الجدل حول قيادة المرأة
من السيّارة الى السياسة
نقترب تدريجياً من نقطة إنكسار التابو الاجتماعي والسياسي
في تناول قضية المرأة التي يحلو للبعض إبقائها مدرجة ضمن
الحقل الذكوري المغلق، فالفضاء الثقافي والاجتماعي الذي
كان إمتيازاً ذكورياً يتعرض الآن لتثقيب متسلسل من إتجاهات
عدة، ولاشك أن المرأة قد أنجزت بإقتدار مهمة إعادة التوازن
في النظرة والموقف وأخيراً في صناعة القرار الخاص بها.
إن الجرأة التي تحلى بها عضو مجلس الشورى محمد آل زلفة
في طرحه لقضية قيادة المرأة للسيارة في مداخلته حول نظام
المرور والمشاكل المرورية لم تكن صناعة ذكورية البته،
فهي ثمرة المجهود النسوي الكثيف على مدار عقدين، وإن ذوبان
جليد المحافظة غير المؤسسة على خلفية دينية أو حتى سياسية
رصينة يعود الى الانخراط الكثيف من جانب شريحة واسعة من
النساء في هذا البلد من أجل تحويل المرأة الى صوت مسموع،
بعد أن كان عورة إجتماعية وسياسية. فآل زلفة يطلق صوتاً
من حناجر النساء التي تواطىء على حجرها وخنقها الاعلام
الرسمي والشعبي، والديني والسياسي، والعرف الاجتماعي في
شكله المخادع.
في العشرين من مايو الماضي، كان للنساء، ولأول مرة،
قضية عامة ذات أبعاد متشعبة، ولكنها للأسف كما هو شأن
مشروع الاصلاح المجهض في هذا البلد، قضية تسيء الى وعي
المرأة وترتد بها الى حيث الهامشي في القضية الحقوقية
برمتها. ومما يثير السخرية أن تعقد المقارنة بين حق المرأة
في قيادة السيارة وحقوقها السياسية، حيث حسمت دول الجوار
حق التصويت والعضوية في المجالس البرلمانية. والأنكى حين
يظهر علينا من يشيد بتفوق وعي العائلة المالكة على المجتمع
في القضية الاصلاحية موضع التجاذب على مدار عقود والتي
أخذت شكلاً درامياً منذ الخامس عشر من مارس من العام الماضي..
ومن قلة حيلة المهتمين بحقوق المرأة إناثاً وذكوراً
صار الجميع متورطاً حد العبثية في الاكتفاء بإبراء الذمم
المترهلة في قضية الاصلاح الشامل والجوهري في هذا البلد،
حتى لا يقال عنا أننا لم نقل كلمتنا حين كان الصمت من
ذهب. يأنس كثيرون للأحاديث غير المكلفة، ومن المضحك المبكي
أن تكون قضية قيادة المرأة للسيارة مكلفة، وهذا ينأى بنا
بعيداً عن الاحساس الصادق بالحاجة الى تضحية حقيقية كما
يفعل التوَّاقون الى الحرية والعدالة والمساواة.
من الجهل بالواقع وسيرورة الاحداث أن يتم إستدراج الجميع
ذكوراً وإناثاً الى منطقة هامشية يضخّمها الممانعون للسير
في طريق الاصلاح الحقيقي والشامل، فيتم تسليط الضوء على
تلك المنطقة لاضفاء جرعات وهمية من الاغراء، وأن يصوّر
الداخلون في تلك المنطقة وكأنهم فرسان البيداء وأبطال
الهيجاء، كل ذلك لأن ثمة كذبة أنتجها القابع في الاعلى
ـ أي على سنام القيادة في هذا البلد ليمسك بخيوط اللعبة
بكل متناقضاتها من أجل أن يشغل الجميع في قضية لا تمثل
سوى الحق الطبيعي غير الخاضع للنقاش.
لا نقول ذلك إنكاراً لجرأة آل زلفة في طرح موضوعة قيادة
المرأة للسيارة، فأي مجهود يصبّ في المشروع الاصلاحي العام
يلزم تقديره من الجميع، وكنا نأمل لو أن طرح الموضوع جاء
مشفوعاً بعرائض وتحركات نسوية تعزز المسعى المطلبي ليس
في هذا الحق فحسب بل والأهم منه في الحقوق السياسية بدرجة
رئيسية.
مع ذلك دعونا نتوقف قليلاً عند المضمون السلبي للتوصية
التي تقدّم بها آل زلفة لمجلس الشورى من أجل المناقشة،
وسنفترض جدلاً وابتداءً بأن نصَّ التوصية قد أخذت في الحساب
الاجمالي مجمل التصورات الاجتماعية والسياسية والدينية
المحافظة، وبالتالي فقد يعفي ذلك آل زلفة من أية انتقادات
وتبعات لما تضمنته التوصية.
فمن بين القوانين المقترحة في التوصية أن (لا يقل عمر
المرأة عن 35 سنة وأن تكون حسنة السيرة والسلوك ومتزنة
وأن تكون عاملة وأن يسمح لها بالقيادة داخل نطاق منطقتها
أو قريتها خلال ساعات محددة يومية). ففي هذه التوصية شقان
يختزل فيهما الموقف العام من المرأة أولاً ومن المجتمع
بصورة عامة. ففي الشق الاول المتعلق بالمرأة، ثمة تأسيس
مختّل يصدر عن رؤية سلبية للمرأة ابتداءً. إن شرط حسن
سيرة وسلوك وإتزان المرأة يعيد إنتاج التصورات الشرقية
التلويثية حول المرأة، والتي تقوم على إعتبارها مصدر الشر،
دع عنك ما يحمله هذا المقترح من إنطباعات سالبة في مجتمع
يفترض فيه المحافظة على التقاليد والالتزام الديني. فهذا
المقترح يحمل في طياته موقفاً تشويهياً للمرأة كون الشرط
الوارد فيه يعطّل السيرورة القانونية للحق، ويجعله مزموماً
بتقديرات من هم ملزمون بتنفيذ الحق.
اما الشق المتعلق بالمجتمع، فإن المقترح يفترض إبتداءً
أيضاً بأن ثمة اختلالاً عميقاً في النظام الاخلاقي الذي
يحول دون مزاولة المرأة لحقها الطبيعي، وبما يجعلها غير
قادرة على قيادة السيارة خارج تخوم المدن أو في أوقات
الليل، وهذا الشرط يبدو غريباً الى حد ما كونه يستبطن
إتهاماً ليس للمجتمع فحسب بل وللدولة أيضاً كونها غير
قادرة على حفظ النظام وعدم تمكينها المواطنين من ممارسة
حقوقهم بصورة طبيعية. مع التذكير بأن المقترح يستند على
معطيات من الواقع أكثر من الانشغال الضروري في صياغة الحق
وتحقيقه دونما قيد أو شرط. ولكن الطرح الواقعي، في مقابل
ذلك، لا يجب أن يلهي عن التفكير والانشغال في الحق ذاته،
أما كيفيه تطبيقه فتلك مسائل فنية تقررها المرأة بدرجة
أساسية قبل أن تكون من إختصاصات المجتمع أو أجهزة الدولة.
والحال، أن الدولة وقطاعاً من المجتمع يتحمّلون مسؤولية
التصويرات المفزعة عن قيادة المرأة، والسبب في ذلك أن
الاختناقات النفسية والكبت العاطفي ولّد تشوّهات سلوكية
في الافراد حتى بات اختراق المحرم الديني والاجتماعي والاخلاقي
أمراً محتملاً. وحتى من الناحية الفنية المحضة، فإن شرطاً
كهذا يستثني حالات عديدة تكون فيه الحاجة لقيادة المراة
خارج المدن أو في ساعات الليل ضرورة ملّحة، وخصوصاً بالنسبة
للنساء اللاتي يعملن في مدن أخرى، أو بحاجة الى إيصال
مرضاهن الى المستشفى أو غير ذلك من الاوضاع التي تعود
الى المرأة وحدها تقدير أهميتها.
وحتى لانقلل من أهمية مقترح آل زلفة، فإن ماورد في
مداخلته بمحتوياتها الرقمية والمنطقية صائبة مئة بالمئة،
فوجود مليون سائق أجنبي كانت له بلا شك إنعكاسات اقتصادية
وإجتماعية خطيرة، وأن السماح للمرأة بقيادة السيارة سوف
يسهم في تسوية مشكلات كبيرة أسرية واقتصادية بات من الضروري
في ظل الاوضاع الراهنة معالجتها بصورة حاسمة.
نلفت هنا أيضاً الى ان المقترح مازال محكوماً بالرؤية
التقليدية المتزمته والقائمة على اعتبار المرأة قاصرة
وناقصة، بما يعطي للرجل تقرير وتقدير طبيعة الحق، حجمه
وشكله. فالانشغال شبه التام بالكيفية التي تكون عليها
قيادة المرأة للسيارة ومتى وكيف وأين لا تؤسس لمقاربة
صحيحة لحقوق المرأة وخصوصاً حين تطرح في سياق جدلي وفي
قضية جزئية كقيادة المرأة للسيارة.
من الاشارات الملفتة والباعثه على السخرية في موضوعة
قيادة المرأة للسيارة، أن نحاول إخلاء ساحة الطبقة الحاكمة
من مسؤولية إنتهاك حقوق المرأة، بما في ذلك حقها في قيادة
السيارة، من خلال نفي أي عائق قانوني امام المرأة في هذا
الصدد، حيث لا نص قانوني يمنعها من ذلك كما يستدل آل زلفة،
في إشارة غير مباشرة الى تحميل المجتمع، وبخاصة المؤسسة
الدينية ومحطيها الاجتماعي المتشدد مسؤولية غياب هذا الحق،
متغافلين عن التصريحات المتكررة من الامراء، وفي مقدمتهم
الامير نايف الذي أعلن مراراً وبصورة شبه واضحة بمنع المرأة
من قيادة السيارة، أو كأن التاريخ قد طوى صفحة ما جرى
عام 1990 حين حرمت النساء من هذا الحق عقب خروجهن في شوارع
الرياض بسياراتهن، فأعقب ذلك تطبيق تدابير قمعية ضدهن،
مثل فصل أزواجهن من الوظائف، فيما منعن النساء من السفر
والعمل، وتم إكراههن على توقيع تعهدات خطية بعدم تكرار
ذلك.
إن غياب نص قانوني لا يعني السماح أو الحرمان، وخصوصاً
في بلد كالسعودية التي تأخذ فيها التعليمات الشفهية من
الامراء صفة قانونية بل ولها قوة تفوق بأضعاف قوة القانون،
كما أن كثيراً من القوانين المدوّنة تفقد أثرها تحت وطأة
القرارات الفردية الصادرة عن الأمراء النافذين.
وقد تبين بعد تلك الزوبعة في طرح قضية المرأة للسيارة
أنها لم تكن سوى عملية حرق أوراق، وقد أراد بعض الامراء
توريط آل زلفة في هذه القضية، وهي جزء من اللعبة القذرة
التي يزاولها الامراء النافذين لدفع البعض نحو المصادمة
مع خصومهم او منافسيهم للتخلص منهم، أو لعدم تحمّل المسؤولية
لما يعقب ذلك من تبعات. ومع ذلك، فقد أبلغ رئيس مجلس الشورى
بعدم طرح قيادة المرأة للسيارة للمناقشة، بعد أن واجه
آل زلفة انتقادات واسعة من العلماء المتشددين في المؤسسة
الدينية الرسمية. ومن الجدير بالذكر، أن هيئة كبار العلماء
أصدرت فتوى عام 1990 تقضي بحرمة قيادة المرأة للسيارة.
ومما يلزم الاشارة اليه أن منظمة (فريدوم هاوس) الاميركية
نشرت في دراسة صدرت الشهر الماضي بمناسبة إنعقاد المنتدى
الاقتصادي العالمي في الاردن أن السعودية هي الدولة العربية
التي تشهد أقصى درجات التضييق على حرية المرأة، وقالت
الدراسة التي قارنت أوضاع المراة في 17 دولة عربية في
الشرق الاوسط وشمال افريقيا أن (المملكة السعودية تأتي
في المرتبة الاخيرة) في مناطق تعاني فيها النساء (تخلفا
عميقا (مقارنة بالرجل) في معظم مؤسسات المجتمع من النظام
القضائي الى الاقتصاد والتربية والصحة والاعلام).
وبحسب التقرير، فعلاوة على منعها من قيادة السيارة
فان المراة السعودية لا يمكنها السفر دون إذن من زوجها
أو أحد رجال أسرتها.. ولم يسمح للمراة السعودية بالمشاركة
في أول إنتخابات بلدية جزئية شهدتها المملكة هذه السنة
تم خلالها إنتخاب نصف اعضاء المجالس البلدية ال 178 في
المملكة، وتقوم السلطات بتعيين النصف الاخر.
كان آل زلفة، شأن من سبقه من روّاد الاصلاح السياسي
في هذا البلد، قد عوّل كثيراً على تأييد الامير عبد الله
في قيادة المرأة للسيارة، وهو تعويل في غير محله على الاطلاق،
وكنا نأمل لو لم يفعل ذلك حتى لا يصيبه ما أصاب زملاءه
من حيف وخذلان من النصير الوهمي لقضية المرأة بل وقضية
الاصلاح الوطني الشامل، وبالتالي فإن دخوله الى عش الدبابير
لن يخرج منه الا مصاباً بمفرده بلسعات المتشددين الدينيين
والسياسيين على السواء. إن التجارب السابقة واللاحقة تفقدنا
الاطمئنان الى نجاح أي تأييد من جانب الامير عبد الله
الذي خذل من ناصروه، ولم ينصرهم بكلمة فضلاً عن موقف يستحق
الذكر.
مهما يكن فإن قضية حق المرأة في قيادة السعودية تطرح
في سياق تطوّر حقوقي جد هام، فبينما كان آل زلفة يعدّ
ورقة التوصية لمجلس الشورى كانت منظمة العفو الدولية بالتعاون
مع جمعية الحقوقيين في الامارات تنظّم المؤتمر الدولي
للحقوق الانسانية للمرأة في منطقة الخليج تحت عنوان (آن
أوان العمل.. المرأة جديرة بالكرامة والاحترام) شارك فيه
ممثلون عن جمعيات حقوقية خليجية بما فيها الجمعية السعودية
لحقوق الانسان، حيث طالبت الجمعيات المشاركة بوضع استراتيجيات
جديدة من أجل تحقيق توصيات المؤتمر، سيما بعد موافقة مجلس
الامة الكويتي على منح المرأة كاملها حقوقها السياسية
ترشيحاً وتصويتاً.
|