الإنتخابات البلدية..
وهَـجٌ مُـفْـتَـعل لنتائـج غـير مغـرية
يجب ان توضع الانتخابات البلدية في حجمها الطبيعي فمن
الواضح ان هناك مبالغة وتضخيم لهذه العملية وهي لا ترتقي
الى مستوى الانتخابات ذات المدلول السياسي، ولكن في الوقت
نفسه فإن هذه الانتخابات تعبر عن رغبة حقيقية في المشاركة
السياسية وهذه الانتخابات بمثابة استفتاء شعبي على العملية
الاصلاحية. فعلى المستوى الشعبي، كانت العرائض الاصلاحية
التي صدرت خلال الاعوام الثلاثة الماضية بدءاً من (رؤية
لحاضر الوطن ومستقبله) وانتهاء بعريضة الملكية الدستورية،
اضافة الى مئات المقالات التي نشرتها الصحافية المحلية
لكتاب ينتمون للتيار الاصلاحي ويناصرون التغيير السياسي
في بعده الشامل، قد أفصحت بوضوح شديد عن الارادة الشعبية
شبه العامة حيال موضوعة الاصلاح السياسي وضرورة إحداث
تغييرات هيكلية في بنى الدولة. ولذلك أمكن القول بأن الانتخابات
البلدية خطوة متواضعة وناقصة في الاتجاه الاصلاحي، مالم
تؤسس لتغييرات جوهرية في النظام السياسي، باتجاه تحقيق
المشاركة الشعبية في عملية صناعة القرار السياسي. إن هذه
الانتخابات هي خطوة متأخرة بالقياس الى حجم المشكلات التي
تعانيها الدولة ومستوى التطلع الشعبي نحو الاصلاح.
إن الاسباب الموضوعية تكفي للمجادلة بأن الاصلاح صار
ضرورة للنظام الحاكم قبل أن يكون خياراً شعبياً وحان الوقت
لأن تدرك الطبقة السياسية في السعودية بأن عملية الاصلاح
هي حتمية ولا فرار منها من أجل البدء بتسوية معضلات اقتصادية
وأمنية وثقافية. إن البدء بخطوة عرجاء وغير مكتملة الشروط
والمواصفات الاصلاحية لا ينتج سوى كذبة مفضوحة وفجة، لأن
التجارب العربية فيها ما يكفي من الزيف بما يحول دون الوثوق
في أي خطوة لا تثمر عن تغيير حقيقي في العلاقة بين الحاكم
والمحكوم. ولذلك أيضاً، فإن الانتخابات البلدية هي بالنسبة
لكثير من القوى السياسية الوطنية إختبار لصدقية التوجه
الاصلاحي لدى العائلة المالكة، فالتجارب السابقة بكل اخفاقاتها
بدّدت الثقة في كل قول لا يعقبه فعل حقيقي على الارض.
إن الذاكرة الشعبية تنوء بارتكاسات الحكومة في المضمار
الاصلاحي، وبالتالي فإن الخداع والاستتار خلف عناوين مفروعة
المضامين لا يعدو سوى لعب في الوقت الضائع، فمصداقية العائلة
المالكة في وضع لا تحسد عليه، وما ينتظر منها أكبر من
ان يتم القبول به بلا شروط، فقد كبر الفتق ولا بد من رتقه
بصورة صحيحه وتغطي مجمل المساحة المطلوب رتقها. بمعنى
آخر، يجب أن تؤدي الانتخابات البلدية الى سلسلة متصلة
ومنتظمة من الاصلاحات التشريعية، ويجب أن يزوّد جسد الدولة
بدماء جديدة في مجلسي الشورى والوزراء.
ومن بين عيوب هذه التجربة، وهي بالمناسبة عيوب غير
مغتفرة وتنذر باقتراف المزيد من الحماقات في العملية الاصلاحية،
هو غياب المرأة، والذي يعتبر أحد أشكال التغييب الاخرى..
فالمرأة التي تصنّف محرماً اجتماعياً ودينياً باتت الآن
وفي غيابها عن الانتخابات البلدية محرماً سياسياً أيضاً،
ويخشى ان تتواصل عملية التغييب في المراحل اللاحقة، بحجج
واهية تستند على مزاعم دينية متهافتة.
ومن اللافت في الأمر أن ثمة نزعة تسويغية لتبرير اخفاق
الدولة في مجال اشراك المرأة، فهذه العودة البليدة المتكررة
لتاريخ اشراك المرأة في الغرب في العملية الديمقراطية
هو سلوة للماسكين بزمام السلطة وملهاة للمحكومين، فضلاً
عن كون هذا التعويل على تاريخ مشاركة المرأة في الغرب
يتداحض مع المتبنى العقدي للعائلة المالكة، وأن مجرد استعماله
كدليل دفاعي يشبه استعمال القذارة لاثبات الطهارة. أضف
الى ذلك، أن الاحتجاج بالمشاركة المتأخرة للمرأة الاوروبية
في الانتخابات يتبطن إدانة للمؤدلجين الدينيين أيضاً الذين
يجأرون بتحد مفتعل بأن الاسلام هو الدين الأكثر تقدماً
في مناصرة حقوق المرأة، فكيف يحتجون بتجربة (الكفار!!)
لتبرير فعل (المؤمنين!!).
هذا اللغط الممجوج يلتقي أيضاً مع إدعاء العائلة المالكة
كونها تتمسك بزعم أنها متقدمة في تفكيرها الاصلاحي على
المجتمع، وهو إدعاء أبطلته التجربة، فوثائق الاصلاحيين
الممثلين للطيف السياسي العام في البلاد تكشف بجلاء عن
تهافت المدعى الرسمي وتفوق التطلع الشعبي. وإذا كان ثمة
تفسير لمدعى العائلة المالكة بتفوقها فلابد من وضعه في
حدوده الضيقة للغاية، فهي متقدمة في تفكيرها الاصلاحي
على المجتمع والمقصود به مجتمعها الديني الوهابي فحسب.
إن محاولة توهيج العملية الانتخابية بشكلها الاحتفالي
الفارط في زهوها واشعاعيتها تستهدف الهاء وإذهال الرأي
العام عن المضمون الضحل لهذا الفعل الجنيني، وصرف الانظار
عن المعطيات الحقيقية والرقمية التي تظهر كم هو حدث كارثي،
وسنحاول هنا سرد الحقائق المعلنة التي يمكن على ضوئها
فهم الحاصل النهائي:
سبعون عاماً من الإنتظار = نصف انتخابات بلدية!
|
فبحسب النظام الانتخابي، فإن المؤهلين للانتخاب من
مجمل سكان المملكة هم 18 بالمئة فقط، وهذا ناشىء عن استثناء
اولاً النساء البالغ عددهم حسب بعض التقديرات 8 ملايين
نسمة ان لم يتجاوز ذلك العدد، والذين يشكلون نسبة تصويتية
تصل الى ما يقرب من 20 بالمئة، وهكذا استثناء المواطنين
دون السن الـ 21 عاماً، وهكذا العسكريين، والسجناء الجنائيين.
هذا على المستوى العام، وفي ضوء تجربة المرحلة الاولى
للانتخابات البلدية سنلحظ التالي:
إن المؤهلين في محافظات الرياض يقدر عددهم ما بين 500
ـ 700 ألف.
ـ الذين سجّلوا اسماءهم للتصويت في الانتخابات هم أقل
من 90 ألف، وهم بذلك يشكلون نسبة اقل من 20 بالمئة
ـ الذين شاركوا في التصويت يوم الانتخاب هم 65 ألف،
وهؤلاء يشكلون أقل من 10 بالمئة من اجمالي عدد المؤهلين
للمشاركة في عملية التصويت، وبالتالي فإن النتائج لا تبدو
مشجعة ولا تمثل بداية مغرية، بل هي إختبار أولي للحماسة
الشعبية لتغيير يجري تضخيمه ولكن يتضاءل على مستوى الاقبال
والاستقبال الشعبيين.
على المستوى الرسمي، هناك عيوب كثيرة تبدأ بالنظام
الانتخابي وتتناهى الى الوظائف المقررة للمجالس البلدية،
فمن أولى عيوب النظام الانتخابي استثناؤه لعنصر المرأة،
وثانياً تعيين النصف الآخر من الاعضاء. ومما يثير السخرية
حقاً أن النظام المعمول به في الانتخابات وفي نظام المجالس
البلدية يعود الى شهر صفر 1397هـ أي ما يقرب من 30 عام
ويجري تطبيقه الآن رغم التحولات الكبيرة في المجتمع والدولة.
وهذا أحد الدلائل الفاضحة على أن العائلة المالكة ليست
ملتزمة حتى بما تدعيه من تطوير الاجهزة بصورة تدريجية
اذ هي تريد تطبيق نظام مضى عليه نحو ثلاثة عقود.
نقاط تقييمية عاجلة
ـ أن المجالس البلدية نصف المنتخبة ستكون خاضعة لأجهزة
متكلسة وبيروقراطية، وهي خاضعة للحكومة: سلطة وزارة المالية،
وسلطة وزارة الشؤون البلدية والقروية، وأن الوزير هو رئيس
المجالس البلدية، وهذا يعني اخراج الاستبداد من باب الحكومة
ليعود عبر صناديق الاقتراع.
ـ أن اصلاح الجهاز الاداري يبدأ باصلاحات تشريعية،
وهي المدخل الصحيح لتأسيس فعل اصلاحي ولتغيير حقيقي في
البناء السياسي للدولة، ولتطوير الاجهزة. أن تأتي الحكومة
بإنتخابات ثم تكبِّل الاعضاء بقائمة متعفنة ومعيقة من
القوانين لن يغير سوى من طلاء وجه الدولة.. الانتخابات
يجب أن تؤسس لعلاقة قانونية بين الحاكم والمحكوم مبنية
على اساس تطوير نمط من العمل المؤسساتي.
ـ أن المجالس البلدية هي جزء من الجهاز الاداري للدولة،
وبالتالي فإن عيوب هذا الجهاز ستنعكس على عمل المجالس
البلدية. إن الحديث عن اصلاح من الادنى للأعلى واعتماد
سياسة الخطوات البطيئة في عملية الاصلاح ليست سوى تلبية
لأغراض السلطة بدرجة أساسية وربما وحيدة، وليس امتثالاً
لمتطلبات الدولة وإجراء عملية اصلاح شاملة لكافة أجهزة
الدولة، سيما وأن المجالس البلدية لا تعدو سوى نتوءا نافراً
وغير منسجم مع عمل الماكنة البيروقراطية للدولة، وأن ما
يمكن أن تسفر عنه المجالس البلدية ليس أكثر من إمتصاص
لقدر محدود من الاحتقانات الداخلية. إن ما يؤمّل من هذه
المجالس مهما بالغنا في دورها لا يمكن أن يرتقي الى مستوى
إحداث نقلة جوهرية في مسار الدولة وتطوير أدائها، لأن
هذه المجالس تظل وثيقة الصلة بما هي عليه الدولة برمتها،
فضلاً عن أن وظيفتها لا تتجاوز الحيز الرقابي والاستشاري
فحسب، إن لم يكن شرعنة برامج وزارة الشؤون البلدية والقروية.
ـ هناك رسالة هلع يمكن لنتائج الانتخابات البلدية في
الرياض أن تبعثها الحكومة للخارج وبالتحديد للغرب والولايات
المتحدة وكأنها بهذه الانتخابات تريد إبلاغ المناصرين
لمشروع دمقرطة السعودية أن تلفت أنظارهم الى القادم المخيف..
إن فوز الاسلاميين في الانتخابات البلدية في الرياض له
ما يبعثه من مخاوف لدى الغربيين، ولعل الحكومة قادرة على
توظيف هذه المخاوف في امتصاص الحماسة المتنامية في الغرب
لجهة دمقرطة السعودية.. لقد قيل الكثير عن دفع جهات في
العائلة المالكة للمتدينين السلفيين للمشاركة في الترشيح
والانتخابات رغم عزوف البعض الآخر عن الانتخابات باعتبارها
مخالفة لمبادىء دينية معينة لديهم. واذا صدق ذلك، فإن
العائلة المالكة أرادت ان توصل الرسالة واضحة من خلال
هذه التجربة البسيطة والتي تم استعمالها كبالون اختبار
للموقف الغربي والاميركي بأن الدمقراطية وصناديق الاقتراع
ستنشق عن إنفجار أصولي سيوجه نباله الاولى للمصالح الغربية
في السعودية وفي المنطقة بصورة عامة.
ـ إن المتدينين السلفيين لهم وسائل التعبئة التقليدية:
المسجد، المخيم الدعوي، النشريات، مجالس الذكر، والتي
هي قابلة لأن تتحول الى وسائل سياسية. وقد أفيد منها في
الحملات الانتخابية فيما حرم المرشحون غير المتدينين من
وسائل التعبئة لأن الانتخابات ظلّت أسيرة الطابع المحلي
الذي لا يسمح باستعمال وسائل الاعلام الوطنية مثل الراديو
والتلفزيون.. ولكن الواضح ان حتى الصحف والجرائد ووسائل
التعبئة الاخرى الشعبية منها بدرجة اساسية لم تسمح للمرشحين
بأن يعبِّروا بدرجة كافية عن برامجهم الانتخابية، وهي
حملات ظلت في حدود ضيقة للغاية وتعبر عن رغبة الحكومة.
وهذه أحد اوجه القصور حيث أن المرشحين لا يحظون بفرص متساوية
في استعمال وسائل الاعلام والتعبئة.
ـ لا يجب ان تلهينا الانتخابات البلدية عن حقيقة باتت
ثابته وواضحة وهي أن ثمة إجماعاً شعبياً على موضوع الاصلاح
وأن التوقعات الشعبية تفوق بدرجات متقدمة ضآلة الفعل الاصلاحي
الحالي وبالتالي فإن عزوف القوى السياسية الوطنية عن تعضيد
هذه الخطوة يعكس جانب الرفض من قبل التيار الاصلاحي الوطني.
ـ العملية الاصلاحية يجب ان تبدأ من حيث انتهى الآخرون
وفي ضوء التجارب البعيدة والقريبة ومن خلال تطور المجتمعات
الانسانية التي شهدت تحولات ديمقراطية، فالحديث عن الخصوصية
المزعومة أثبتت بانها مجرد ذريعة كشفت عن زيفها العرائض
الاصلاحية ومئات المقالات التي صدرت خلال الاعوام الماضية
والتي يظهر فيها التطلع المتقدم نحو اصلاح شامل، فالخصوصية
المزعومة مقتصرة على مركز السلطة وهي لا تمثل سوى نسبة
ضئيلة، وأن التجارب المجاورة قد تجاوزت بمسافة بعيدة التطور
الجنيني في السعودية
ـ ان الجدول الزمني للانتخابات مصمم سياسياً، فتحويل
الانتخابات الى حدث وطني يحيل منه الى حدث سياسي ولكن
أريد منه ان يكون حدثاً محلياً مسلوب التأثير السياسي
بدليل ان الحملات الانتخابية ظلت محدودة، وان البعد الاعلامي
كان قليل الأثر الشعبي، حيث لم يسمح للمرشحين استعمال
التلفزيون والراديو او حتى الجرائد المحلية في التبشير
ببرامجهم الانتخابية مع التذكير بقصور التجربة ومحدوديتها.
وهناك رغبة شديدة لدى العائلة المالكة بعدم إشاعة ثقافة
انتخابية وسياسية تشجع أفراد الشعب على التفكير بطريقة
ديمقراطية وحرة.
|