بعد الحكم على الاصلاحيين الثلاثة بالسجن لمدد طويلة
الـوطـن فـي مـرحـلـة إنـعـدام الـوزن
قلة نادرة نذرت نفسها للمصلحة العامة والواجب الوطني،
ووضعت على كاهلها إلزامات أخلاقية تحقيقاً لغايات جماعية،
إنها قلة إنفلتت من أنانية محيطة بها من كل إتجاه تهدف
الى عصف كل المنجزات الكبرى المنتظر حصولها، إنها الانانية
المصنّعة في مناخ مادي، والتي تنثر أجزاء وحدة تشكّلت
على خلفية الاحساس بضغط المسؤولية والرغبة في الخروج من
عنق الزجاجة.. إنهم ثلة من الرجال الذين أعلنوا حالة التأهّب
القصوى لحمل قضية الوطن على عاتقهم، بانتظار انضواء المزيد
من الرجال الذين يحلمون بالتغيير ويحملون همومه.. فكثير
من الحالمين بالاصلاح ينأون بأنفسهم عن حمل المسؤولية
ويكتفون بإطلاق قائمة التمنيات والتعبير عنها في أحيان
كثيرة بالصمت.
ولا ريب أن فضائل التضحية والامتثال للغايات الجماعية
تنفرز بصورة لافته في مثل مناخ الانطواء على الذات الخاصة،
وإن الاصلاحيين يتميزون بتجرّدهم عن ذواتهم إن بقوا محاطين
بضغوطات الانفرادية والنزوع الاناني، التمركز الذاتي (الايكوسنترية)
التي تدفع الفرد للتفكير في ذاته معزولاً عن محيطه العام،
الجماعي بدرجة أساسية.
منذ أكثر من عام، وتحديداً منذ الخامس عشر من مارس
2004 كان هناك حدث إنقلابي في المملكة السعودية، فقد طويت
أشرعة الأمل سريعاً بعد أن كان أفق الاصلاح قد إمتد على
مساحة الاستبداد السياسي والديني في هذا البلد، وصار فناء
الأصلاح في هه الديار أضيق مما كان في الحساب المنطقي
الاعتيادي، ومما كان يمليه الواقع أيضاً.. فقد كان منطق
الاشياء يفرض نمطاً متطوراً في التعامل العقلاني مع مشكلات
غير قابلة للترحيل، ولا يمكن التوسّل بأدوات باتت جزءا
من المشكلات نفسها. إن توطيد العلاقة بين ما هو مأزوم
ومستحيل يجعل التسوية أسطورية وخارقة لعالمنا، إذ لا يمكن
معالجة مشكلات الدولة في الاقتصاد والتعليم والصحة والسياسية
والحقوق من خلال ربطها بتسويات أمنية أو بحلول أمنية لا
يمكن أن تفضي الى نهاية مرضية، فتلك من المأمولات المستحيلة،
التي لا يمكن أن تحقق الخلاص الذي لا مناص منه.
قد يرتجى من الحل الأمني إعادة بناء هيبة الدولة، أو
بصورة أدق هيبة العائلة المالكة ولكنه حل خسر معه مصداقية
القضاء، وسمعة القيادة السياسية، وصدقية المزاعم الاصلاحية،
وصورة الدولة في الداخل والخارج.. إنه، بكلمات أخرى، حل
ربح فيه الجهاز الامني إنكسار الارادة الشعبية ظاهراً
ومؤقتاً، ولكنه بالتأكيد لم يحرر الدولة من عقمها الدائم،
كونها جهازاً غير قابل للتجديد والصلاح. فقد باتت الدولة
ممثلة في جهازها الامني أداة في خدمة عمليات الاستعباد
وتدمير الحريات العامة والحقوق، وهكذا تحوّلت الدولة الى
مجرد وسيلة لتقويض كل ضروب الاصلاح، وفي نهاية المطاف
أصبحت الدولة عاجزة عن التحاور مع الواقع، بمتطلباته الحقيقية
والجوهرية.
لم يكن القضاء وانما الأمن الذي قال كلمة الفصل في
ملف الاصلاح السياسي الوطني، وفي قضية الثلاثة عشر اصلاحياً
في الخامس عشر من مارس من العام الماضي، وأخيراً في قضية
الاصلاحيين الثلاثة الدكتور متروك الفالح والدكتور عبد
الله الحامد والاستاذ الشاعر علي الدميني.. نعم إنه حكم
أمني وليس قضائي الذي صدر في حق هؤلاء الثلاثة، وكان فلتة
نزيهة قول أحد القضاة أن المحكمة ليست جهة الاختصاص في
البت في قضية الاصلاحيين الثلاثة، وقد كان واضحاً الحضور
الأمني الكثيف في التحقيق وجلسات المرافعة وفي لائحة الاتهام
واخيراً في صدور الاحكام الغاشمة.
وفي الجملة، أخذ الأمن على عاتقه البت في قضية الاصلاحيين
من خلال توجيه دفة القضاء غير النزيه والذي انتهى الى
سحق القضاء أولاً بطريقة غير مباشرة من أجل إعادة الاعتبار
للجهاز الامني الذي تمرّغت كرامته في سلسلة حوادث العنف
التي شهدتها البلاد على مدى عامين. وحين تلجأ الدولة الى
القمع كوسيلة لتسوية مشكلاتها تكون قد بلغت حد الافلاس
الفكري والسياسي وباتت مرشّحة لاقتراف أسوأ الاخطاء وتحقيق
أسوأ الاوهام أيضاً.
فوق هذا كله، أثبتت التدابير القمعية ضد رجال، لم يكن
سوى التعبير السلمي عن مطالبهم وسيلتهم الوحيدة، بأن ليس
هناك محمياً أو محصّناً ضد الاعتقال والاجراءات الظالمة
التي تلحق بكل من يملك أفكاراً عامة مخالفة للدولة ويعبّر
عنها بصورة علنية ومسموعة.
لقد وضعت الدولة حداً للتسامح والتوافق الداخلي على
أساس وعي المشكلات العامة المتفق على وجودها والمختلف
على طرق معالجتها.. إن الفجوة التي اتسعت بوتيرة سريعة
للغاية منذ الخامس عشر من مارس العام الماضي كانت أول
تعبير عن انهدام جسر الثقة الواهن الذي بني بصورة مؤقته
وإختبارية بين القوى الاصلاحية والعائلة المالكة، ولم
يعد هناك ما يمكن أن يعيد بناء ثقة فقدت مبرراتها العقلانية
والعملية.
لقد أعادت تدابير العائلة المالكة القمعية ضد الاصلاحيين
الفهم الأول والجوهري لسلطة لم تقم في البدء على التعايش
بين المجتمع والدولة، إذ ليس هناك إمكانية فعلية لمحو
الفهم العام لطبيعة السلطة الاستبدادية القائمة، والمؤلفة
من نخبة تتسم بالفسادة والعنجهية والاحتكارية.
وهكذا يتبدى الواقع السياسي كأفق مقفل أمام تغييرات
محتملة، في ظل وجود النخبة الحاكمة، وستكون، بلا مناص،
عمليات التغييرات الكبرى خارج دورة السياسة الرسمية، فأي
تغيير من خارج الدورة منبوذ مهما كانت وسائل التعبير عنه
وحدوده. فقد تقرر إعادة عجلة الزمن الى الوراء، وإرجاء
الحل الى أجل غير مسمى. هكذا هي إرادة النخبة الحاكمة،
وهكذا تنظر الى ما يجب أن تكون عليه سيرورة الدولة، فكل
الاشياء تتحرك وفق أجندة محكمة، لتدخل الدولة مرة أخرى
في مرحلة المجهول وانعدام الوزن.
إن الرهان الكبير على تشظي الارادة الشعبية وتبدد المجهودات
الاصلاحية الوطنية بعد الحكم على الاصلاحيين سيكون بالقطع
الورقة الاخيرة في لعبة التجاذب الداخلي، ولكن، شأن كثير
من رهانات الحكومة، يحقق الرهان أقصى المكسب الآني ويخفق
في تسوية الأزمة.. إنه التضاد المزمن بين المعالجات التكتيكية
الجزئية والتسويات الاستراتيجية الشاملة التي إتبعتها
العائلة المالكة منذ نشأة الدولة، ولا شك في عقم مثل هذه
المنهجية، كونها تفاقم من تورّم السلطة وتغفل بناء الدولة
على أسس مختلفة، وصولاً الى تقويض فرص صناعة الوطن المأمول.
سلسلة الاقترافات التي إرتكبتها الطبقة الحاكمة منذ
الخامس عشر من مارس بعثت كل اخفاقاتها الخطيرة في السابق،
ويعاد إحضارها اليوم في الخطاب السياسي الشعبي اليومي
لاثبات حقيقة كان يراد تجاوزها على محمل حسن النوايا وطي
صفحة الماضي، وهي حقيقة كون العائلة المالكة ليست مؤهلة
بحال للاضطلاع بمهمة كبرى بحجم إعادة بناء ما دمرته سياسات
الاقصاء والمصادرة الشاملة لمصير الدولة ومقدرات الشعب.
وسيبقى الحامد والفالح والدميني شهود إثبات على زيف
الخطاب الاصلاحي الرسمي، بل وزيف المشهد السياسي اليومي
في هذا البلد.. إن مدد الاعتقال التي أقرّها القضاء بإيعاز
من الجهاز الامني في حق هؤلاء الرموز تمثّل تجسيدات دامغة
لبنية الاستبداد والشمولية للسلطة، وهي بلا شك تقطع السبيل
بكل الذين علّقوا بوحي من بقية الأمل المتسرب من المستقبل
وليس الماضي، أملاً استثنائياً على وجود جرعة كافية من
الكرامة والاحساس بالمسؤولية الوطنية كيما يعاد تطهير
جسد الدولة من كل أشكال الفساد، والانحراف، والاستبداد..
إن الشهادات التي قدّمها الاصلاحيون الثلاثة في مدافعتهم
أمام الاتهامات الباطلة المنسوبة اليهم، تمثل توثيقاً
أميناً لمرحلة بالغة الحساسية في تاريخ هذا البلد، وستكون
تلك الشهادات أساساً يستند عليه الجيل الاصلاحي القادم..
ومن المفارقة المدهشة أن يدوّن هؤلاء الثلاثة تلك المرحلة
من خلف القضبان، فهم يكتبون لمن في الخارج سيرتهم وسيرة
الحركة الاصلاحية التي مازالوا يضخّون اليها ويرفدونها
برؤى، ومواقف، ومشاعر.. فهم من معتقلهم أقوى الشهود على
الحاضر المعلول، وهم وحدهم أشد المنافحين عن المطلب الذي
ينادي به الاحرار خارج المعتقل..
إن الاحكام الغاشمة التي صدرت في حق الدميني والفالح
والحامد تدخل ضمن الجرائم السياسية التي إقترفتها السلطة
والجهاز الأمني، كما تمثّل تمظهراً لعجزها وإخفاقها التام
في إنتاج الحل الأمثل الذي يضمن حقوق المجتمع والدولة..
إن مثل تلك الاحكام ستكون دون ريب وبالاً على من شارك
وساهم وتسبب في إصدارها، وإن أية تغييرات قادمة ستطال
أول ما تطال الأجهزة المتورطة في مثل هذه الاحكام، إذ
لا يمكن أن يأتي الصلاح والاصلاح الا من المواقع المتسببة
في الفساد والافساد.
كلمة للتيار الاصلاحي الوطني
هناك من يريد زراعة اليأس في أرواحنا، لأن العمل التضامني
مع الاصلاحيين الثلاثة كان أدنى بكثير من المتوقع، وكان
ينتظر من المتعاهدين في أطياف القوى السياسية والاجتماعية
الوطنية أن يترجموا التزامهم الشفهي في مواقف عملية تتسم
بدرجة عالية من الشجاعة والتضحية..
إن محاولة العائلة المالكة في إحتواء النشاط الاصلاحي
عبر إقحامه في دورة تضليلية تحت عنوان الاصلاح التدريجي
لا يجب أن تلهي القوى السياسية الوطنية عن مهمتها الكبرى
التي بدأتها في يناير عام 2003، وإن الاستجابات الحماسية
التي ظهرت في الانتخابات البلدية من قبل بعض الشرائح السياسية
أو حتى إعتزال الحياة السياسية لا يجب أن تنكص بالمشروع
الاصلاحي.. إن تجربة الانتخابات البلدية قدّمت دليلاً
إضافياً على استحالة خروج الجنين الاصلاحي من رحم الدولة.
في المقابل، لقد بدى بوضوح شديد أن الانتخابات البلدية
ساهمت في تفجير التناقضات الداخلية حتى بين القوى السياسية
الوطنية التي كان رموزها يلتقون قبل ذلك على غايات جماعية
مشتركة في مجال الاصلاح.. فهؤلاء قد تسللت اليهم وبكل
سهولة دودة الأنانية وصاروا حزبيين حد النرجسية بعد أن
كانوا يرسمون خط الوطن العريض، ويتقاسمون هموم وطن كبير
وليس هموم الفئة والحزب والطائفة والمنطقة.. لقد كانوا
كباراً بحق ويجب أن يبقوا كباراً، والا فإن العائلة المالكة
تكون قد مرّرت اللعبة بقليل من الذكاء ولكن بجني الكثير
من المكاسب.. وهنا يكون الكبار قد خسروا، رغم ذكائهم،
مكسباً كبيراً وهو ذواتهم بدرجة أساسية.. فالوطن يتطلب
فئة متناغمة تفكّر بحجمه وبتعددية المنتمين اليه، وبتطلعاته
الكبيرة.
نعم هناك من يريد أن يسلب مصداقية رموز الاصلاح، من
خلال إظهار الثلاثة الابطال الذين حوكموا بشرف الاصلاح
وكأنهم في عزلة عن رفاق الامس، وعبر تحويل هؤلاء الرموز
الى مجرد قضية ميته، لأنها قضية لا خلاص فيها، أي لا نهاية
سعيدة منتظرة في نهاية النفق.. إننا نراهن وسنظل نراهن
على قدرة التيار الاصلاحي على تجديد ذاته بإستمرار، وعلى
النهوض بإصرار أكبر وبعزيمة أشد، فهو لا يتحرك من موقع
اليأس وانما من موقع الأمل.. إذ لا بد لفجر الحرية أن
يولد، ولابد للاستبداد من نهاية حاسمة. فما لم يكن هناك
أمل فمن غير الممكن تحقق المأمول فيه.
مازالت هناك فرص كافية وسانحة تعيد للتيار الاصلاحي
الوطني الذي انطلق في يناير عام 2003 إعتباره السياسي
والشعبي، بشرط تحرره من بعض الخوف على المصالح الخاصة
والعودة الى الوطن من بوابته الواسعة، ومن الرؤية التي
تأسس عليها التيار يوم كان ينشد وطناً للجميع، ويصيغ رؤية
لحاضره الوطن ومستقبله.. لقد راهنت العائلة المالكة، وبخاصة
وزير الداخلية على انكسار التيار الاصلاحي وتبدّده في
عمليات الاحتواء وتقسيم المصالح الشكلية ذات الطابع الفردي
او الفئوي، وإن نجاح هذا الرهان يتوقف على درجة الاستعداد
لدى التيار الوطني الاصلاحي وجاهزيته النفسية لخوض العمل
الاصلاحي السلمي ولكن بنفس غير منقطع حتى بزوغ فجر الحرية
لوطن يكون أبناؤه مشاركين فعليين في رسم مساره ومصيره.
|