أزمة المنامة ـ الرياض ومستقبل مجلس التعاون
إنـهـدام الـجـدار الأخـيـر
كان مألوفاً بين دول مجلس التعاون الخليجي وقوع خلافات
صغيرة أو كبيرة منذ قيام هذه الكيانات في القرن الماضي،
وظلت المشاكل الحدودية واحدة من محرّضات الخلاف بين السعودية
(التي توصف في الادبيات السياسية والاعلامية بأنها الاخ
الاكبر او الجار الأكبر) وجيرانها في مجلس التعاون الخليجي.
وحدها البحرين التي احتفظت بعلاقات متينة مع السعودية
طيلة الفترة السابقة من عمر المجلس منذ نشأته في ديسمبر
1981، فقد ظلت البحرين، البلد الأفقر بين بلدان الخليج
الغربي، مصنّفة كحليف استراتيجي مع السعودية داخل المجلس،
وكانت المنامة ملتزمة الى حد التطابق بممليات السياسة
السعودية طيلة السنوات الماضية، وهو ما تدركه بقية اعضاء
المجلس تماماً. ويعود السبب في خضوع دولة البحرين الى
نوع من المحاباة السياسية الدائمة أنها تعتمد في مصادر
دخلها على ما تقدمها دول الخليج الأخرى مثل الامارات والكويت
والسعودية على معونات مالية او عينية لهذا البلد، حيث
تمثل نسبة المساعدات التي تقدمها دول الخليج ما يربو عن
60 بالمئة من مصدر الدخل السنوي للبحرين. وهذا بلا شك
قد ساهم في تكبيل الارادة السياسية البحرينية التي ترى
بأنها مضطرة للتعامل بدرجة كبيرة من الحذر والتوافقية
من أجل المحافظة على استقرار واستمرار مصادر الدخل.
العلاقات السعودية البحرينية الى أين؟
|
لقد حاولت البحرين أن تحقق قدراً كبيراً من التوازن
والاستقرار في علاقتها مع السعودية ودول الخليج الاخرى،
ولكن الخلافات التي نشبت داخل دول المجلس بين السعودية
وقطر الى جانب التوترات المستترة بين السعودية والكويت
أدخلت البحرين في معادلة توازن صعبة، وكانت تتطلب منها
مواقف من نوع آخر تبقي على التوازن المطلوب لضمان استقرار
علاقاتها ومصالحها داخل المجلس. وعلى أية حال، فإن معادلة
المصالح تظل حاكمة دائماً حتى بين الدول الأشد تحالفاً
في العالم، وهذا ما حصل في العلاقات السعودية البحرينية
والتي دخلت في مرحلة جديدة من الوعورة والتذبذب منذ توقيع
اتفاقية التجارة الحرة مع الولايات المتحدة في سبتمبر
الماضي.
فقد بدأت اولى بوادر الخلاف في قمة الدوحة التي انعقدت
في يومي الحادي والعشرين والثاني والعشرين من ديسمبر الماضي،
حيث ان مقاطعة عاهل البحرين وولي العهد لم تكن متصلة بالخلافات
التقليدية بين المنامة والدوحة أو حتى الخلاف السعودي
القطري بموضوعاته المعروفة (الحدود، وقناة الجزيرة، والهيمنة
السعودية على المجلس)، رغم ان المعلن عن خلفية قرار الامير
عبد الله بعدم حضور القمة كان (بسبب الموقف العدائي (حيال
الرياض) والذي تتنباه قناة الجزيرة الفضائية القطرية)،
وهو صحيح جزئياً الا أن حالة الاحتقان التي تعيشها العلاقات
السعودية البحرينية كانت أيضاً سبباً لاحجام قيادتي البلدين
عن الجلوس على مائدة واحدة، ما لم تقم البحرين بتقديم
تفسيرات واضحة ومقنعة للرياض بخصوص اتفاقية التجارة الحرة
التي وقعتها البحرين مع الولايات المتحدة في شهر سبتمبر
الماضي.
لقد أغضبت هذه الاتفاقية السعودية الى حد أن جريدة
الرياض وصفتها في افتتاحيتها بعنوان (زوبعة في القمة الخليجية)
بأنها (إنفلات حقيقي) داخل مجلس التعاون.. محرّك ذلك كان
بطبيعة الحال هو موقف البحرين المفاجىء بالنسبة للسعودية،
فلم تكن الاخيرة تتوقع أن تخرق البحرين معادلة الاخ الأكبر،
بالنظر الى المصالح التي تربطها بالرياض. كان كسر المنامة
لهذه المعادلة بمثابة انهيار الجدار الاخير في مجلس التعاون،
حيث بات اعضاؤه متحررين من الضغط المعنوي الذي فرضته السعودية
على دول الخليج الغربي. وقد قيل عن خطوة البحرين بأنها
تكشف عن (طغيان المصالح الخاصة على المبدأ المتفق عليه
بين دول مجلس التعاون الخليجي) على حد جريدة الرياض، بل
اعتمدت الاخيرة مثال البحرين في توقيعها لاتفاقية التجارة
الحرة مع الولايات المتحدة لتشكيل تصوّر عام عن مجلس التعاون،
حيث ذكرت الجريدة بأنه (في مجلس التعاون نلف وندور على
قضية التعاون وكأنها تعويذة تصلح للمؤتمرات والتوصيات
والقاء الخطب الرنانة لكنها فاقدة الهدف حين تصبح الاتفاقات
مع الدول الخارجية اهم من التعهدات والمواثيق الموقعة
من قبل الاعضاء(.
وعلى أية حال، فإن ما قامت به الحكومة البحرينية يعتبر
خطوة إختبارية من أجل العيش بصورة مستقلة، فالاستقلال
بالنسبة لدولة تجد نفسها مضطرة دائماً لتقديم تنازلات
لدول داعمة وإن كان على حساب سيادتها يفرض نفسه كهاجس
دائم ومباشر لدى القيادة السياسة البحرينية، ولربما كان
اعتماد الاخيرة لسياسة الانفتاح على الخارج وتشجيع الاستثمار
الاجنبي في البحرين يستهدف بدرجة أساسية الى جانب انعاش
الاقتصاد الوطني البحريني وتسوية مشكلات عديدة تنموية
واجتماعية، هو تشكيل قاعدة اقتصادية صلبة صالحة لارساء
نظام اقتصادي فاعل، كما حصل في إمارة دبي.
ليس الأمر متوقفاً عند حد خرق التشريعات الخاصة بمجلس
التعاون، ولا تجاوزاً لمبدأ التعاون بين الدول الست الاعضاء
في المجلس، فقد خرقت قطر والكويت اتفاقيات سابقة أشد حساسية
من بينها توقيع اتفاقيات دفاع استراتيجي مع الولايات المتحدة
وبناء قواعد عسكرية للجيش الاميركي في هاتين الدولتين،
فضلاً عن الاتفاقيات الثنائية في مجالات مختلفة عقدتها
الولايات المتحدة مع دول المجلس، فلماذا تصبح البحرين
وحدها المطالبة بالالتزام الحرفي والصارم والكامل باتفاقية
التعاون، أو توصم خطوتها الاخيرة بالازدواجية؟.. في حقيقة
الأمر، أن خطوة البحرين لم تكن متوقعة وهي البلد الوحيد
الذي تمارس السعودية عليه سلطانها وهيمنتها، كانت مفاجئة
هي خطوة البحرين لأنها غير مؤهلة في نظر السعودية للقيام
بها كونها تتطلب جرأة وتضحية بمكاسب ليس غير السعودية
قادر على ضمانها. هذا التصور في حقيقته ينطوي على نزعة
تسلطية شديدة كونها تقوم على إبقاء البحرين مقيّدة وتحت
تأثير ضغط الحاجة الى المساعدات المادية السعودية والخليجية
عموماً، فيما تجهل العائلة المالكة في السعودية وهكذا
الكويت وقطر بأن البحرين شأنها شأن دول العالم بأن لها
رغبة شديدة في الاستقلال وحفظ الكرامة الوطنية وصيانة
السيادة، وخصوصاً في مقابل الدول المجاورة، فقد ظلت البحرين
كإقليم مخترق السيادة بالنسبة للسعودية الى درجة أن عربات
وسيارات الحرس والجيش السعودي كانت تخرق السيادة الترابية
البحرينية بصورة مستمرة، دون انتظار إذن من القيادة السياسية
او العسكرية البحرينية، فضلاً عن أن واقع الحال في البحرين
يحكي عن حقيقة الاختراق السعودي للسيادة البحرينية، فأن
تكون البحرين حرّة في صناعة قراراتها الاقتصادية والسياسية
يعتبر منبهاً مدويّاً كونه يمثل تجاوزاً خطيراً لنظام
الهيمنة السعودي، ولذلك فإن وصف (إنفلات حقيقي) هو بالضبط
ما يكشف عن رؤية السعودية وموقفها حيال الخطوة البحرينية.
في رد فعل على الخطوة البحرينية، رفضت السعودية فتح
ملف التكامل الاقتصادي في قمة الدوحة ما لم يتم التوصل
الى حل للخلاف حول اتفاقيات التجارة الحرة مع الولايات
المتحدة.. ومن الضروري الاشارة الى أن الرياض تعتبر المتضرر
الأكبر من اتفاقية التجارة الحرة، والسبب في ذلك هو تدفق
بضائع رخيصة الى الاسواق السعودية عبر الجسر الرابط بين
البحرين والسعودية بما يحدث اهتزازاً عنيفاً فيها. كانت
السعودية تصرّ على تجميد البحرين لاتفاقية التجارة الحرة
مع الولايات المتحدة رغم ان مثل هذا الطلب غير قابل للتنفيذ،
ولكن الرياض كانت تنتظر من ملك البحرين القدوم الى الرياض
لشرح وجهة نظره وتقديم تعهد أدبي بالالتزام بشروط السعودية
في حال بدء تنفيذ الاتفاقية التجارية بين المنامة وواشنطن،
والذي قد يلجىء السعودية الى فرض نظام حواجز جمركية ضد
الواردات على السلع الاجنبية القادمة من البحرين. وبطبيعة
الحال، فإن الاعفاء الجمركي الذي قدّمته البحرين للبضائع
الاميركية يشكل استغلالاً غير مباشر لاتفاقية الاتحاد
الجمركي الخليجي والذي بموجبه يجعل البحرين ممراً سهلاً
للبضائع الاميركية الى السعودية وباقي دول الخليج وهذا
يشكل تهديداً جديّاً للاسواق الخليجية عموماً وللسوق السعودية
بوجه خاص.
البحرين التي تحاول الافادة من انجازات العولمة عن
طريق الانفتاح تجد في الاتفاقيات التجارية مع الولايات
المتحدة فرصة تاريخية قد تنقلها الى مرحلة إنفراج اقتصادي
وتمنحها فرصاً تنموية واستثمارية غير قابلة للتكرار، ولذلك
فهي تحاول الافادة من منجزات العولمة وهكذا من التسهيلات
التي وفّرتها اتفاقيات مجلس التعاون ولاسيما الاتحاد الجمركي.
ما تأخذه السعودية على البحرين في خطوتها مع الولايات
المتحدة كان موضع اتفاق بين دول خليجية أخرى داخل المجلس
والتي بدأت بالتفاوض في عقد اتفاقيات تجارة حرة مع الولايات
المتحدة على غرار البحرين، ومع ذلك لم ينل هذا الموضوع
إهتماماً لدى القيادة السعودية بمثل اهتمامها بموضوع الاتفاق
التجاري بين البحرين والولايات المتحدة، والسبب في ذلك
أن الاتفاق الاخير يشكل ضرراً مباشراً وفورياً للاقتصاد
السعودي، وثانياً أن الاتفاق بحد ذاته بداية لنهاية حاسمة
وقاطعة لعلاقات السيطرة التي حكمت المنامة والرياض. فالانفتاح
والشراكة بوصفها مفردات رسالة البحرين الى العالم تفهمها
السعودية على أنها تجاوز لحدود الهيمنة وانفصام لعرى التعاون
الاستراتيجي بين دول المجلس، ولا سيما بين المنامة والرياض.
في الواقع، أن الخطوة البحرينية كانت موضع إعجاب دول
مجلس التعاون الخليجي الاخرى باستثناء السعودية بطبيعة
الحال، سيما تلك الدول التي تميل الى اعتماد التفاوض الثنائي
كوسيلة لتحقيق المصلحة، وهذا ما تقوم به الكويت وقطر بصورة
علنية وان كانت الامارات وعمان هما قد خرقا مبدأ التفاوض
الجماعي كوسيلة لتحقيق المصلحة المشتركة منذ سنوات بعيدة،
وأنهما ملتزمان بما يتم الاتفاق عليه في موضوعات محددة
دون انسحابها على غيرها.
هل حقاً أن الاتفاق التجاري البحريني الاميركي سيؤدي
الى نسف تام للتكامل الاقتصادي الخليجي، يظل سؤالاً مشروعاً
ولكنه بالتاكيد ليس على خلفية اتفاق البحرين مع الولايات
المتحدة ولكن لأن هذا الاتفاق سلّط ضوءا كثيفاً على توجهات
أعضاء دول المجلس في المرحلة الراهنة، ورغبتها في الدخول
ضمن اتفاقيات تجارية ذات أبعاد دولية وان كانت هذه الاتفاقيات
ستؤدي الى نسف عملية التكامل الاقتصادي بالمعنى الذي حددته
سجّلات قمم مجلس التعاون الخليجي.
لاشك ان المشروع الاقتصادي الخليجي يواجه تحديات خطيرة
تصل الى درجة احتمال انهياره بالكامل، ولكن هذا الانهيار
سيكون مرتبطاً بعجز قيادات مجلس التعاون عن التعاطي مع
ممليات العولمة وتحدياتها، وعلى قدرة هذه القيادات في
تطوير بدائل للتعاون الاقتصادي تكون على درجة من الكفاءة
والفعالية بحيث تنجح في تحييد الآثار السلبية للعولمة.
من الغريب أن اتفاقية الاتحاد الجمركي التي تم التوقيع
عليها في قمة 2003 ظلت تواجه عقبات كثيرة وأن الدول الخليجية
فشلت في احتواء مشاكل تطبيق الحماية الجمركية المفروضة
من قبل الدول الاعضاء على منتجاتها المحلية بعد تقديم
كل دولة قائمة بالمواد التي لن تخضع للاتحاد الجمركي.
وفي الواقع ان باقي الاتفاقيات المتصلة باتفاقية الاتحاد
الجمركي بقيت هي الاخرى متعثرة ودون اتفاق حاسم ونهائي
منها تقاسم العائدات الجمركية، وهكذا مشروع لمنع إغراق
السوق بالسلع وغيرها، ولذلك لا عجب ان تكون التجارة البينية
بين دول مجلس التعاون الخليجي منخفضة الى 10 بالمائة من
حجم التجارة لكل دولة.
ان الاصرار السعودي على مركزة الاقليم الذي تعيش فيه
دول مجلس التعاون باعتباره صاحب الاولوية في المصالح،
وأن اي اتفاق يجب أن يضع في حسابه الاقتصادي مصلحة دول
المنطقة أولاً قبل مصلحة الدول الاخرى، هذا الاصرار ليس
اكثر من تأكيد على مركزية السعودية في الاقليم، وخصوصاً
بالنسبة للبحرين التي شقت غبار الاخ الأكبر من أجل تجسيد
رسالتها في الانفتاح والشراكة.
غياب ولي العهد السعودي عن قمة المنامة، والتي عقدت
في 20 و21 كانون الأول / ديسمبر، كان رسالة احتجاج غير
مباشرة للقيادة البحرينية، وموقف ضاغط عليها من اجل اعادة
النظر في اتفاقية التجارة الحرة مع الولايات المتحدة..
البحرين اكتفت بمجرد زيارة اخوية روتينية قام بها ملك
البحرين الى الدمام بالمنطقة الشرقية والتقى خلالها بولي
العهد حاول خلالها تطمين القيادة السياسة السعودية حول
بنود الاتفاقية التجارية مع الولايات المتحدة، مع أن التدابير
التي فرضتها القيادة السعودية من قبيل وقف المعونة المالية
او تعديل نظام المقاسمة لحقل ابو سعفة والتي كانت بموجبه
تمنح السعودية حصة مميزة لدولة البحرين، هي دون شك تدابير
صارمة ومضرّة بالاقتصاد البحريني.
ومهما يكن، فإن البحرين قد خطت الخطوة الاولى الرئيسية
نحو فك الارتباط مع الجارة الكبرى، وبالتالي فك طوق الهيمنة
على سيادتها واستقلالها فهل تبدأ بالبحرين نهاية البداية
لمجلس التعاون ليعود المجلس كما بدأ اول مرة من المنامة.
|