الدولـة العاديـّة
رغم عيوب الدولة السعودية منذ تكوينها وقيامها وحتى
لحظتها الراهنة، فإنها مرّت بفترات تميّز شبه حقيقية أحياناً
ومفتعلة أحياناً أخرى، أو بالأحرى بمساعدة أوضاع أو قوى
كبرى وبخاصة الولايات المتحدة. لا شك أن نشأة الدولة من
حيث المبدأ هي علامة فارقة، إذا ما نظرنا الى حقيقة كون
الجزيرة العربية لم تتوحد طيلة تاريخها في إطار جيوسياسي
الا على يد الملك عبد العزيز، مع توافقنا التام مع حملة
الرأي القائل بأن عملية التوحيد بقيت في اطارها الجغرافي
وليس الوطني والقومي، أي أنها حققت اغراض السلطة ولم تكت
تلبي شروط الدولة كما أشار الى ذلك مقال في الزميلة (شؤون
سعودية)، وتوافقنا أيضاً مع القائلين بأن التوحيد السياسي
تم بمساعدة قوى أجنبية وتحديداً بريطانية.. كل ذلك وأكثر
منه صحيح، ولكن في الوقت ذاته إن مجرد إقامة دولة موحدة
الاقاليم في ظرف كانت الامبراطورية العثمانية تتفسخ بصورة
دراماتيكية، لا شك أنه يمثل علامة تميّز حتى وإن كان التفسخ
العثماني وتوحّد الجزيرة العربية يأتيان في سياق إرادة
دولية واحدة.
ويجب التفريق بين علامات التميّز التكوينية أو الذاتية
والأحرى الموضوعية أو المكتسبه، فوجود المقدسات في الجزيرة
العربية الخاضعة تحت الدولة السعودية يعتبر علامة تميّز
مكتسبة وليست ذاتية، أي لم يكن صناعة سعودية أو ثمرة لجهود
خاصة، فهذه المقدسات هي ملك اسلامي عام، ولكن وجودها داخل
حريم الدولة السعودية قد أضفى معنى دينياً خاصاً على العائلة
المالكة والسلطة المركزية، وبالتالي منحها علامة تميّز
وإن لم تكن ذاتيه، بدليل أن أنظار كثير من المسلمين تتجه
الى هذا البلد باعتباره حاضناً للمقدسات وأن من يتولى
رعايتها هم في نظر هؤلاء قد حظوا بهالة قدسية متميزة.
علامة التميّز المكتسبه الاخرى هي وجود النفط، المادة
الحيوية الأكثر اهمية في اقتصاديات العالم، فالسعودية
بما هي تمثل أبرز المزودين لمادة النفط للاسواق العالمية،
والمالكة لأكبر إحتياطي في العالم، جعلها في موقع متميّز،
وازدادت أهميتها ودرجة تميّزها منذ فرض الحظر النفطي الجزئي
على الولايات المتحدة في حرب اكتوبر 1973، والتي نبّهت
العالم الى خاصية امتلاك النفط كسلاح سياسي فعّال قابل
للاستخدام ضد الغرب، والذي دفعه للتفكير عن بدائل للطاقة.
لقد بلغت الدولة السعودية في بعض الفترات شأواً عظيماً
وكان ينظر اليها بوصفها الدولة الأكثر تجسيداً للشريعة
الاسلامية إن لم تكن الدولة الوارثة للنبوة والخلافة الراشدة
كما أشار الى ذلك الشيخ رشيد رضا في إشادته بدولة ابن
سعود، وقد أفادت الدولة السعودية من شهادات الاشادة والاطراء
المبالغ في قمع خصومها في الداخل والخارج، فكانت تلجأ
بلا تردد لانزال أقصى وأقسى العقوبات بمخالفيها بغطاء
من المؤسسة الدينية وبهيئة كبار العلماء الذين كانوا يصادقون
على أحكام الاعدام على المصنفين في قائمة المفسدين في
الارض.
في عهد الملك فيصل، على سبيل المثال، كانت الدولة السعودية
تتحصن خلف ستار ديني سميك، فلم يكن يجرؤ أحد على التشكيك
في تميّزها الديني أو حتى يناقش أيديولوجيتها السلفية،
فقد كانت تمثل الصورة النموذجية للدولة الدينية المنشودة،
وكانت أنظار العالم تتوجه إليها بالدعاء والبركة، وقد
أدركت بوضوح كل القوى السياسية المعارضة بأن إستعمال خطاب
ديني في العمل السياسي الاحتجاجي ضد العائلة المالكة يعتبر
مراهنة خاسرة أو مجازفة خطيرة، لأن النظام قادر على تبرئة
ذاته بسهولة، من خلال ترسانة تبشيرية من الوعاظ والدعاة
والمبلغين والعلماء والقضاة وأئمة المساجد والخطباء الدينين،
فهؤلاء مثّلوا جزءاً جوهرياً من التميّز الديني للدولة
السعودية.
وقد استمر التميّز السعودي حتى نهاية الثمانينات، ولكن
انعطافة حادة وتاريخاً جديداً من الاعتيادية بدأ منذ الثاني
من اغسطس 1990، أي فور الاعلان عن سقوط الكويت تحت الاحتلال
العراقي، والذي كان إعلاناً عن إنكشاف الغطاء عن بعض مصادر
تميّز النظام، وحتى مصادر التميّز الذاتية فقدت تأثيرها،
فلم تكن خدعة دكتاتور بغداد في (الدفاع عن البوابة الشرقية
للعرب) التي انطلت على الجميع وحدها التي مزّقت ستار التميّز،
ولكن ما جرى بعد ذلك من تطورات، أبرزها قدوم نصف مليون
جندي أميركي الى الجزيرة العربية والتي كشفت عن هشاشة
النظام السعودية ومؤسسته العسكرية ثم ظهور الشعار ـ الحديث
(أخرجوا المشركين من جزيرة العرب) كرد فعل على استقدام
القوات الأجنبية الكافرة، والتي أطاحت بفتوى سابقة للمفتي
العام حول حرمة استقدام مصر لقوات روسية. لم يكن انقلاب
الشارع العربي والاسلامي ضد السعودية وحده الذي أصاب العائلة
المالكة بسكتة سياسية حادة ووضعته في عزلة عربية واسلامية،
بل ثمة تمرد داخلي خطير بدأ داخل المؤسسة الدينية، حيث
تفجّر الغضب وسط التيار السلفي الذي أفرز رموزاً إحتجاجية
عرّضت بالعائلة المالكة وأسقطت الستار عن أبرز مصدر لتميّز
الدولة السعودية وهو التزامها بالشريعة الاسلامية، حيث
جاءت (مذكرة النصيحة) التي أعدّها الناشطون في التيار
السلفي لتكشف في مطالبها الشاملة والجوهرية عن مخالفات
شرعية عميقة تكاد تنطق عن فحوى الكتاب الصادر في نفس الفترة
بعنوان (الكواشف الجلية في كفر الدولة السعودية). منذاك،
فقدت الدولة السعودية جزءا كبيراً من تميزها على المستوى
المحلي والعربي والاسلامي، فلم يعد ينظر اليها باعتبارها
الدولة الدينية الوحيدة او الأشد الالتزاماً بالشريعة
الاسلامية، سيما وأن قسماً كبيرا من المسؤولين عن توفير
الغطاء الديني قد انسحبوا من قافلة المبشرين بالدولة والمناصرين
لمزاعمها الدينية.
ثم جاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر لتنقل السعودية
من مستوى التميّز الى مستوى التهمة والشبهة، ولما بدأت
الولايات المتحدة وحلفاؤها بتنفيذ مشروع الشرق الاوسط
الكبير بإسقاط نظام بغداد، وشروع واشنطن العملي بفرض السيطرة
المباشرة على المنطقة ومصادر نفطها وتميّزها أصبحت السعودية
بلداً كسائر البلدان، ولم تعد تحتفظ بمصدر تميّز من أي
نوع حتى الذاتية منها لم تعد تحمل معنى متميزاً فقد كشفت
الاحداث عن أن العائلة المالكة ليس سوى سلطة بكل عللها،
أي الفساد، والاستبداد، وأن تميّزها السابق كان وهماً
فتبدد.
|