الدكتورة مي يماني في محاضرة بعنوان
الموجة العربية من الديمقراطية
أمام ما يقرب من 700 مستمع من تخصصات متنوعة، قدّمت
الدكتور مي يماني، عضو المعهد الملكي للشؤون الدولية المعروف
بإسم (Chatham House)، محاضرة بعنوان الموجة العربية من
الديمقراطية في ستوكهولم. وقد استهلت الدكتور يماني محاضرتها
بالقول بأن البلدان العربية لديها أعلى تركيز للديكتاتورية
في العالم، بالاستناد على تقرير التنمية العربية الصادر
عن هيئة الامم المتحدة والذي ذكر بأن البلدان العربية
من بين الدول ذات الاقتصادية المخنوقة، وبالتالي فإن من
المصادفة بمكان أن تكون الصورة العامة للمرأة في هذه البلدان
أيضاً هي الادنى في العالم.
وعقدت الدكتور يماني ربطاً بين الدكتاتورية في القمة
وتهميش النساء في المجتمع، من خلال استعراض نماذج لأوضاع
المرأة في عدد من البدان العربية من بينها المغرب والجزائر
ومصر وسوريا والعراق وبالتأكيد السعودية التي تعاني فيها
المرأة من أوضاع حقوقية بالغة السوء. إن الدول الملكية
في الخليج، حسب الدكتورة يماني، أمدّت المشايخ والامراء
بالثروة النفطية والنظام الوراثي الذكوري التقليدي. فليس
هناك مكان يمكن فيه رؤية مشكلة نابعة عن الحداثة، فقد
عنت العولمة ثورة في هذه البلدان ولكن الروابط على أساس
الجنس (ذكر وأنثى) في هذه الدول هي أكثر محافظة مما كانت
عليه من قبل. وتسوق الدكتورة يماني مثالاً من السعودية
التي تقدّم مثالاً صارخاً بالنسبة لدولة تتحرك في إتجاهين
متعاكسين في وقت واحد، فبينما تنشق ناطحات السحاب من باطن
الصحراء، فإن النساء لا يسمح لهن بالمشي في الشارع أو
الجلوس خلف مقود السيارة. ولربما نبّهت الدكتورة يماني
الى العلاقة بين هذا التضاد في صورتين غير منسجمتين وسريان
معادلة الحكم. فالسعودية تحكم من قبل الملك فهد، العاجز
عن القيام بمهام القيادة عقب اصابته بجلطة دماغية عام
1995، وسيبقى الملك فهد يدير البلاد من على كرسي الاعاقة
فيما يصطف مجموعة من الامراء الهرمين انتظاراً لدورهم
في الحكم. وتلخلّص هذه الصورة المتخلفة من الحكم طبيعة
الملوك والجنرالات والآباء المنصّبين أنفسهم للامة الذين
لا يصلحون ولا يتقاعدون، والبعض الآخر يقاوم الموت رغم
طول أمد العلل والعمر الكبير.
الحداثة، حسب يماني، توفّر فرصاً، ولكن السؤال هو لماذا
يحتكر الرجال فحسب تلك الفرص، ولماذا تواجه الفرص المقدّمة
للنساء قيوداً؟. وسواء كان النظام ملكياً، أو ديكتاتورية
عسكرية، او نظاماً قومياً عربياً أو نظاماً حيث يكون الرئيس
الفعلي يحكم مدى الحياة، فإن هذه الانظمة جميعاً واقعة
في مأزق، وهو ما يثير لدى يماني سؤالاً حول مكمن الخطأ
في هذه الانظمة السياسية.
وترصد يماني في محاضرتها عدداً من الاعراض المرضية
في هذه الانظمة في محاولة لاستكشاف الجذور الحقيقية لمشكلة
الانظمة السياسية في العالم العربي. ومن بين تلك الاعراض:
الفساد المستفحل، انعدام حكم القانون، الاوضاع المزرية
لحقوق الانسان، الاعتقالات العشوائية، المحاكمة بدون تمثيل
قانوني، انعدام حرية التعبير، والتنظيم والاجتماع واضطهاد
الاقليات والنساء.. فهذه الانظمة مجتمعة مدموغة وموصومة
بكل هذه الاعراض الموهنة.
في بلدان، مثل السعودية، مازالت هناك ممارسات تنتمي
الى العصور السابقة مثل جلد الاكاديميين والكتاب، كما
تعكس عملية قطع الرؤوس في ساحة الاعدام في العاصمة الرياض
صورة النظام الشمولي لحكومة طالبان. إن جلد أولئك الذي
يتجاوزون الخطوط الحمراء للرقابة يقدّم عرضاً شديد الوضوح
على السلطة الغاشمة والقمعية التي يجري استعمالها ضد كل
شخص يتناول بالسؤال شؤون هذه الدولة. وعلى أية حال، فإن
يماني تدرك تماماً بأن هذه السلطة الغاشمة يتم إستعمالها
في هذه المنطقة من العالم دونما مسؤولية. إن الانظمة الحاكمة
في هذه المنطقة، حسب يماني، لا تملي تطلعات وحاجات سكانها
الذين يتنامون بوتيرة متسارعة، فالفجوة الحاصلة بين الحكام
والمحكومين كبيرة وواسعة، وأن الثقة التي تقوّم سلطة الدولة
وتمسكها تتحلل، وإن الضغط الشعبي للمحاسبة من أجل قيم
سياسية وجنسية (ذكور وإناث) جديدة يتصاعد، مهدداً أمن
كل نظام، في المنطقة والعالم. وكصورة توضيحية ترسمها الدكتورة
يماني، فهناك في أحسن الاحوال شباب عربي محبط ومعزول،
وفي أسوأها هناك الاسلاميون الجدد الساخطون والمسكونون
بالعداء للولايات المتحدة والكفار، وهكذا بالسيطرة الذكورية
في بلدانهم.
وتلفت الدكتورة يماني قادة الانظمة السياسية العربية
الى خيارين مركزيين للخروج من مأزق الحكم والتناقضات العميقة
التي تحيط بنزعاتهم التقليدية في الحكم والمتعارضة مع
سياق التطور العولمي. وهذان الخياران هما: إما الاصغاء
للشعوب والعمل سوياً مع الفضاء الواسع من المكنون الانساني
أو مواجهة العنف المتصاعد بين الشباب المعزول والعاطل
عن العمل. بكلمات أخرى، على حد يماني، فإن على القادة
إما إصلاح الانظمة السياسية أو التورط في مصادمة مفتوحة
وقمع، وهو صراع ليس من المرجح أن تكون نهايته لصالحهم.
فلدى القادة فرصة ويجب العمل الفوري على ضوئها. إن حاصل
الجمود السياسي سيفضي، حسب الدكتورة يماني، الى مزيد من
العزلة عن العالم، وأن ثمة خطراً من تحوّل أزمة المشروعية
الى أزمة سياسية متفجرة بصورة كاملة، مثال ذلك حرب أهلية
أو تدخل أجنبي. وتنقل يماني عن الرئيس الاميركي جون كينيدي
قوله (إن أولئك الذين يعملون ما بوسعهم كيما تكون الثورات
السلمية مستحيلة فإنهم يجعلون من الثورة العنفية أمراً
حتمياً).
وتسخر يماني من تلك الاصوات المثيرة للسخرية التي ظهرت
في الغرب منذ سنوات طويلة والتي ترددت أصداؤها في العالم
العربي واستعملت كذريعة لايقاف عجلة الديمقراطية والاحجام
عن تبنيها كخيار اصلاحي. إن تلك الاصوات تقول بأن الشعوب
العربية غير جاهزة للديمقراطية، وأن النساء العربيات بصورة
خاصة مجبولات على الانحباس في أدوار خانعة وثانوية. ولكن
الواقع، حسب يماني، هو أن هناك توقاً عميقاً للحرية، والعدالة،
ومساواة أكبر. فالنساء في السعودية يردن قيادة السيارات،
والمشاركة في عملية التصويت في الانتخابات.
إن ذلك كله، يكشف عن حقيقة أن شعوب البلدان العربية
ليست هي المشكلة، وإنما هي الحكام الذين بحاجة الى تغيير
الاساليب القديمة والانتقال الى نظام المؤسسات. وتقول
يماني فإن خارج إطار الحاجة السياسية لمحاسبة سياسية أكبر،
فإن هناك حاجة كبيرة للمؤسسات القادرة على خلق مساحة للاقليات
وكافة الجماعات المقموعة، سواء كانت كبيرة أو صغيرة.
وتستعيد يماني ما يروج حالياً من استعمال مفرط في التضليل
والاساءة لمصطلح الديمقراطية والذي يراد منه تغليف الدكتاتورية.
بالنسبة للحكام، فإن السؤال هو كيف يمكن الدخول في لعبة
الديمقراطية، ولكن ليس بالضرورة استناداً لقوانين الرئيس
جورج بوش، ولذلك، فإن (الانتخابات) هي الكلمة الطنّانة.
فالاحتفالية الانتخابية بدأت تسري في أرجاء مختلفة من
الوطن العربي، ومقارنة مع الانتخابات الرائعة التي جرت
في فلسطين والعراق، فإن ثمة محاولة خجولة للغاية جرت في
السعودية.
وحيث الخشية تتصاعد من انطلاق ثقافة مشاركتية حقيقية،
فإن الحكام العرب يسارعون للعثور على كلمات سحرية منتقاة
من النماذج الغربية، ولكن تستعير شرعيتها من الانظمة التشريعية
الاسلامية. بالنسبة للسعودية فإن كلمة (جزئية) تقدّم وصفة
الديمقراطية التي يريدها الامراء، فجزئية لا تعني فقط
استبعاد أجزاء كبيرة من السكان الذكور ولكن مجمل السكان
الاناث.
إن فشل الانظمة العربية، كما تشير يماني في محاضرتها،
ليس سراً بالنسبة للشعوب العربية، وخصوصاً في عصر التدفق
الحر العولمي للمعلومات، حيث تعلم الشعوب العربية بأن
حكامهم غير كفؤوين، وفاسدون، وغير قادرين على القيادة.
وفي المقابل، أيضاً، فإن الحكام يعلمون بأن السكان مدركون
لعدم كفائتهم ولكنهم خائفون، ولكن هذا الخوف على حد يماني
يرسّخ حالة الشلل.
وتقترح يماني استراتيجيات جديدة لتحقيق متطلبات القرن
الجديد، وتلك أيضاً من متطلبات استقرار الانظمة السياسة
وبقاء الحكام، إذ لا يمكنهم الانفصال عن تيارالعولمة الجارف
بكل مكوناته التكنولوجية والاقتصادية والسياسية. وتذكر
يماني بأنه حتى الوقت الراهن يصعب العثور على استراتيجيات
جديدة، وحسب تعبيرها فإن الاستراتيجية كما تبدو بالنسبة
للحكام هو دس رؤوسهم في التراب. في السعودية، كمثال تورده
يماني، فإن الفتاوى الصادرة عن علماء المؤسسة الدينية
الرسمية تنص على أن النساء لا يسمح لهن بالدخول على شبكة
الانترنت دون حضور محرم ذكر. ولكن هناك مثال مضاد تورده
يماني حيث شاهدت بنتاً سعودية لا يتجاوز عمرها السن التاسعة
في حوار على الانترنت دونما رقيب. إن ذلك يشي حسب يماني
بحقيقة كون فرص العولمة تتمدد أسرع بكثير من القيود التي
يفرضها علماء الدين.
ترد الدكتورة يماني الافصاح عن مشكلات الديكتاتورية
بالنسبة للمواطنين العاديين في العالم العربي الى القنوات
الفضائية العربية، التي ساهمت في تنشئة الانفتاح كما أثارت
الحكومات من أجل اتخاذ تدابير قمعية أشد. ولكن هذه الانظمة،
كما تذكر يماني، من الضعف بمكان في مواجهة موجة المعلومات
الرقمية. فالنساء اللاتي حرمن من التصويت في السعودية
شاهدن بدرجة عالية من الحماس النساء في فلسطين والعراق
وهن يدلين بأصواتهن، فيما كنّ يسخرن من مبررات الاضطهاد.
والحال نفسه يقال عن النساء السعوديات اللاتي حرمن من
الاحتراف القانوني، فقد لحظن تعيين إمرأة قاضية عام 2003
في المحكمة الدستورية العليا بمصر.
وبحسب وجهة نظر الدكتورة يماني، ليست النظم السياسية
وحدها المتعفنة والسفيهة التي تم تعريتها، ولكن كذلك النسخ
الملتوية من العقائد التي جرى استعمالها كأدوات سياسية
من قبل تلك الانظمة. وترى يماني بأن هذه العقائد فقدت
مشروعتها، وبات ينظر اليها بدرجة كبيرة على أنها معوّقات
تمنع البلدان العربية من الانضمام الى الاقتصاد العالمي.
وتضرب الدكتورة يماني مثالاً على ذلك مزاعم الامير نايف
وزير الداخلية بأن بلاده لم تنضم الى منظمة التجارة العالمية
بسبب التزامها بالاسلام، ولكن كما يظهر بوضوح فإن الاسلام
لم يمنع ماليزيا واندونيسيا وحتى الاردن وقطر من الانضمام
الى منظمة التجارة العالمية. ولذلك، حسب يماني، فإننا
بحاجة للبحث عن سبب مختلف وأن الاسلام ليس هو العقبة الحقيقية،
ولكن السبب يعود الى انعدم الشفافية والمحاسبة في السعودية.
في المقابل، تنحي يماني باللائمة على الادارات الاميركية
المتعاقبة لدعمها أنظمة ديكتاتورية في العالم العربي.
فبرغم اللهجة الديمقراطية، فإن أميركا مازالت تدعم الديكتاتوريات،
ولذلك فإن كثيراً من الليبراليين والشعوب العربية المتعلّمة
مازال ينظر الى أمريكا باعتبارها عقبة أمام الاصلاح والتجديد.
ولدى هؤلاء سبب وجيه لتبني وجهة النظر هذه، فقد بارك الرئيس
بوش الانتخابات المخادعة في السعودية وهو داعم قوي للانفتاح
المزيّف ديمقراطياً للرئيس مبارك في مصر. إن مأزق الديمراطية
يكمن في الفجوة بين الوعود وحقيقة المحاسبة الشعبية. ولكن
طالما أن أميركا تفضّل رؤية استقرار في مصر ضد خطر وصول
الاسلاميين الى السلطة هناك، وكذا تفضل أن تواصل مضخات
النفط عملها في السعودية، فإن الاندفاع نحو التغيير لن
يحظى بالدعم المفتوح والمطلوب من الولايات المتحدة.
وتأسيساً على إدراكها لأوضاع البلدان العربية، وبصورة
خاصة السعودية، فإن الدكتورة يماني تلفت الانتباه الى
الاغلبية الصامتة من الليبراليين والمعتدلين والمتعلمين،
وهي أغلبية تتطلع نحو انفتاح مجتمعاتها على العالم، وعلى
التغيير الاقتصادي، وعلى المساواة.
وفي ختام محاضرتها، وجّهت الدكتور يماني رسالة الى
الحضور من أجل دعم المجموعات النسائية التي تدفع بإتجاه
الاصلاح. وخاطبت أولئك المهتمين بالقول: لا تديروا ظهوركم
للمعتدلين والمثقفين من الذين وجدوا انفسهم معتقلين، والذين
وجدت الحكومات الغربية بأن من المريح لها تجاهلهم. وذكّرت
يماني الحضور في كلمة ذات مغزى ثقافي يمس الضمير الغربي
عموماً، بأن الاميركيين أو البريطانيين أو دول الاتحاد
الاوروبي حين يخونوا مبادءهم بالركون الى الصمت حين يطالب
المعتدلون العرب بالتغيير ويقبعون في المعتقل في سبيل
ذلك المطلب، فإن ذلك يلقي على من ينتمون الى هذه البلدان،
وتقصد بهم الحضور عموماً، مسؤولية الجهر بالصوت ومزاولة
ضغط على حكوماتهم، من أجل الامتثال لمقتضى تلك المبادىء.
إن السكوت يعني الرضا، كما يقضي بذلك مبدأ عرفي قديم.
|