دولـة الـسـفـهـاء!
منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر والعائلة المالكة تخوض
معركة المصداقية والسمعة التي قضمت من ثروة البلاد عشرات
المليارات الدولارات، لأخطاء إرتكبت في فترة سفه وبلاهة.
منذاك وفرق العلاقات العامة مشغولة بصورة شبه تامة في
محو الصورة المشوّهة التي أسفرت عنها لأول مرة قبل اربع
سنوات بعد عقود طويلة كانت فيها العائلة المالكة تتمتع
بغطاء دولي وبخاصة أميركي..
لم تكن حملة علاقات عامة عادية، فالذي تهدم من سمعة
العائلة المالكة منذ الحادي عشر من سبتمبر كان كارثياً،
ويكفي منها أن رموز النظام باتوا على قائمة المطلوبين
للقضاء في الولايات المتحدة، فضلاً عن وضع شعب بأسره في
مورد الشبهة والاتهام، الى الحد الذي بات حملة الجوازات
الخضراء خاضعين للمراقبة والتفتيش في كل معاملاتهم المالية،
وفي أسفارهم، وإقامتهم والحبل على الجرار.
لقد صنّعت فرق العلاقات العامة مضخّة دعائية ضخمة تقوم
على الترويج لمنجزات العائلة المالكة في مجال دعم التحالف
الاستراتيجي مع الولايات المتحدة، وفي تحقيق السلام مع
اسرائيل، وفي توفير عوامل الاستقرار الاقتصادي والسياسي
في العالم.. وفوق ذلك وقبله أن هذه الفرق دافعت بعناد
شديد عن المتبنيات الايديولوجية لدى الدولة السعودية والأسس
التي قامت عليها، ومنهج الحكم والادارة لدى العائلة المالكة.
وفي مقابل الانتقادات الواسعة التي تعرض لها النظام
السعودي في مجال حقوق الانسان وشكل الحكم، فإن الفريق
الدبلوماسي المضطلع بمهمة العلاقات العامة في أوروبا والولايات
المتحدة كان يحاول تعتيم الرؤية السائدة في العالم حول
السعودية كدولة مصنّفة كراعية للارهاب، تغيب فيها أدنى
التشريعات المتعلقة بحقوق الانسان، ويزاول فيها الحكام
شكلاً متخلفاً واستبدادياً في الحكم.. وهذا مبرر كاف لتخصيص
فرق العلاقات العامة الجزء الأكبر من المال والمجهود الدبلوماسي
لتخفيف حملة الانتقادات الواسعة ضد العائلة المالكة..
ولربما نجحت أموال البترودلار بصورة مؤقتة في إسكات من
يطمع في الحصول على نصيب من المال، ولكن لم تفلح تلك الاموال
في إقناع أحد، فقد تواترت التقارير الحقوقية الدولية والتي
تكشف عن واقع مرير في مجال حقوق الانسان والمرأة والحريات
العامة..
من الملاحظات المثيرة للدهشة أن يلوذ الامراء بطريقة
مفضوحة في الدفاع الذي يفتقر الى أدنى مقومات الصدقية.
فليس هناك من يجادل في أن الجهاز الأمني في السعودية هو
الأكثر نشاطاً وسطوة بالقياس الى باقي الاجهزة الدولتية،
تماماً كما ليس هناك من يجهل ممارسات التعذيب الوحشية
في المعتقلات السعودية، وبالتالي فإن إنكار هذه الحقيقة
لا يعدو أكثر من تسفيه للوعي وابتذال رخيص لادراك أقل
الناس إطلاعاً بأحوال هذا البلد.
مناسبة هذا الكلام هو تصريح مثير للسخرية لسفير السعودية
في لندن ورئيس الاستخبارات العامة السابق الامير تركي
الفيصل لصحيفة الشرق الاوسط في التاسع عشر من مايو الماضي.
يقول الامير تركي ما نصه: (إن التعذيب محرم في السعودية
شرعا وتطبيقا، وانه لا يجوز لأي مسؤول أمني أو غير أمني
ان يستعمل ادوات ووسائل التعذيب في أي اجراء يتخذه مع
أي شخص مواطن او غير مواطن).
جاء هذا التصريح للرد على شكوى تقدّم بها سجناء بريطانيون
سابقون ضد الحكومة السعودية بممارسة التعذيب ضدهم، وقد
نشرت صحيفة الجارديان اللندنية في السابع عشر من مايو
الماضي معلومات حول سجناء بريطانيين ثلاثة تعرّضوا للتعذيب
في السجون السعودية واستخدمت معهم أساليب غير إنسانية.
وقد نفى الامير صحة المعلومات بل زاد على ذلك بأنه لا
يستبعد مقاضاة الغارديان، وهي ذات الغلطة التي وقع فيها
من كان قبله من السفراء والأمراء الذين بالغوا في الدفاع
غير المبرر وكادوا يجنون على أنفسهم ودولتهم مرة ثانية
بإستعمال ورقة القضاء، المستقل بطبيعة الحال.
لقد جبل الامير تركي منذ وصوله الى لندن على استعمال
أقصى لغة دفاعية في محاولة لاعادة بناء سمعة دولته وعائلته،
الى حد أنه كاد ذات لقاء قبل سنتين مع إذاعة بي بي سي
فايف أن يسبغ على السعودية صفة الدولة الديمقراطية حين
عقد مقارنة هزيلة بين الديمقراطيات في الغرب والشورى المعمول
بها في بلاده، ولذلك لم يكن مستغرباً أن يصدر تصريح بهذه
الدرجة من الثقة رغم أن ملف التعذيب في السجون السعودية
يكاد من فرط سوئه أن يسبب تصريح الامير تركي صدمة لكل
الذين مازالت آثار التعذيب الجسدي والنفسي شاخصة على أجسادهم،
كيف وقد كتب ضحايا التعذيب من المواطنين قصص معاناتهم
على شبكة الانترنت مدعّمة بالصور، وقد دوّنت منظمات حقوقية
دولية موثوقة مثل منظمة العفو الدولية وميدل ايست واتش
وغيرهما تقارير عن حالات التعذيب في السجون السعودية.
كان بإمكان الامير تركي أن يكتفي بعبارة (التعذيب محرم
شرعاً) وفي ذلك إيجاز مفيد ومبرئ لذمته السياسية والدينية،
بل وفيه إنتصار لعقيدة الاسلام التي تعرّضت لتشويه كبير
وخطير من قبل الدولة السعودية. أما أن يجعل من السعودية
نموذجاً لتطبيق الحكم الشرعي الاسلامي فتلك سقطة غير مغفورة،
سيما وأن هناك ما يكفي من الأدلة على وجود صور بشعة من
التعذيب في السجون.
ندرك تماماً وظيفة الامير وكل الامراء بل وكافة السفراء
والبعثات الدبلوماسية في الخارج، في أن تنافح بكل قوة
متوفّرة وممكنة عن المملكة، فتلك واحدة من أهم المهمات
الموكلة الى كل الممثلين عن الدولة في أرجاء العالم، ولكن
ندرك أيضاً وفي نفس الوقت الفرق بين الحقيقة والخداع،
سيما حين يكون الفاصل بينهما شاسعاً، فأن يكذب الدبلوماسي
فتلك وظيفة سياسية مقررة في منهج العلاقات الدبلوماسية،
بشرط ان تكون الكذبة قابلة للتمرير والهضم، أما حين تكون
عسيرة ومفضوحة فمن الأجدر بصاحبها التنكّب عنها الى غيرها،
أو فبركة كذبة ثانية أشد إحكاماً.
صحيح أنه كان هناك دوماً إعتبار ما للعمل الدبلوماسي
الدعائي، إذ يمنح درجة ما من المصداقية للدولة في الخارج،
وخصوصاً حين تتعرض سمعتها وصورتها لتمزّقات خطيرة، بيد
أن هناك حقائق يصعب القفز عليها بطريقة بهلوانية أو بنكرانها
بطريقة تتسم بالسذاجة والعناد والمكابرة، فالتعذيب من
الحقائق البشعة التي لو كشف الغطاء عنها لكانت كفيلة بتقويض
ما تبقى من سمعة الدولة السعودية، ذاك إن بقي منها شيء
يستحق الذكر.
|