حول (الأمن الوطني)
منظوران متعارضان بين الحكومة والإصلاحيين
يعتبر الأمراء السعوديون أن ثمة مصدرين للخطر على الإستقرار
الإقليمي الخليجي، والإستقرار المحلي السعودي، أحدهما
التهديدات الخارجية بالغزو وفرض السيطرة من جانب دول الجوار
الإقليمي القوية: مصر، وإيران والعراق؛ والثاني، هو التهديدات
الداخليه التي يعتبرونها امتداداً لمصادر التهديد الخارجي،
والتي تتوجه أساساً لزعزعة نظام الحكم، وإحلال نظام بديل
شبيه للأنظمة القائمة في دول الجوار.
التفجيرات حولت أميركا من حامية للسعودية
الى مهددة لها
|
ولأن مصدر التهديد في نظر الأمراء هو خارجي، وأن قدرتهم
على مقاومته مهما بلغت لا تستطيع السيطرة عليه عند المواجهة،
بسبب فارق القوة البشرية وضعف البنية العسكرية، فإن نظرية
استقرار الأمن الوطني تقوم على معادلة خارجية تتضمن إشراك
أطراف إقليمية أو دولية قوية بالقدر الذي تستطيع تصحيح
الخلل في التوازن الإستراتيجي مع دول الجوار الكبيرة.
وعندما تتم صناعة هذه المعادلة فإن الشركاء الخليجيين
يشترون القسم المتعلق بهم منها. إن هذا يفسر الإهتمام
المبالغ فيه بربط العلاقات الخارجية بالعنصر الإقتصادي
على أسس ضمان المصالح المتبادلة وبالتحديد ضمان تدفق البترول
بكميات وأسعار مناسبة للغرب مقابل ضمان دعم الغرب السياسي
والعسكري لاستقرار الحكومة السعودية والحكومات الخليجية
الأخرى؛ ولعل هذا كان مضمون المعاهدة الموقعة بين الولايات
المتحدة الأميركية والمملكة عام 1974 والتي وقعها الأمير
فهد (الملك الحالي).
وفي الحقيقة فإن القضية تأتي بمجملها ضمن دائرة العلاقات
الخارجية، فعلاقات كل بلد إقليمياً ودولياً وتشابك المصالح
بينها وبين دولة أو دول عديدة، هو الذي يقرر مستوى الضمانات
الأمنية التي تريدها النخبة السعودية الحاكمة كما الطرف
الحامي. ويمكن تتبع الظروف التاريخية لظهور مشكلة الأمن
في المنطقة لاستبيان العلاقة الوثيقة بين الخارج والتفكير
الأمني للنخب الحاكمة في الخليج عموماً.
لقد ظهرت المشكلة بصورتها الحالية لأول مرة في بداية
السبعينيات الميلادية من القرن الماضي، في أعقاب الإنسحاب
البريطاني من المنطقة؛ وكانت المشكلة قد طرحت في مناسبات
سابقة وبصورة حادة، وإن كانت في إطار مختلف عن الإطار
الراهن، وعلى الخصوص حينما هدد الرئيس العراقي الأسبق
عبد الكريم قاسم بضم الكويت في مطلع الستينينات الميلادية؛
ثم طرحت القضية بصورة حادّة في أعقاب سقوط الشاه وما نجم
عن ذلك من تهديدات لاستقرار الأنظمة الخليجية، وقد كان
قبلها يعدّ حامي الخليج من تسرّب النزعات اليسارية والشيوعية
الى المنطقة، بل أن قواته شاركت في قمع ثورة ظفار في سلطنة
عمان.
بعدها ظهر مصدر خطر جديد وهو صدام حسين الذي احتل الكويت
وهدد السعودية في عقر دارها. حيث تبيّن عدم فائدة الدول
الإقليمية في الحماية، خاصة بالنسبة لدول الخليج الصغيرة،
فلم يكن بالإمكان الإعتماد على قوة السعودية التي هي في
الأصل بحاجة الى من يحميها. ولهذا عملت دول الخليج جميعاً
على توثيق علاقاتها مع واشنطن، وفتحت الأبواب لها لإقامة
المزيد من القواعد، وسمحت ببقاء الألوف من القوات الأميركية
في القواعد الخليجية عموماً بما فيها السعودية.
لكن الإنقلاب الحقيقي في نظرية الأمن الخارجي، هو ما
حدث بعد تفجيرات نيويورك وواشنطن في سبتمبر 2001م، فالقوى
الدولية ـ الغربية والأميركية ـ لاتزال تساهم بصورة فاعلة
في حماية مشيخات الخليج، الأمر الذي قلص من نفوذ السعودية
فيها، كما قلص الإعتماد الأميركي على القواعد السعودية،
والتي انتقلت الى دول الجوار (قطر مثلاً). بالنسبة للسعودية
فإنها انكشفت أمنياً الى حدّ خطير؛ فهي لا تستطيع أن تحمي
أحداً، كما لا تستطيع حماية نفسها من التحديات الإقليمية؛
ولكن ما خفف من الأمر هو أن إيران تغيرت ـ ما بعد مرحلة
الخميني ـ وقد أقام السعوديون علاقات متزايدة مع طهران،
أما صدام حسين فكان الحصار يكفي لإخضاعه قبل أن تقوم الولايات
المتحدة بإسقاطه.
لكن المصيبة الأعظم، هي أن الولايات المتحدة، بدت وكأنها
هي دون غيرها القوة التي تهدد الأمن السعودي من الخارج،
بعد أن كان ينظر اليها كحامية له؛ فأحداث سبتمبر جعلت
الحكومة السعودية مكشوفة للغاية، حيث تحول الحامي الأميركي
الى مهدّد! وأيّ مهدّد أشرس من أميركا نفسها؟ وكيف تستطيع
السعودية أن تتحدث عن أمن إقليمي وأميركا على حدودها في
دول الخليج في قواعد بحرية (البحرين وعُمان) وجوية (قطر)
وغيرها أيضاً في الكويت، فضلاً عن تواجدها المكثّف في
العراق؟ لا توجد للحكومة السعودية من وسيلة بعد انقلاب
الموازين إلاّ عبر إعادة تأهيل أعدائها أو منافسيها الإقليميين
(ايران والعراق وربما سوريا ومصر) ووضع خطة جديدة للأمن
الإقليمي، بحيث توفر لهم جميعاً ولو جزئياً مظلّة حماية
مثقوبة.
رؤية أخرى
ينظر معظم الباحثين الى مشكلة أمن المملكة بشكل خاص،
والخليج بشكل عام من زاوية الآثار الناجمة عن التطورات
الإقتصادية، بالخصوص من زاوية عدم ترافقها مع تطوير مناسب
للبناء الإجتماعي، ولا سيما لوظيفة الدولة في مجتمع تتطور
إمكاناته وتتغير مفاهيمه بصورة هائلة السرعة.
وهذا يظهر أن هناك بالفعل منظورين متناقضين للمشكلة،
يتعلقان بالأهداف كما بالوسائل. فبينما تستهدف الحكومة
السعودية بصورة محددة ضمان ديمومة بقائها وتعتقد أن الخارج
هو المصدر الرئيس لعدم الإستقرار، وأن حل مشكلة الأمن
والإستقرار السياسي يتمثل في صناعة معادلات داخلية ـ خارجية
ضامنة، فإن كثيراً من النخب الإصلاحية تسعى الى تغيير
الرؤية وسحبها الى الداخل كبوابة لحماية البلاد بشكل تام،
وهذا يتناول على وجه الخصوص: الإعتراف للقوى الإجتماعية
الجديدة بحق المشاركة في صناعة القرار المتعلق بصناعة
حاضر الوطن ومستقبله. ويعتقد هؤلاء أن التوترات الإجتماعية
وخصوصاً سياسات العزل والإستفراد بالقرار من جانب النخبة
الحاكمة، هي المصدر الرئيس لعدم الإستقرار. ويمكن العثور
على عديد من الناس القريبين من السلطة السعودية والمتعاونين
معها، بل وأحيانا الشركاء في الحلقات الأدنى من دوئر اتخاذ
القرار، يدعون الى الإعتراف بهذه الحقيقة. فخراب البيت
من الداخل هو الذي يضعف نظرية الأمن الخارجي، ويجعل البلاد
مكشوفة أمام التحديات الخارجية وخاصة الأميركية هذه الأيام.
وحقيقة الأمر أنه بات من الضروري القيام بتغييرات جذرية،
وربما شديدة القسوة، بعد أن ثبت بصورة قاطعة ضعف أساسات
النظام الأمني القديم، وعجزه عن ضمان الحد المطلوب من
الإستقرار، وهو الأمر الذي يعترف به الجميع، حاكمين ومحكومين.
لكن التغييرات المنشودة تختلف ـ مكانها وموضوعها وأسلوب
تحقيقها ـ بين الطرفين.
ولأن الحكومة تنظر الى مشكلة الأمن باعتبارها مستوردة
من الخارج ـ من أنظمة العالم العربي والحركات الإسلامية
بصورة خاصة ـ فقد قامت بتكثيف إجراءات العزل التي كانت
في الأصل مكثفة وشديدة، عبر طرد العديد من العمال العرب،
ووضع قيود على هجرة الكثير منهم الى السعودية.. بيد أن
هذه الخطوات تؤثر سلباً على سمعة السعودية من جهة، ولها
تأثيرات معاكسة إقتصادية.
أمن الداخل يلغي الحاجة الى استئجار الأمن
الأجنبي
|
الحكومة لم تلتفت الى المصادر الداخلية لعدم الإستقرار.
هناك من يرى أن ثمة مصدرين رئيسيين لذلك نتجا عن التطورات
الإقتصادية التي رافقت عوائد البترول في المنطقة. أولهما،
يتجلى في انعكاسات هذا التطور على المجتمع ذاته. إن التحول
واسع النطاق في نمط المعيشة، يتضمن بالضرورة تحولاً في
أنماط التفكير وأسلوب التعامل مع المحيط. أما الثاني فتجلى
في ظهور العجز الحكومي في أداء مهامه. لقد عجزت الإطارات
الإجتماعية السائدة السياسية والإقتصادية وتبعاً الثقافية
عن استيعاب التطورات الهائلة في اتجاهات الإقتصاد المحلي
وموقعه ضمن النظام الإقتصادي العالمي، وبالتالي مكانتها
في المنظومة الدولية. إن مجتمعات المملكة التي تتعرض لهذه
التغييرات، مازالت تعيش في الإطارات القديمة التي ورثتها
من عصر ما قبل النفط، وعصر ما قبل ثورة التكنولوجيا والإتصالات،
ولم تعد الآن مقبولة أو قادرة على استيعاب الجديد. وقد
كتب الكثير عن الآثار التي يمكن أن يخلفها التطور الإقتصادي
على المجتمع السعودي، ثقافته ونمط حياته وعلاقاته الداخلية
ونظرته الى الحياة والمستقبل ومن في محيطه القريب.
كان من الضروري أن لا يصطدم النمط الثقافي والمعيشي
السائد بالمضامين الثقافية لأنماط المعيشة والتفكير القادمة
مع التطور الإقتصادي والإتصالاتي. لكن هذا كان يحتاج في
الحقيقة الى استعداد داخل المجتمع، قد يتناول تغيير الكثير
من المفاهيم والقيم التي يتبناها والمتعلقة بنظرته الى
ذاته وفلسفة علاقته مع الخارج، ومدى قدرة الأساسات الفلسفية
لثقافة المجتمع على استيعاب التطور المستمر وتكييفه، ثم
وبصورة أخص الإطارات الجديدة التي يجب إضافتها لاستيعاب
القوى الإجتماعية التي يقدر أن التغيير الإقتصادي سيفرزها
بصورة قطعية، ومكانتها من سلم العلاقات الاجتماعية، ومن
خريطة تقسيم القوى داخل المجتمع، وبطبيعة الحال علاقاتها
مع السلطة السياسية.
المستقبل
يتزايد الشعور بين النخب المثقفة في المملكة بأن الإنتكاسات
الأمنية المتتالية كان نتيجة طبيعية لسياسات الدولة واعتمادها
على الأميركيين في الأمن، وعدم النظر بشكل جادّ الى مشكلات
البلاد الداخلية وما أنتجته فترة التحديث من جهة، ورفض
الحداثة (الجزء السياسي منها) من جهة أخرى، الأمر الذي
أنتج عنفاً ابتدأ بجهيمان ولم ينته حتى هذا اليوم. لم
يكن متوقعاً أن تصمد الحكومة السعودية أمام أزمة كهذه
التي تعيشها بعد ظهور بوادر تغير راديكالي في المظلة الأمنية
التي كانت توفرها واشنطن، بل وانقلابها على المحميين بالتهديد.
كانت أميركا موجودة لحماية السعودية من آثار الثورة الإيرانية،
ومن آثار الحرب العراقية الإيرانية والحرب الأفغانية،
لكن الأميركيين لم يقفوا مع السعودية بشأن حرب اليمن الأهلية
ودعموا الوحدة، ولن يقفوا معها اليوم في معضلاتها المحلية
اللهم إلا المتصل منها بالأمن الأميركي (وجود الإف بي
آي والسي آي أيه في المملكة). ثم إن البنيان العسكري السعودي
لا يستطيع حماية البلاد حتى لو جاءت التهديدات من بلد
مثل اليمن.
معالجة المهمات المركزية وبالأخص متطلبات التغيير السياسي
الداخلي هي ما يجب التركيز عليه في هذه المرحلة. لا بد
من الإعتراف بأن القوة الفاعلة في المجتمع السعودي اليوم
لم تعد تلك التي يمكن قيادتها بالإسلوب التقليدي، ولم
تعد شرعية النظام الدينية سهلة التوفر خاصة بين أبناء
هذه القاعدة. أما استخدام وسائل العنف وشراء الصمت فهذا
حل مؤقت. إن الأجيال الجديدة تبحث عن مكان في السلم الإجتماعي،
إنها تبحث عن دور وتشعر أنها أقدر من الطبقة الحاكمة التقليدية
على قيادة البلاد نحو المستقبل الأصلح.
المواطنون لم يعودوا يشعرون بأن الأمراء يملكون الكفاءة
اللازمة لإدارة البلاد، وقد كشفت الأزمات المتلاحقة منذ
احداث سبتمبر 2001، عن نقاط ضعف كثيرة لا يمكن تأويلها
بغير انعدام أهلية القيادة عند أصحاب القرار. أما الإدعاء
بالحق الديني أو التاريخي في السلطة، فهو اليوم موضع سخرية
من جانب الأقربين للحكم فضلاً عن الأبعدين. ونعتقد أن
المخرج الواقعي للعائلة المالكة إذا كانت مهتمة بحفظ مكانتها
السياسية، يكمن في تخفيف القيود المشددة التي تفرضها على
ممارسة أبناء الشعب بمن فيهم المثقفون وأهل الرأي لحقهم
البديهي في التعبير عن آرائهم بحرية عبر القنوات المتعارفة.
إن ذلك يحتاج بداهة الى رفع تسلط الأجهزة الأمنية عن حياة
الناس الخاصة والعامة، وانصرافها الى مكافحة الجريمة،
بدل مكافحة الأفكار. كما يحتاج الى تحرير الصحافة والطباعة
والنشر من تسلط وزارة الداخلية، التي حولتها الى دكاكين
لفئة محدودة من الأمراء، رغم أنها من الناحية الرسمية
صحافة أهلية تعمل باعتبارها مشروعات تجارية.
من ناحية أخرى فإن صناعة الدولة القوية وضمان الإستقرار
المعيشي والأمني بحاجة الى معالجة المشكلات الكبرى. إن
الدولة مطالبة بصناعة الحلول التاريخية، وهذا لا يكون
بدون مشاركة أصحاب الرأي والخبرة من أهل البلاد، وهذا
يستدعي الإعتراف الحكومي بحق الشعب في الإطلاع على حقيقة
ما تواجهه البلاد من مشكلات، والمشروعات المقترحة لمعالجتها،
والتخلي عن السرية المفرطة في العمل الحكومي، والتي تؤطر
حتى تلك القضايا التي لا تحتاج الى إخفاء.
إن الوضوح في العمل السياسي ومصارحة الناس بما يحيط
بوطنهم، ثم إشراكهم في الحل، أي في صناعة القرار عبر قنوات
الإنتخاب وليس التعيين، هي السبيل الوحيد لضمان الوحدة
الوطنية ومساهمة المواطنين كل في موقعه في الدفاع عن البلاد
ومصالحها..
سيكون إنجاز هذه المهمات سهلاً، لو كانت السلطة الحاكمة
في بلادنا تقوم على فلسفة أخرى، غير تلك المعتمدة في الوقت
الراهن، ولهذا فإن إصلاحاً من هذا النوع بحاجة الى تغيير
في فلسفة الحكم، ونشير خصوصاً الى التغيير المطلوب في
تقييم الأسرة المالكة لدورها ضمن النظام السياسي وضمن
تركيب الدولة. إن العائلة تنظر الى مكانتها، إنطلاقاً
من فكرة أنها (تملك) الدولة، ولذلك فإنها تنصرف كيف أرادت،
دون مراجعة أي أحد في أي قضية. ومن الضروري اليوم أن يعاد
النظر في هذا المفهوم، إذ أن المواطنين لم يعودوا قابلين
لأن يملكوا، كما أن البلاد لم تكن يوماً ولن تكون معروضة
في السوق لكي تكون قابلة للتملك من أحد.
إن امتداد هذا المفهوم التملكي الى العصر الحاضر وإن
جادل دونه البعض، هو موضوع للتندّر بحيث لا يستحق أن يطرح
للنقاش. ينبغي في حقيقة الأمر النظر بجد في تحديد دور
العائلة المالكة في الدولة ـ الوطن، بوضع أساس جديد يأخذ
في الإعتبار مكانتها التاريخية، دون حيف على مكانة الشعب،
وعلى الخصوص مطالب المشاركة السياسية من جانب الأجيال
الجديدة التي لا ترى نفسها معنية بما كان في الماضي.
لعل الأمراء يعلمون بحقيقة الإنهيار الذي آل اليه وضع
البلاد، بما يهدد وحدتها الوطنية. إن الصراع السياسي ينمو
اليوم في الإطارات المذهبية والمناطقية والقبلية، ولا
يمكن بالطبع أن نوجه اللوم الى وجود مذاهب أو مناطق متمايزة
في البلاد، بل يجب توجيه اللوم الى القهر الذي يوقع على
المواطنين دونما جريرة، بحيث يجدون أنفسهم محشورين رغما
عنهم في صراع لم يقرروه، ولا يجدون بالتالي ملجأ يحتمون
به سوى أهل مناطقهم وقبائلهم ومذاهبهم، بعد أن عجزت الدولة
عن أن تكون الأب الحامي، والمدافع العادل عن مواطنيها.
إن تحميل المشايخ والمتعصبين الطائفيين مسؤولية الإستبداد
السياسي والفكري وتشنّج العلاقات الإجتماعية بين مكونات
المجتمع الطائفية والمناطقية والقبلية، لا يبعد المسؤولية
الحقيقية عن صانع القرار الحقيقي بين أمراء العائلة المالكة،
ولا يحلّ الأزمة، بل يعمّق الشعور العام بغياب الدولة
وانحسارها، اللهم إلا في صورة شرطي يعيش على تخويف الناس
برشاشه، أو في صورة أمير ـ كوزير الداخلية ـ لا يجد حلاً
للمعضلات التي صنعها هو وإخوته إلا تهديد المواطنين وخصوصاً
الإصلاحيين بعصا الأمن وفتاوى المشايخ الرسميين، والفصل
من الوظيفة والمنع من السفر كما هو ظاهر للعيان اليوم.
يشعر أهل الرأي أن البلاد تواجه اليوم مستقبلاً أكثر
غموضاً من أي وقت مضى، وأن حالة التسيّب في اجهزة الدولة
بلغت حدّاً لا يُطاق، وأن هناك العديد من مراكز القوى
يعمل كل منها لحسابه الخاص. في ظل هذا الوضع لا يجد المسؤولون
لإثبات وجودهم سوى مقاومة الإصلاح والإنجرار أكثر فأكثر
باتجاه استعمال أساليب القهر والتخويف، ولنا فيما حدث
للإصلاحين عبرة ومثالاً.. وهم بهذا يظنّون أن إجبار المواطنين
والمصلحين على الصمت سيكون حلاً لبلد يتجه نحو الإنهيار
الشامل. كان الجميع يعتقد بأن الأمراء سيتوقفون مليّاً
عند القضايا التي أثارتها أحداث 11/9، لكنهم أعادوا حلولهم
الترقيعية والترحيلية الى المستقبل مثلما فعلوا مع أزمة
احتلال الكويت، وقبلها أزمة جهيمان وغيرها. لازال هؤلاء
يعتقدون أن الأزمة عابرة وأن الإتكال على الولايات المتحدة
ـ رغم تهديداتها بتقسيم البلاد ـ هو الحصن الحصين لهم
ولاستمرارهم، ونخشى أن مثل هذا النهج لن يكون وراءه إلاّ
الإنهيار.
الصحيح اليوم هو التفكير في المستقبل، وعدم الجمود
على التاريخ. فإذا كان الأمراء قد اعتادوا على علاج المشكلات
بالإسبرين، أو باستئجار الحلول واستيرادها من الخارج،
فإن اليوم غير الأمس، والمشكلات أضحت أشد وأقسى وأكثر
تعقيداً من أن يتحملها الأمراء وحدهم، أو مع النخبة المناطقية
والمذهبية التي تسيطر على زمام السلطة. وإذا كان عدم الإعتراف
بحق الشعب في المشاركة السياسية في صناعة حاضره ومستقبله،
يعود الى الخشية من تزلزل مكانة الأسرة المالكة، ومن ثم
اضطرارها الى المزيد من التنازل عن تلك المكانة، فإن القوة
التي كانت تملكها هذه العائلة صارت من إرث الماضي، وهي
ـ القوة ـ في طور الإنتقال الى آخرين، الذين قد لا يكونون
ـ حين يفيض الكيل ـ شديدي الإهتمام بالتاريخ ورجال التارييخ.
ومن الأفضل للعائلة المالكة، أن تتوصل الى حلول وسطى،
أي الى وضع قانوني أكثر استقراراً ضمن الدولة ـ الوطن،
يعترف به الجميع، ويرضى به الجميع من منطلق الشراكة في
الوطن، والشراكة في المستقبل بسرّائه وضرّائه. إن هذا
يحتاج الى الكثير من الشجاعة والكثير من التصميم، فهو
المخرج الوحيد لأزمة البلاد الحاضرة، ولا بديل عنه سوى
العنف والدمار وانهيار البلاد وتقسيمها.
|