المشاركة والتمثيل السياسي
العادل، واعادة الاعتبار للزعامات القبلية المهمشة وهكذا
الفئات الاجتماعية المحرومة. إن الخطاب السياسي الذي تبناه
الفقيه يفتقر الى التعقيد، فهو ينتج القليل من الافكار
والرؤى التي لا تزوّد المجتمع بأكثر من طائفة كبيرة من
الاحلام، وبقلة نادرة من النظرات التبسيطية عن واقع يزداد
تعقيداً وتشابكاً.. في حقيقة الأمر، أن حركة الفقيه كانت
أقرب الى صناعة الاسطورة المتصلة بالشخص وعملية التغيير
نادرة الحدوث، وهي غارقة في مثالية غير واقعية، ومعزولة
عن متطلبات التغيير الجذري وشروطه وظروفه.
لقد أنس الفقيه الى التأييد المعنوي الواسع الذي تصله
رساءله من أفراد ساهموا في تصوير الواقع مضللاً او محجوباً
في أجزاء كبيرة منه، الى حد أن البيانات التي أطلقها الفقيه
قبيل وفي يوم (الزحف الكبير) تنبىء عن احساس متضخم بالقوة
القادرة على الاطاحة الوشيكة بالدولة، وأنه بات قاب قوسين
أو أدنى من حافة الانقلاب، بل وأن كافة أفراد الشعب أصبحوا
رهن إشارته وتعليماته من أجل الزحف على مؤسسات النظام
وتهديم بنيان الدولة من أسسها.
لم يفد الفقيه من المخزون النضالي الشعبي الوطنى، ولم
يعر قدراً معقولاً من الاهتمام بالنشاط الاصلاحي والمتغيرات
الداخلية الحاصلة خلال السنتين الماضيتين، سيما هامش حرية
التعبير التي صنعها التيار الاصلاحي في الداخل، وهكذا
الحراك السياسي والثقافي الداخلي.. لقد ظل يبشّر برسالة
شديد الخصوصية والفئوية وإن حاول ظاهراً أن يوحي بانفتاحه
على جماعات ومناطق اخرى خارج نجد. لقد شكك البعض في حقيقة
أسماء الاشراف الواردة في قوائم الداعمين له، وهناك من
شكك في أسماء القبائل التي انضمّت الى ركب الزاحفين والمبايعين
له بولاية الأمر في السعودية، وقد فعلت هذه القوائم والمبايعات
فعلاً تضليلياً وتخريبياً الى حد كبير ظهرت انعكاساته
النفسية الخطيرة على الفقيه شخصياً لحظة المواجهة الحقيقية،
أي في يوم الزحف الكبير المحدد، فقد تبيّن أن الزاحفين
قد تراجعوا الى أوكارهم، دع عنك ضآلة عددهم في المقام
الأول.
هل كانت ضربة قاصمة؟
لو لم يكن إخفاق مشروع (الزحف الكبير) لما كانت تدابير
اغلاق القناة وتجميد حسابه البنكي تطال الفقيه.. هذا ما
قاله أحد المراقبين والمستنكرين للتدابير التي اتخذتها
السلطات البريطانية ضد الفقيه بعد أيام قلائل من موعد
الزحف الكبير. بكلمات أخرى، لو نجح الفقيه في تحريك الشارع
او أن الاخير تحرّك وفق مأمول الفقيه، وتحركت عقارب الساعة
نحو تغيير حقيقي في الداخل، أو كما صوّره الفقيه عبر قناة
الاصلاح، فإن موقف الغرب سيكون مختلفاً، فالبراغماتية
السياسية تظل القانون الأشد تأثيراً في العلاقات الدولية.
لاشك أن (الاصلاح)، القناة التي أطلّ منها الفقيه على
الداخل والخارج، قد كسرت تقليداً اعلامياً سائداً، وكسرت
معها احتكار الدولة لوسيلة إعلامية تتطلب قدرة مالية وخبرية
عالية. ومن الناحية العملية، خرقت (الاصلاح) محرماً في
الاعلام المرئي، فلأول مرة تتعرض صورة النظام السعودي
الى تشويه كبير عن طريق قناة مصممة للتعريض بسياسات الحكومة
السعودية وفضح فساد العائلة المالكة.
بكلمة، نجحت قناة (الاصلاح) في تحطيم صورة نظام أحاط
نفسه بشبكة بث تلفزيوني واسع، تحمل إما الدمغة السعودية
المعلنة أو تعتمد بصورة كاملة او جزئية على مصادر تمويل
سعودية. يتحدث كثيرون في داخل المملكة عن المتابعة الدقيقة
والمستمرة لقناة الاصلاح، ومن قبل فئات اجتماعية عديدة،
وأن تأثيرها النفسي كان أشدّ على شرائح اجتماعية محرومة،
فقد شكّلت (الاصلاح) متنفساً لكثيرين وجدوا فيها القناة
المعبّرة عن سخطهم على العائلة المالكة.
إن الخبرة السياسية المتواضعة لدى حركة الفقيه وفّرت
أرضية وذريعة لضربه في مصدر قوته.. وربما لم يكن يتوقع
الفقيه أن تطاله دمغة الارهاب، السلاح الأكثر استعمالاً
وفتكاً ضد المعارضين السياسيين وخصوصاً في البلدان التي
صُنِفت على أنها تفرِّخ الارهاب، و أنها أوكار نشطة لخلايا
إرهابية. لاشك أن تساهل الفقيه في تسرب بعض مفردات العنف
عبر قناة (الاصلاح)، وحتى اللغة المواربة التي استعملها
في التأكيد على مبدأ الدفاع عن النفس واستعمال السلاح
لأغراض دفاعية لم تكن معزولة عن سياق الرؤية العامة التي
تبناها الغرب والولايات المتحدة على وجه الخصوص من المنتمين
للتيار السلفي بما في ذلك الجناح المعارض فيه.
إن التسامح في استعمال مفردات هي من مشتقات لغة العنف
أو تحمل بعض سماتها قد مكّن المتربصين به من النيل منه
وبسهولة، باللجوء الى قانون مكافحة الارهاب.. ثم جاءت
قصة المؤامرة المزعومة لاغتيال ولي العهد الامير عبد الله،
والاتهام الذي وجّه للفقيه بالضلوع في المؤامرة بالتعاون
مع ليبيا، لتضع الفقيه في مواجهة حتفه.. كانت رواية الاغتيال
طعماً مبيّتاً للفقيه منذ شهور وهو ما لم يلتفت اليه كثيراً،
ولكنه الطعم الذي بلعه الفقيه أو دّس إليه كان مقدمة لضربه.
تحدث البعض عن وقوع الفقيه ضحية لتواطئات سرية بين
الكبار، وقيل بأنه خضع لعملية ابتزاز واستغلال من قبل
بعض الاجهزة الاستخباراتية العربية والغربية، الا أن ذلك،
وإن حصل، لم يتم دون توفّر ذريعة أعان الفقيه على تقديمها
لخصومه.
السؤال المطروح الآن: هل انتهى الفقيه سياسياً؟ وهل
أن اغلاق محطته، نافذته شبه الوحيد على الداخل والعالم
قد يؤدي الى انغلاق أفقه السياسي في التغيير؟ وهل سيواجه
خطر التسليم للسلطات الفيدرالية الاميركية بتهمة الضلوع
في نشاطات تنظيم القاعدة؟ وهل تقدم بريطانيا على نفيه
خارج الحدود بنفس التهمة؟
كلها أسئلة مفتوحة، تحت طائلة قانون مكافحة الارهاب،
فهذا القانون يكاد يجير كل إجراء، فهو يعلو فوق تشريعات
حقوق الانسان وحرية التعبير، مادام يتعارض مع مصلحة قومية
للبلد المضيف. ولعل التدابير الاولية التي إتخذتها السلطات
المالية البريطانية بتجميد الحساب البنكي لقناة الاصلاح
تنذر بقائمة أخرى من الاجراءات الصارمة التي قد تؤدي الى
نهاية غير سعيدة لحركة الفقيه.
ومهما يكن، فإن الواقع الموضوعي يخبر بأن الفقيه ـ
المعارضة والظاهرة معرّضة على الدوام وفي ظروف اخرى مشابهة
للتفسخ، إذ لا يتطلب زوالها وتلاشيها أكثر من تنحي الفرد
بمحض ارادته او تنحيته بوسائل أخرى من بينها قانون مكافحة
الارهاب وصولا الى زوال الحركة برمتها.
قد يدخل الفقيه دوّامة التسويات السياسية والأمنية،
التي تؤدي الى تغييبه سياسياً وتبقي عليه كفرد، وقد يعيد
تقويم حركته بغرض العودة في هيئة أكثر نضجاً والتصاقاً
بالواقع.. فما هو رهانه القادم، يظل سؤالاً مطروحاً بانتظار
الايام وما تسفر عنه من نتائج وتداعيات بالنظر الى قضية
تورطه في مخطط اغتيال ولي العهد وتهمة الارتباط بشبكة
تنظيم القاعدة.
|