الدولـة المـنحوسـة
رغم أن الحظ لا يصح التعويل عليه دائماً ولا يصلح كعنصر
في تحليل الظواهر والتحولات السياسية والاجتماعية، الا
أننا نستعمله هنا لأغراض مختلفة. فقد كان الحظ حليفاً
استراتيجياً دائماً للدولة السعودية، والى ما قبل أحداث
الحادي عشر من سبتمبر كان لعامل الحظ دوره الفاعل في تسيير
الدولة وجودا واستقرارا.. ويمكن القول بأن الحظ لعب دوراً
كبيراً في نشأتها، فبينما كانت الامبراطورية العثمانية
تشهد تفتتاً مريعاً لأجزائها، وأن مشاريع الوحدة العربية
تنهار الواحدة تلو الاخرى، كانت الدولة السعودية الوحيدة
التي تشكل نفسها عن طريق ضم أجزاء كبيرة من الجزيرة العربية..
وبينما كانت القوى العظمى تتقاسم التركة العثمانية على
أساس اتفاقية سايكس بيكو عام 1916 كان وحده مشروع الدولة
السعودية الذي حظي برعاية بريطانيا العظمى والتي أيضاً
أمدّته بمعونة مالية ومساعدات عسكرية من أجل تركيز أسس
دولة ابن سعود.
لم يكن متوقعاً لهذه الدولة الناشز البقاء طويلاً،
فقد كانت الاستثناء المخل بالقاعدة، ولذلك ظلت دائماً
مرشحة للزوال والتفتت، وكانت التقارير الصادرة عن السفراء
الاوروبيين تحذر على الدوام من ان عمر هذه الدولة قصير،
وذكر أحد التقارير في الثلاثينات من القرن الماضي بأن
فور موت الملك عبد العزيز ستشهد الدولة السعودية إنهياراً
كاملاً، ولكن لم يحصل ذلك، رغم أن التقرير كان يستند على
معطيات صلبة، فقد جاء الحظ في خدمة الدولة السعودية، حيث
صدر مبدأ ايزنهاور لملء الفراغ في المنطقة متزامناً مع
رحيل الملك عبد العزيز، مما اعطى دفعاً جديداً للدولة
السعودية التي نقلت أصبحت في عهدة القوة العظمى الناشئة،
أي الولايات المتحدة.
ثم بعد تراكم الغيوم الناصرية على سماء السعودية في
الستينيات كانت العائلة المالكة تشهد انقساماً داخلياً
حاداً على خلفية الصراع بين الملك سعود وولي عهده فيصل،
والتي أدت الى تجاذبات حادة بين أجنحة الحكم، وقد أفيد
منها في تأليب بعض الاطراف داخل العائلة المالكة ضد المؤسسة
السياسية السعودية المناهضة للمشروع القومي الناصري، وعاضدتها
التحركات الشعبية والعمالية التي كانت تتأهب لخوض منازلة
واسعة ضد حكم آل سعود، ولكن العائلة المالكة استوعبت الوضع
السياسي في وقتها استيعاباً تاماً على الرغم من خلافاتها
العميقة حينذاك من أجل انقاذ السلطة من الانهيار او الوقوع
في أيدي المناوئين لها، وقد حالفها الحظ أن الولايات المتحدة
بدأت تدخل كحليف استراتيجي مع السعودية ضد المشروع الناصري،
وجاء الملك فيصل بفكرة اقحام الاسلام كقوة مناهضة للايديولوجيات
المناوئة: الناصرية، والاشتراكية، والشيوعية، وحظيت الفكرة
بمباركة أميركية، وهو ما عبّر عنه السيد قطب بـ (الاسلام
الاميركي) وهو نموذج الدين المتوافق تماماً مع المصالح
الاميركية، وكانت تلك بداية انبثاث الاسلام المحافظ الذي
جرى توظيفه لضرب القوى السياسية التحررية الوطنية والليبرالية
واليسارية، وكان ذلك بداية تشكيل جبهة ايديولوجية واستراتيجية
مشتركة بين السعودية والولايات المتحدة.
لقد شهدت السعودية حوادث كبرى فيما بعد كادت أن تودي
بمصير الدولة، ولكن لعوامل داخلية وخارجية جرى احتواء
تأثيرات تلك الحوادث بطريقة أشبه ما تكون بمحالفة الحظ،
فبعد الثورة الايرانية شهدت البلاد اضطرابات داخلية شديدة
وبصورة متزامنة في منطقتي الحجاز والشرقية، ولولا تدخل
قوة فرنسية لفك الحصار الذي فرضته حركة جهيمان على الحرم
المكي لكادت الامور تفلت من عقال السيطرة، ولولا تدخل
قوات الحرس الوطني في المنطقة الشرقية واستعمال الرصاص
الحي المباشر ضد المتظاهرين واستعمال سياسة الجزرة لكادت
الصناعة النفطية تشهد توقفاً شبه كامل.
وقد كان عهد الملك فهد حافلا بضربات الحظ أيضاً، فقد
ساق البلاد الى الهاوية وفي عهده شاعت مصطلحات شعبية لم
تكن متداولة من أشهرها دولة البركة، التي تسير بغير هدى
لولا رحمة ربك.. من مشكلة البطالة، الى المديونية الفلكية،
الى انهيار دولة الرعاية، الى تزايد معدلات الجريمة المنظمة،
وصولاً الى العنف في شكله الديني غير المعهود. ولابد من
التذكير بمجريات أزمة الخليج الثانية والتي فقدت فيها
الدولة السعودية عنصر السيادة حيث أصبحت الدولة بالكامل
خاضعة تحت الادارة العسكرية الاميركية التي كانت تتولى
تسيير شؤون البلاد والعباد.. فيما كان الامراء قابعين
في قصور محصنة في الحجاز. ولو شاءت الولايات المتحدة اعلان
السعودية الولاية الثانية والخمسين لفعلت، فقد أحضرت جيشاً
قوامه 500 ألف جندياً يفوق بأضعاف عدد وكفاءة القوات المسلحة
السعودية بكافة أجهزتها. ولكن اكتفت الادارة الاميركية
بامتصاص الاحتياطي النقدي للدولة السعودية واستثماراتها
المالية في الولايات المتحدة حيث هبط حجم الاحتياطي من
160 مليار الى 5 مليارات دولار بعد حرب الخليج، فيما الزمت
السعودية بتسديد قسم كبير من فاتورة الحرب البالغة 700
مليار دولار.
لا يقف الأمر على المشكلات التي اعترضت الدولة وهددتها
من الداخل، بل يسري الحال على الحوادث التي ثبت في حينها
او فيما بعد ضلوع السعودية فيها، مثل الحرب الاهلية في
اليمن، وتمويل عصابات الكونترا وتخريب الاوضاع الامنية
في عدد من دول اميركا اللاتينية، وتمويل حملات انتخابية
لبعض المرشحين في اوروبا والولايات المتحدة، وتشجيع بعض
القوى السياسية على إحداث فوضى في القارة الافريقية، فقد
خرجت السعودية من كل تلك الاقترافات سالمة كما الشعرة
من العجين، ولم تترك وراءها أثراً يدل على تورطها في الشؤون
الداخلية للدول، حسب العبارة الممجوجة والمتكررة على لسان
المسؤولين السعوديين، وقد كان الغطاء الاميركي يخفي سوءة
الدولة السعودية، تماماً كما كان الغطاء الاميركي الممول
نفطياً يخفي أيضاً الفضائح الاخلاقية للأمراء في عواصم
أوروبا.
تلك كانت حقبة الحظ التي عاشها الحكم السعودي، وجنى
منها ما جنى من استقرار واستمرار ووحدة وتماسك للدولة،
ثم أعقبه زمن الحصاد المر، فقد دخلت العائلة المالكة في
أيام نحسات منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر، حيث احاط
بها النحس من كل جانب وكلما أرادت ان تخرج من مصيبة أركسها
العنف في أخرى، فلم تعد مليارات الدولارات التي دفعت في
حملات العلاقات العامة تجدي نفعاً، فقد تكفّلت الجماعات
العنفية التي تنتمي اليها باعطاب كل مجهوداتها في الدفاع
عن نفسها أمام العالم، فمن أفغانستان انطلق الشرر فطال
الولايات المتحدة واسبانيا والشيشان والعراق وتسرب الى
دول الخليج كافة، وهو مرشح للاستمرار، فالمعتمدون السلفيون
من مواطني هذا البلد يجوبون مناطق العالم لينشرون رسالة
العائلة المالكة عن طريق العنف.
إن النحس قد بدأ دورة مكثفة في السعودية، وها هو يلاحقها
في كل مكان، فكلما أعلنت البراءة من حادثة عنف هنا او
هناك أظهرت التحقيقات تورط السعودية فيها، ففي كل مكان
لها آية عنف تدل على أنها وحدها الضالعة في كل حوادث العنف،
وحتى اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري
كان ماركة سعودية مسجلة، ومن يعلم فقد يصل النحس بهذه
الدولة لتظهر التحقيقات بأن لها صلة بثقب الأوزون أيضاً.
|