دور الطبقة الوسطى
التحول السياسي الداخلي
يفترق المراقبون السياسيون والباحثون الاكاديميون في
موضوعة التحولات السياسية التي تشهدها المجتمعات والدول،
على أساس ما يطفح على السطح السياسي والاجتماعي، فيما
ينصرف الباحثون الاكاديميون الى الانغماس في البحث عن
المحرّكات الرئيسية التي تحدث متل تلك التحولات. فهناك
من يولي اهتماماً كبيراً للعامل الفكري في عملية التحول
ويرى بأن التغييرات الثقافية تؤدي الى تغييرات بنيوية،
وهناك من يكرّس جهداً أساسياً لدراسة تأثير العامل الخارجي،
الدولي على سبيل المثال في احداث التغييرات السياسية الداخلية
كما جرى في تركيا والضغط الاوروبي عليها للتحول نحو نظام
ديمقراطي وتبني العلمانية، او كما جرى في اليابان ونيكاراغوا
وافغانستان واخيراً العراق.
كل تلك العوامل ذات تأثيرات متفاوته على الاوضاع الداخلية،
وقد تكون حاسمة في بعض الاوقات، ولكن بالنظر الى الصيرورة
الطبيعية والاعتيادية للمجتمعات فإن ثمة عوامل موضوعية
تسهم، وإن بوتيرة بطيئة نسبياً، في إحداث التغيير الجوهري
في منظومة النظم الاجتماعية والسياسية والفكرية.
قبل أن تخضع أجزاء كبيرة من الجزيرة العربية للحكم
السعودي كان شيخ القبيلة يمثل دور الحاكم المطلق فيها
لا ينازعه في هذا الحكم وكان هو المسؤول أولاً وأخيراً
عن شؤون القبيلة صغيرها وكبيرها، واستمر الأمر كذلك حتى
قيام الدولة السعودية عام 1932، حيث بدأت العائلة المالكة
تفكيك البنى القبلية ومصادرة امتيازات القبائل بصورة تدريجية.
ومن التغييرات التي طرأت على صلاحيات شيخ القبيلة، أن
الاخير لم تعد له الصلاحيات المطلقة ولم يعد يستطيع أن
يبت في كل شؤون القبيلة، ولعل أبرز ما خسره هو دور القاضي،
فبعد أن كان بيت شيخ القبيلة موقعاً للتقاضي والفصل بين
المتخاصمين بل وسجناً لأصحاب الجنح فإن قيام المحاكم الشرعية
الرسمية والسلطات المحلية التي عيّنتها الدولة سلب منه
هذا الامتياز، كما فقد الشيخ الأموال التي يقدمها أفراد
القبيلة بصورة هدايا أو زكاة كزكاة البدن التي تخرج في
رمضان أو زكاة رؤوس الاموال والماشية والتي تنفق لولائهم
لقبيلة وحل نزاعاتها، فتحولت هذه الأموال الى الحكومة
التي بدأت تفرض ضريبة الجهاد والخدمة وكان الشيخ يجمع
الأموال ويسلمها الى الحكومة. واقتصر دور شيخ القبيلة
على بعض الأمور البسيطة كالخلافات الاجتماعية والمالية
دون ما عداها واذا لم يتم حلها تحوّل الى المحاكم الشرعية
لينظر فيها.
قد نقرأ هذا التحول الاجتماعي الاقتصادي من خلال الدراسة
التي أعدّها الدكتور الغامدي بعنوان (البناء القبلي والتحضر
في المملكة العربية السعودية)، في هذه الدراسة يستعرض
الغامدي التحوّل البنيوي والفكري في قبيلة غامد بفعل التحوّل
الاقتصادي والاجتماعي الذي وقع بعد قيام الدولة. يذكر
على سبيل المثال، في عام 1947 تم انشاء مدرسة في بني كبير
وكان ذهاب الأولاد الى المدرسة قد أخلّ بالنظام الاقتصادي
حيث كان هؤلاء الاولاد يشاركوا عوائلهم في الزراعة وتربية
الماشية وكان الصراع حاداً بين الاولاد وعوائلهم بشأن
التعليم وكانت النتيجة أن إضطر عدد كبير من الابناء الشباب
الى الهجرة الى المدن القريبة كالطائف ومكة المكرمة وجدة
وكانت تلك بادرة لتفيت الوحدة القبلية. ويقول الغامدي
بأن التعليم والهجرة والاتصال بالمجتمع الخارجي وتوفر
المال بين الناس أحدثت تغييرات واضحة في القيم والنظام
ومراكز الاشخاص في القبيلة..) البناء القبلي والتحضر في
المملكة العربية السعودية، الغامدي ص 126ـ 127. فقد خرج
الابناء الشباب، على حد الغامدي، عن عاداتهم القبلية بحلق
اللحى وشرب الدخان وغيرها، وقدرتهم على جذب عوائلهم الى
أماكن هجرتهم التي تحولت الى أماكن معيشة بالنسبة لهم
وازداد النشاط الاقتصادي ضعفاً في مواقع إقامة القبائل.
هذا الملمح في التغيير الاجتماعي يمثل جزءا من عملية
تحوّل كبير حصل بعد قيام الدولة السعودية، والذي أدى في
نهاية المطاف الى نشوء بنى حديثة أضعفت تدريجياً من البنى
التقليدية وسنحاول هنا تسليط الضوء على دور الطبقة الوسطى
كقوة تغيير داخلية وذات تأثير حاسم في لحظات معينة في
الاوضاع السياسية المحلية.
الدور السياسي للطبقة الوسطى
في البدء من هي الطبقة الوسطى ومم تتشكل؟
ثمة اتفاق على ان هذه الطبقة تتشكل من الاساتذة في
المدارس الحديثة (أي غير أساتذة المدارس الدينية)، والموظفين
في قطاع الخدمة المدنية والضباط العسكريين، والمتسببين
(المحترفين) والتجار. وتعود نشأة هذه الطبقة الى أسباب
داخلية محضة، أي متصلة اتصالاً حميمياً بعملية التحوّل
التي تشهدها الدولة تبعاً لبرامج التحديث التي تتنباها
من أجل تطوير أجهزتها وأدائها وتحسين ظروف عيش القاطنين
بداخلها. وقد كان واضحاً من خلال تجارب دول العالم الثالث
أن الطبقى الوسطى الجديدة تنشأ مبدئياً من نظم الحكم التقليدية
للبحث عن (التحديث الدفاعي)، ولكن في نهاية الأمر تنزع
هذه الطبقة لتصبح مجافية لأسلافها أو مؤسسيها الأوائل)،
ليبدأ ضغطها الدائم لتحديث أوسع لتتجاوز مجال صلاحية الحكام
او على الاساس الايديولوجي لقوتهم). انظر: سافران، البحث
عن مسألة الامن ص 226
أدى التحديث الى توسع في جهاز الدولة الاداري أو من
أجل تنفيد عدد كبير من المشاريع الاقتصادية والاجتماعية
وقوى الامن (من أجل حماية البلاد والنظام) وجهاز التعليم
(من أجل تدريب القوة العاملة المتعلمة التي تحتاجها المؤسستان
الأخريان) وقد وفّرت هذه القطاعات الثلاثة المكونات الرئيسية
لطبقى وسطى سعودية جديدة.
بلغ عدد أفراد الطبقة الوسطى عام 1970 نحو 22.200 وفي
1980 وصل الرقم الى 86.200 وهذا يمثل زيادة بنسبة 2.5
بالمئة من قوة العمل السعودية الى 7.2 بالمئة. تزايد معدل
التوظيف في السعودية بمعدل سنوي قدره 8 بالمئة أو بفارق
1.420.000 بين عامي 1980 ـ 1985، وبنهاية المدة وصلت قوة
العمل المدنية 4.446.000 مليون منها 2.660.000 غير سعوديين.
ومن السعوديين 1.649.200 ذكور و 136.800 إناث. في الخطة
الخمسية الرابعة (1985 ـ 1990) تزايدت قوة العمل المدنية
الى معدل 5.4 بالمئة في السنة لتصل الى 5.771.800 مليون
معدل الموظفين في المجال الزراعي انخفض الى أقل من 1 بالمئة
من إجمالي قوة العمل المدنية. ومثال آخر، فقد بلغ عدد
المدرسين السعوديين في عام 1404هـ/1984 بلغ 66991 مدرساً،
وفي عام 1409هـ بلغ عدد المدّرسين السعوديين 122772 مدرساً
سعودياً (الكتاب الاحصائي السنوي الصادر عن وزارة المالية
والاقتصاد الوطني العددين 24 (1408)، و25 (1409هـ) ص 53
وفي الفترة ما بين 1984 ـ 2004 تضاعف العدد أكثر من مرة
وبلغ عدد المدرسين السعوديين ما يربو على 300 ألف مدرساً.
إن التجارب السياسية السابقة تؤكد بأن حكومة المملكة
تخشى من قوة هذه الطبقة بل إن صراعها كان واضحاً منذ الخمسينيات
على أرضية (وعود الاصلاح): 1958 (صراع سعود وفيصل)، 1960
(تجدد الصراع ذاته)، 1962 (الحرب مع اليمن)، 1970 (بعد
محاولة انقلابية عام 1969)، 1975 (إغتيال الملك فيصل)،
1979 (حادثة الحرم ومظاهرات الشيعة في المنطقة الشرقية)،
1982 (موت الملك خالد واطلاق تصريحات حول الاصلاحات السياسية).
في مرحلة النشأة، كانت الطبقة الوسطى، بفعل عوامل الضعف
وعدم وضوح المسار، مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالنظام الذي
اوجدها، فهي تمتثل لاملاءاته، وتقتفي أثره، وتلتزم بقراراته،
ولكن ما إن تضع الطبقة أقدامها على سكة التحديث فإنها
تمارس ضغوطاً مكثفة على الدولة من أجل السير بوتائر متسارعة
في طريق التحديث، مما يضطر النظام السير معها، ولكن رضوخه
لم يكن منزوعاً عن الخوف الذي يصيبه من جراء مبيّتات الطبقة
الوسطى، فهو يدرك أن في هذه الطبقة عناصر تهديد كامنة..
وأن مطالبها تتجاوز الحدود التقنية لعملية التحول فهي
تصل احياناً حد الارتطام بالقيم الاكثر حساسية للنظام.
لقد حاولت العائلة المالكة ومن وراءها المؤسسة الدينية
تطويق التأثيرات الفكرية والسياسية لبرامج التحديث، في
مسعى لتدجين الطبقة الوسطى، وابقائها تحت سيطرة النظام
من أجل الافادة من إمكانياتها التقنية والادارية. ربما
كان ذلك هدفاً مثالياً رغم أنه حقق نجاحاً في فترات سابقة،
وقد ذكر أحد الوزراء السابقين بـ (أننا نجحنا في استيراد
التكنولوجيا بدون ايديولوجيا)، ولكن هذا النجاح كان بطبيعة
الحال نسبياً، فهذه الطبقة هي التي قادت بصورة غير مباشرة
عمليات التحول الثقافي والسياسي، وفرضت على الدولة الاستجابة
لمتغيرات الداخل، وهي التي شاركت في أعمال احتجاجية متفاوتة
الحجم والشكل والتأثير. وبالتالي فإن القيم الدينية التقليدية
وهكذا أسس النظام الملكي قد تآكلت بفعل الانفصال النفسي
والذهني لأفراد الطبقة الوسطى عن مجال التأثير الديني
والسياسي الرسمي.
لقد أحسّت العائلة المالكة بالدور الخطير الذي يمكن
أن تلعبه الطبقة الوسطى في التحولات الداخلية ذات الطابع
السياسي، وقد شكى الملك سعود في الستينيات بأن الاخطار
التي يواجهها حكمه تأتي من المدن، باعتبارها الحواضن الطبيعية
لأفراد الطبقة الوسطى، ثم صدّقت الاضرابات العمالية ومظاهر
السخط في مناطق النفط في الخمسينيات والستينيات ما قاله
الملك سعود. من الناحية المبدئية، فإن الطبقة الحاكمة
في السعودية تفضل التعامل مع زعماء القبائل لأنها تفهم
لغتهم ووسائل استرضائهم ولكنها مضطرة في مرحلة ما للخضوع
والتعامل مع الطبقة الوسطى لأنها وحدها المطلوبة لتشغيل
ماكنة الدولة وادارة جهازها الاداري. ويحلل سافران هذا
التحول بما نصه:
(تكاد تكون عملية التحضر والبداوة متناقضة بفعل التصوير
السياسي لها من قبل الحكام السعوديين، فقد نظر السعوديون
الى المتحضرين كعنصر خطر لأنهم يتأهلونه تدريدياً لمعارضة
نظام الحكم المستند على القبيلة المتمثلة في البدو وقد
ظهرت هذه الحالة في عهد الملك سعود حيث بدأت تتشكل نواة
التكنوقراط الحضر. فقد قال عنهم في أثناء عزله عن العرش
بأن مصدر المشكلة الحقيقي هي المدن ـ جدة ومكة المدينة
والرياض ـ بسبب الناس المتعلمين فيها وطالب بعض مقدميه
بأن يحذروهم من مغبة القيام بحركة ثورية ضده، وأنه سيدع
القبائل تحاربهم وتمزقهم)، سافران، البحث عن مسألة الامن،
ص 92
فالطبقة التي أنشأتها الدولة لحاجاتها الخاصة لم تقبل
الرضوخ المفتوح لسلطة الدولة بل هي طبقة تستجيب لشروط
التحديث ووتائره المتسارعة اكثر مما تستجيب لشروط الدولة
وأغراضها. ولذلك فإن من أكبر المشاكل التي تواجه الانظمة
التقليدية، هي كيفية إحتواء العواقب السياسية للتحديث
الاجتماعي والاقتصادي، فالنشاطات الاقتصادية الحديثة،
والعلاقات المتغيّرة مع العالم الخارجي تنتج أدواراً جديدة
وتولد حاجات لمهارات جديدة، ويقف أولئك الذين يتقدمون
لشغل هذه الادوار خارج النطاق التقليدي للتراتب الاجتماعي
كثيراً ما يكونون معزولين عن النظام السياسي التقليدي.
أنظر:ن. سافران ـ الطبقة الوسطى الجديدة واستقرار النظام
في العربية السعودية، دار الجزيرة لندن ص 19
ولأن الحكومة (العائلة المالكة هنا) تدرك تماماً بأنها
تخلق منافساً مستقبلياً لها من خلال تنشئة طبقة وسطى لادارة
ماكينة الدولة وتحقيق المصالح الخاصة للطبقة الحاكمة،
ولذلك فهي تحاول أن توفّر ضمانات كفيلة تحول تجاوز الطبقة
الوسطى لحدود الحريم السيادي للعائلة المالكة. بالرغم
من أن الصيرورة الدولتية تستلزم تآكل سيادة الطبقة الحاكمة
بصورة تدريجية. فجهود التطوير تبدأ من قبل الطبقة الوسطى
الجديدة بالتعدي على المناطق الأكثر حساسية في النظام،
كإمتيازات الحاكم، وأسس النظام السياسي، والاسس الدينية
والثقافية لكليهما.. وهنا يبدأ النظام المهدد ـ الذي لم
يسبق أن ربط نفسه دون تحفظ بعملية التحديث بالمقاومة والتردد
ومن ثم عزل الطبقة الوسطى الجديدة التي يكون التحيدث قد
أصبح بالنسبة لها في هذه المرحلة هدفاً بحد ذاته، على
حد سافران، المصدر السابق ص 24
ليس قلة وفاء من أفراد الطبقة الوسطى لصانعها الاول
ـ الدولة ـ الحكومة، ولكن ديناميات التحول وشروطه تفرض
نوعاً من الانفكاك بين الطبقة والنظام الحاكم، وبخاصة
النظام غير الجدير باستيعاب حاجات الطبقة وتطلعاتها، ولذلك
فإن الطبقة الوسطى تتحفز للانفصال عن الرحم الذي ولدت
فيه سعياً للتحالف مع القوى التقدمية والثورية وقوى التغيير
التي تحمل وعوداً ببرنامج تحديثي فعال وحقيقي، بل وتكون
قوة التغيير الكبرى في الدولة والمجتمع، ففي داخل هذه
الطبقة يتأهل حكّام المستقبل الذي يعبّرون عن أهداف الطبقة
وأحلامها.
قد يقدح الحديث عن قلة وفاء الطبقة للنظام التقليدي
الذي نشأت فيه سؤالاً حول إمكانية خضوعها لتأثيرات الخارج
واستلابها الثقافي والسياسي والقيمي. وهذا السؤال قد يكون
مشروعاً في لحظة ما، ولكن في أوضاع شديدة التعقيد والحراجة
فإن السؤال يغدو إتهامياً بدرجة أساسية، فالطبقة الوسطى
وإن بدا ظاهراً اعتناقها لقضية التحديث بوصفها بضاعة أجنبية
وغربية بدرجة أساسية، الا أن عمليات التحديث ليست مصممة
للالتحام بالاجنبي والخارج بل على العكس فإن هدفها الجوهري
هو الانعتاق من كل أواصر الخضوع والاستعباد، فهي بمقدار
ما تتمرد على النظام التقليدي الذي تنشأ بداخله، فإنها
أيضاً تكون ضد مشاريع الهيمنة الخارجية، وإن أفراد هذه
الطبقة يتحولون الى مدافعين أساسيين عن قيم مجتمعهم والثقافة
التي ينتمون اليها في حال تعرّضت الى تهديد خارجي، ولذلك
لا غرابة أن يكون أفراد هذه الطبقة من ذوي النزوعات القومية
والدينية الشديدة.
إن الضغوطات السياسية التي تمارسها الطبقة الوسطى على
النظام الحاكم يمكن تلمّس آثارها من خلال ما تفرضه على
الطبقة الحاكمة من تغييرات إما تضطر لوضعها في إطار قانوني
او القبول بها مرغمة، ولكن لا تجرؤ على تقنينها درءا لأي
إثارة محتملة من جانب المؤسسة الدينية.
|