العراق مصدر الإلهام والخطر والإحراج
تريد الولايات المتحدة من العراق أن يكون مصدر إلهام
للشرق الأوسط كنموذج لتطبيق الديمقراطية. وكانت الدول
المستبدة في المنطقة قد خشيت في بداية الإحتلال الأميركي
أن يتحقق ما قالته، ولكنها أصبحت في غاية السعادة وهي
ترى تخبّط الولايات المتحدة في المستنقع العراقي وتسمع
سيل الغضب والألم وردة الفعل الحادّة مما نشر بشأن التعذيب
في سجن أبو غريب وتجاوز القوات المحتلة لكل القيم التي
تنادي بها. وبهذا تصورت هذه الدول ـ والسعودية في مقدمتها
ـ أن العراق (النموذج الأميركي) يحتاج الى زمن طويل كي
يتحول الى حقيقة واقعة على الأرض، كما أن الولايات المتحدة
بحاجة الى جهود مستحيلة كي تقنع شعوب الشرق الأوسط بجديتها
في تغيير حلفائها من الأنظمة الديكتاتورية (مصر والسعودية
على سبيل الأمثلة).
هل تخاف السعودية من عراق المستقبل؟
|
لكن الإنتخابات الناجحة نسبيّاً في العراق، قد تعيد
الألق للنموذج الأميركي الذي يراد صناعته، وخلال العام
الحالي فإن انخراط السنّة في بلور الدستور ثم التصويت
عليه وبعدها انتخاب مجلس وطني جديد، سيعيد الأمل بتحويل
العراق الى بؤرة استقطاب ديمقراطي. ورغم صعوبة تصور هذا
الأمر في الوقت الحاضر، فإن الإدارة الأميركية قد تتورّط
بالعملية الديمقراطية التي ابتدعتها؛ فهي تريد الديمقراطية
لإيصال الأصوات العلمانية والليبرالية فحسب، ولكن أن يصل
الإسلاميون ـ حتى وإن كانوا ليبراليين ـ فإنه قد يعرّض
الولايات المتحدة لإعادة النظر في سياستها، فعليها أن
تقبل بأن (الإسلاميين) الشيعة والسنة ـ وهم المتوقع أن
ينجحوا في الدورات الإنتخابية الأولى ـ لاعبون أساسيون،
كما عليها أن تتقبّل فكرة أن مصالحة الإسلام والديمقراطية
أمرٌ ممكن، وعليها أن تسمح بل وتسهّل تلك المصالحة، التي
إن نجحت في العراق فإنها ستنجح في أماكن أخرى عديدة، وسيكون
ذلك ضربة قاصمة لأنظمة الإستبداد. بمعنى آخر، إن الولايات
المتحدة مطالبة بأن تتقبل نتائج اللعبة التي ابتدعتها
حتى وإن لم تكن مرتاحة لذلك، وأن تتعامل مع الحالة العراقية
بشكل شبيه لما فعلته بالنسبة لحكم الإسلاميين في تركيا،
طالما أن أُسس اللعبة الإنتخابية لم يتم الخروج عليها.
إذا خرجت أميركا من هذه المشاكل، وعجّلت في خروج قواتها
من العراق، وسارعت بإعماره، فإنها قد تصنع منه خلال سنوات
قلائل النموذج التي تريد. ولكن يبدو هذا الأمر مجرد أمل،
بل هو الى الحلم أقرب. قد يتحقق بعض الإنجاز الذي يجذب
بعض الإنتباه، ولكن صورة النموذج ستبقى ملطخة بما يفعله
الأميركيون وما يقوم به الإرهابيون على حدّ سواء. وبهذا
يمكن القول بأن النموذج العراقي سيكون ـ في حال نجاحه
ـ ملهماً على المدى البعيد، أما في الوقت الحاضر، فإن
الأنظمة العربية المستبدّة، استطاعت أن تري شعوبها نوعية
المنتج الديمقراطي الأميركي الذي أصابه تشويه حادّ، جعلت
الكثيرين يكفرون بالغرب وبديمقراطيته.
في الطرف الآخر، فإن العراق أقرب ما يكون لمصدر الخطر
الأمني على الأنظمة المجاورة منه الى مصدر الإلهام السياسي
لشعوب المنطقة. فبقدر ما تتحسّن الأوضاع الأمنيّة في العراق،
يقترب الخطر من تلك الأنظمة. فإذا كان العراق ـ ولأسباب
سياسية وطائفية ـ أضحى مركز استقطاب للجماعات السلفية
العنيفة، خاصة تلك القادمة من السعودية، فإن تشتت هذه
الجماعات وعودة أفرادها الى بلدانهم سيشكل انعطافة أمنيّة
في البلدان التي جاؤوا منها. تلك العودة لن تتم إلا إذا
أحكمت السلطات العراقية قبضتها الأمنية، وهي سائرة بهذا
الإتجاه، وسيتم تطويق العنف فيه إن عاجلاً أم آجلاً.
حينها يمكن الحديث عن إعادة تصدير ما صدّر الى العراق!
وعلى غرار عودة الأفغان العرب، وتأثيرهم الكبير في
توتير الأوضاع في أكثر من بلد عربي.. فإن عودة (العراقيين
العرب) قد تحدث فواجع أمنيّة غير منتظرة، وهذا ما يشعر
أكثر من نظام عربي بالقلق الشديد.
وإذا كان من المبكر جداً أن يشعر النظام السياسي في
المملكة بخطر النموذج العراقي الديمقراطي، فإنه لازال
يرى في الدعوات الى الإصلاح السياسي سواء تلك القادمة
من القوى المحلية أو الإدارة الأميركية مشكلة حقيقية ستبقى
ترافقه الى أن يتغير النظام بصورة من الصور العنيفة أو
السلمية. ومما يحفّز على الإصلاح، النماذج المتطورة من
الأنظمة الناشئة في المنطقة وبينها بعض أنظمة الخليج التي
طورت أنظمتها ولاتزال حتى بات النظام السعودي النموذج
الأسوأ والأكثر بؤساً حين المقارنة، وهذا ما يستثير المواطن
السعودي نفسه.
بيد أن صورة النموذج العراقي المتوقع بدأت بالتشكّل،
ويبدو أن الحكومة السعودية تحاول أن تتعايش مع هذا النموذج
القادم بدل مقاومته، أو بالأحرى لا تستطيع مقاومته. فهي
وإن رفضت الفيدرالية، أو لنقل النظام الفيدرالي في العراق،
كون ذلك قد يؤدي الى تقسيم العراق، فإنها أعادت النظر
ربما فوجدت أن الفيدرالية هي الخيار الأنسب لمنع تقسيم
العراق. وبالرغم أنه ليس من حق دولة عربية أن تفرض نموذجها
على العراق، إلا أن السعودية تعتقد بأنها قد تكون مدعوّة
لتطبيق النموذج العراقي على أرضها.
السعودية مسؤولة جزئياً عن العنف في العراق
|
وبالرغم من أن الحكومة السعودية لا ترحب بوصول أكثرية
شيعية الى الحكم في العراق، كونه يثير كوامن الألم والحرمان
للمواطنين الشيعة المهمّشين، وبالرغم من الإعتقاد بأن
نظام الحكم القادم لن يكون بأية حال عدواً للمملكة ونظام
الحكم فيها، فإنها تهيّئ نفسها لقبول النتائج السياسية
التي تصنعها الديمغرافيا في العراق. وسيكون عليها أن تحسّن
علاقاتها مع مواطنيها الشيعة، وأن تعتمد سياسات الإدماج
ـ بدل العزل والتهميش ـ لتبعد أية مخاطر محتملة. غير أن
هذا لن يحدث بدون رؤية واضحة لما يجب أن تكون عليه السعودية
كدولة في المستقبل؛ ولا يعتقد الإصلاحيون عموماً أن الفئات
المهمّشة الكثيرة في المملكة يمكن أن تصلح أحوالها بدون
إصلاح النظام السياسي، الذي هو بوابة الإصلاحات الإقتصادية
والإجتماعية والفكرية والثقافية والتعليمية.
ومع الخطوات الإصلاحية البطيئة في السعودية، قد يصبح
العنف المصدّر الى العراق، والمعاد تصديره مجدداً الى
السعودية، محفّزاً إضافياً على التغيير السياسي غير المرغوب
فيه ملكياً. إن الذين يتحدثون عن أن العنف في المملكة
قد أجّل الإصلاحات السياسية، وأعطى الأولوية لمكافحة ما
يسمّى بالإرهاب، وخفف من الضغوط الأميركية، لا يدركون
ـ ربما ـ وجه اللعبة الآخر. فالعنف في المملكة ذو وجه
سياسي فاقع، إنه احتجاج نشط على شرعية النظام السياسي،
وانعكاس قوي لفشل التنمية الإقتصادية وانهيار دولة الخدمات
وبرامجها الإجتماعية، وبالتالي فإن العنف بقدر ما يمكن
أن تستخدمه الحكومة كـ(مؤجّل) للإصلاحات، فإنه في ذات
الوقت (معجّل ومحفّز) لها. وفي حال عاد السعوديون المقاتلون
من العراق فالمتوقع ان تئن الحكومة والمجتمع تحت وطأته
ولن تكون مكافحته ناجعة بدون تغيير سياسي شامل.
بين أن يكون العراق مصدراً للإلهام ومصدراً للخطر،
فإنه يمكن أن يعتبر بالنسبة للسعودية مصدراً للحرج أيضاً.
فكثير من العمليات الإنتحارية في العراق، والأكثرها دموية،
قام بها سعوديون سلفيون ـ يمكن معرفة أسمائهم من خلال
ندوات الإنترنت السعودية ـ والمال السعودي لازال فاعلاً
في أحداث العنف، والأهم من ذلك الفكر السلفي المتطرف القادم
من السعودية، والذي يتبناه أبو مصعب الزرقاوي وجماعته
والملتحقون به من السلفيين في كل أنحاء العالم العربي.
والمسؤولون السعوديون لا يخفون حرجهم من النشاط السعودي
في العراق، كما لا يخفون حقيقة أنهم عاجزين عن إيقاف تدفق
العنفيين الى العراق، ويتذرعون بطول الحدود.. ولكنهم في
نفس الوقت يريدون ـ في سبيل التخفيف من ذلك الحرج ـ التأكيد
على أن العنف في العراق والسعودية مترابط بشكل كبير، وأن
المملكة كما العراق مستهدفة منه.
وبالرغم من الإحتقان الشديد ضد الفكر السلفي ـ الوهابي
ـ الذي يعبّر عنه بشكل علني في صلوات الجمع وقنوات الإعلام
والصحافة المحلية العراقية، إلا أن المسؤولين العراقيين
لم ينزلقوا في عداء مع الحكومة السعودية.. كل ما أمّلوه
هو أن تبذل الحكومة السعودية جهدها لضبط مواطنيها وحدودها
وأموال تبرعات مواطنيها؛ والغريب أن أحداً من المسؤولين
العراقيين لم ينتقد ـ حتى ـ الحكومة السعودية أو تقصيرها
في هذا المجال؛ على العكس من ذلك، فإن عدداً غير قليل
من المسؤولين زاروا السعودية وامتدحوها وأعلنوا حرصهم
على إقامة أطيب العلاقات معها.
لعل هذا الموقف العراقي يأتي منسجماً مع الموقف الأميركي،
الذي يريد توفير أفضل الأجواء للحكومة السعودية لكي تقوم
بدورها في معركتها مع الإرهاب داخل السعودية نفسها، قبل
أن تطالب بمكافحته، أو توقف تمدده الى خارجها. ولعل سبباً
آخر يمكن أن يضاف الى هذا، وهو أن الحكومة العراقية تتفهم
قصور الفعل السعودي وليس تقصيره، ثم إنها ـ أي الحكومة
العراقية ـ لا تريد أن تفتح جبهات معارك مع كل جيرانها،
وهي قد اكتفت بتوجيه الإتهام الى كل من سوريا وإيران،
غير الأثيرتين لدى الإدارة الأميركية.
من جانبها، تبدو الحكومة السعودية شديدة الإمتنان لرد
الفعل العراقي الرسمي المتوازن، ولعلّ هذا يعطيها الكثير
من الإطمئنان، بأن إعادة بناء الدولة العراقية لن يجعلها
تتحوّل الى بؤرة مذهبية أو ثورية تهدد جيران العراق مرّة
أخرى وعلى قاعدة أيديولوجية جديدة.
|