د ولـة (الخـيخـه)
كشهاب يمرق من بين سحاب ظهر علينا ولي العهد قادماً
بالنبأ العظيم، ومبشّراً برسالة إصلاح مدبّجة بوعد طال
أمد إنتظاره منذ عقود، وحسبنا أن هذا القادم سيقيم الاعوجاج،
ويزيل آثار الظلم، ويحقق ما عجز عنه المصلحون في العالم..
وكان الأمل يحدو الجميع بظهور خلطة لوثرية على الطريقة
السعودية، تدشّن مرحلة جديدة في تاريخ هذا البلد الذي
لم تفتأ عصبته وعصابته السديرية تقضم خيره وخيراته.
كنا حقاً نأمل في أن يمحو المصلح المزعوم صورة قارّة
في أذهان الغالبية العظمى من أبناء هذا الوطن المثخن عن
العائلة المالكة، في أن يخرج منها رجل يرسم بريشة الاصلاح
صورة أخرى مناقضة وحسنة، وحسبنا تصريحاته الطنانة علامات
منبّهة على المنجز الاصلاحي القادم، وشاركه كثيرون فرحة
بدأت تشيعها تلك الكلمات ثقيلة الحجم والمحملّة بكل تعبيرات
البلاغة، رغم قلة البضاعة في الرطانة اللغوية والادبية
المطلوبة في مثل هذه المناسبة المراد ترويجها.
وعجبنا من حماسته غير المعهودة في أخوته اللدودين في
التبشير بعقيدة الاصلاح، حتى بدى وكأنه سينزل الى الشارع
ويتلمّس معاناة الفقراء، وحاجات المعدمين، ومطالب المصلحين
وتطلعات الأحراء، وقد فعلها ذات مرة بما عزّز الرجاء بأنه
وحده لا غيره القادر على إرساء أسس العدل.
فتح مجلسه للوفود القادمة من أرجاء مختلفة من المملكة،
مرسّخاً ما أوهم به من هم في الداخل والخارج بأنه قادر
على فعل ما أبطأ وتخاذل ونبذه فريق من العائلة المالكة،
وكانت الوفود تيمِّم وجها صوبه، ويحدوها الأمل بأن ماحملته
من أحلام وتطلعات ستخرج الى النور على هيئة حقائق ومشاريع
على الارض.. ولا يلام أحد منهم على ذلك، فاليأس الذي أصاب
الجميع من هذه العائلة المسرفة في جورها وإثرتها بالحكم
وخيرات البلاد يضطر كثيرين الى التعلّق بقشة تنقذهم من
بلاء عظيم كابدوه طيلة عقود.
ولنا في قصة الاصلاح لعبرة، فقد كان ولي العهد هذا
هو الراعي الرسمي الافتراضي لمشروع الاصلاح، وهو الذي
أدخل الى القاموس السياسي الرسمي كلمة (الاصلاح) بعد أن
كانت كلمة منبوذة وتهمة يعاقب عليها وزير الداخلية وجلاوزته
في الجهاز الامني.. وقد خصّصت الصحافة المحلية ووسائل
الاعلام مساحة بارزة للحديث عن الاصلاح، وبدأ الكتاب الاصلاحيين
والتواقون الى رؤية بدايات عملية للاصلاح يشحذون أقلامهم
ويجتهدون في بلورة رؤية متقنة الاعداد تعين ولي العهد
على تحقيق حلمه الاصلاحي المزعوم، وبالغوا في النصح..
ثم لما تهيأت الظروف أعدّ الاصلاحيون الوطنيون الشرفاء
وثيقة في الاصلاح شخّصت بدقة متناهية أزمة الدولة، وحدّدت
بحكمة مسارات الاصلاح، ثم جاءوا اليه ليعربوا له عن جاهزيتهم
التامة والمطلقة للخوض معه غمار الاصلاح بكل تحدياته وأثمانه
الباهضة. من جانبه، صعّد ولي العهد هذا لغته الاصلاحية،
وباغت المصلحين بمفاجئة سارة، حين أبلغهم بلسان غير فصيح
بأنه معهم وهو ناصرهم، وأن مطالبهم في الاصلاح هي بالدقة
والتحديد والحرفية المتناهية ذات مطالبه، لا تحيد عنها
قيد شعرة، ولا تخالفها قيد أنمله. وخرج الاصلاحيون من
اللقاء بانتظار حدث يُدخِل ولي العهد التاريخ من أوسع
أبوابه.
وحانت لحظة الامتحان.. وليتها لم تحن. فقد تحوّل المصلح
الى تمثال من الثلج ذاب مع شروق شمس الحقيقة، وعلى حين
غرّة تبدّلت الصورة، وعاد النمر الورقي الى عرينه، ليفسح
الطريق أمام النمور السديرية للانتقام من الاصلاحيين،
بطريقة ازدرائية وفي الوقت نفسه غادرة. فبينما تقهقر المصلح
الخيخه ململماً وراءه أذيال الخيبة، انطلقت جلاوزة وزير
الداخلية كيما تعيد الصورة الحقيقية وبالغة البشاعة للعائلة
المالكة، باقدامها على اعتقال الرموز الاصلاحية ومن شاطرهم
الرأي أو ساندهم بكلمة أو ناصرهم بموقف.
صمت المصلح الخيخه وكان صمته في غاية القبح، فهو لم
يسمح فقط بالنيل من الاصلاحيين، وانما أثبت لكل من راقب
الوضع الداخلي منذ السادس عشر من مارس 2004 وحتى الوقت
الراهن، أن هذا الأمير ليس أكثر من تمثال هزيل من ورق
لا يقدر على شيء، وأن ما وعد به من اصلاحات ليس أكثر من
مهمة منوطة به أوكلها اليه الحاكمون الفعليون من الجناح
السديري، من اجل امتصاص الاحتقانات الداخلية. ومن فرط
ضعفه وهوانه أن يلوذ بالصمت غير المبرر، وهو يرى وزير
الداخلية يزاول مهام الملك الفعلي، فيقرر اعتقال من يشاء،
ويحرم حقوق من يشاء، ويمنع سفر من يشاء، وكأنه الآمر والناهي
في هذا البلد.
طيلة الشهور الماضية، كانت ذرات من الأمل باقية كي
يستعيد المصلح الخيخه جزءا من الكرامة التي أضاعها وأعانه
على إضاعتها أخوته السديريين، ولكن بقي الحال على ما هو
عليه، تاركاً لوزير الداخلية يدير شؤون الدولة بالطريقة
التي يراها، فصارت ذراعه متطاولة حتى بلغت مداها، وصار
وحده الذي يقرر شكل الاصلاح في هذا البلد، وإمعاناً في
تقويض المشروع الاصلاحي الوطني، أصبحت الاجندة الاصلاحية
الرسمية موكولة الى وزير الداخلية وحده، ولا غرابة إذن
أن يتدخل في شؤون الانتخابات البلدية، وفيما ينشر في الاعلام
والصحافة، وفي الجمعيات النقابية والحقوقية التي تخضع
بصورة شبه كاملة تحت اشراف وزارة الداخلية.
بعد أكثر من عام مضى، وثلاثة من الرموز الاصلاحية مازالوا
في المعتقل، والمصلح الخيخه صامت كالحجر، ونسي ما كان
يقوله لهم بالأمس من تبنيه شخصياً لمطالب الاصلاحيين،
فكيف يحاكموا على ما وافق عليه ولي الأمر؟! وكيف يتم تجريم
أناس توسلوا بطريقة أقرّتها الدولة، وقدموا الى سموه للسلام
عليه وتشريفه بمطالب سلمية وعادلة ومشروعة؟!. ثم أبعد
ذلك، يقدم القضاء الموغل في النزاهة حد الارتباط العضوي
بوزارة الداخلية، على توجيه تهم للاصلاحيين بما فيهم المحامي
عبد الرحمن اللاحم الذي أثبت بشتى أصناف الاستدلال القانوني
والشرعي والعرفي براءته من التهمة المنسوبة اليه. أليس
ذلك مما يدعونا لوصف الملك القادم بالخيخه، الذي لا يهش
ولا ينش، مزهواً بدور خارجي يملي طموحه البائت، تاركاً
للسديريين التصرف في شؤون البلاد والعباد في الداخل؟.
|