الأزمة السعودية: قيادة السيارة أم قيادة البلد؟
د. مضاوي الرشيد
يلاحظ المتتبع للشأن السعودي تزامن الازمات، فمن جهة
يُعلن عن تدهور صحة الملك فهد ودخوله الى المستشفي لتلقي
العلاج ومن جهة أخرى يقرر مجلس الشورى أو بالأصح أحد أعضاء
هذا المجلس فتح ملف قيادة المرأة للسيارة للنقاش والتداول.
وربما هذا ليس من باب الصدفة إذ أن العلاقة بين أزمة
القيادة وموضوع المرأة المتأزم حاليا هي علاقة حميمة خاصة
اذا اتضح لنا أن أحداث الماضي تشير الي وجود مثل هذه العلاقة
القديمة المتجددة.
الربط بين موضوع القيادة السياسية والشؤون المتعلقة
بالمرأة ما هو الا مرآة لتقلص شرعية النظام وانحسارها
في هذه القضية فقط. اذ ان هذه الشرعية تقاس اليوم بمدي
التضييق على المرأة وحصرها وكأنها المقياس الوحيد لعفة
النظام وطهارته، خاصة وأن الكثير من الشرعيات الماضية
قد تقلّصت أو هي في طور التلاشي كشرعية حماية البلد وشرعية
الانجاز الحضاري، وشرعية تأمين الامن والعيش الرغيد للمواطن
وغيرها من الانجازات التي مثّلت في السابق نوعاً من التغطية
الاعلامية وحمت النظام من التساؤل والتشكيك في مصداقيته.
يعرف النظام أن أكثر ما يثير اللغط والفرقة والتشرذم
هو موضوع المرأة وعملها أو قيادتها للسيارة لذلك نلاحظ
أن مثل هذه القضايا تستأثر بإهتمام الجميع وهي كفيلة أن
تكون شغلهم الشاغل لفترة طويلة لذلك ليس من الغريب ان
تطرح مثل هذه الامور علي بساط البحث ويخرج النقاش بها
الي الحيز العام خاصة في مرحلة الازمة القيادية.
أثبت موضوع المرأة أنه الموضوع الكفيل بالهاء المجتمع
عن أمور مصيرية تتعلق مثلا بانتقال السلطة من ملك مريض
منذ اكثر من عقد من الزمن الي آخر يختصر موضوع القيادة
السياسية وتغييرها في القريب بخبر قصير تتداوله وسائل
الاعلام المحلية فيمر بسرعة فائقة وكأنه خبر روتيني بينما
ينشغل الجميع بموضوع قيادة المرأة للسيارة فمنهم من يشجع
ومنهم من يشجب، وينقسم المجتمع وتمطر السماء شتائم وقدحا
بالاخر أو نصرة للمعارض المستنكر ويقفل الملف خاصة عندما
لا تحتاج القيادة السياسية لانشغال المجتمع بهذا الموضوع.
ومن الملاحظ ان الازمات السياسية تكون دائما متزامنة مع
طرح موضوعات تتعلق بالعنصر النسوي.
اذا عدنا بذاكرتنا التاريخية الى حرب الخليج الثانية
حينما كانت القيادة السعودية منشغلة بموضوع إستيراد القوات
الاجنبية ومواجهة المستقبل المجهول المترتب على قضية الاستيراد
هذه، عندها وفي تلك اللحظة التاريخية الحاسمة والتي تركت
بصماتها على مستقبل البلد خرجت مجموعة نسائية بمظاهرة
غير عادية متحدية منع المرأة من قيادة السيارة.
في هذه اللحظة نسي المجتمع أو أنساه النظام بالاصح
أزمته السياسية وفشل مشاريعه العسكرية وهشاشة ترسانته
البشرية والتكنولوجية فلا طائراته المقاتلة ولا ميزانية
دفاعه كانتا قادرتين علي صد العدوان.
فبينما كانت المجندات الامريكيات يصلن ويجلن في البلاد
من شمالها الى جنوبها ومن شرقها الي غربها دون مناقشة
علنية إتجهت الانظار فجأة الي تلك المجموعة النسائية المحلية
التي تجرأت وكسرت الحظر علي قيادتهن للسيارة.
كيف حصل هذا التزامن ولماذا حصل.. فبينما كانت قيادة
البلد تعيش أصعب مرحلة في تاريخها تواجه ضغط بعض الاصوات
التي ارتفعت منتقدة القرارات السياسية نرى أن النقد تحوّل
فجأة وبسرعة بهلوانية للدفاع عن حرمة بلد الحرام التي
دنّستها متظاهرات محليات قررن قيادة السيارة عندها انصرف
الجميع ليصب جام غضبه على هذه الزمرة النسائية المحلية
التي تخرّب البلد وتفتن شبابه بينما تناسى الجميع الفتن
المستوردة والتي ربما تكون أكثر إثارة، خاصة أنها تواجدت
واختلطت في أماكن طالما كانت حكرا علي الذكور كالمعركة
وساحتها.
إستطاع النظام أن يحوِّل الإنتباه من قضية مصيرية الى
قضية هامشية اذا قيست من منظور المنطق والعقل، ووقع المجتمع
في الفخ الذي نصبه له نظامه رغبة منه في تحويل الريح من
ريح تهب عليه هو من مجتمع يحتقن نتيجة لقرارات سياسية
متهورة وتخطيط فشل في ضمان الامن والاستقرار الى ريح تبعثر
تركيز المجتمع وقدرته على التصدي لمثل هذا الفشل بطريقة
جماعية مؤثِّرة تعدِّل الخطأ وتحاسب المخطيء. انصرف الجميع
لمناقشة قضية قيادة المرأة بينما قيادة البلد بقيت معصومة
عن النقاش.
وبعد لأكثر من عقد من الزمن ها نحن مرة لأخرى نناقش
قضية قيادة المرأة للسيارة لنصرف إهتمامنا الى ما هو هامشي
اذا قورن بموضوع قيادة البلد في مرحلة أقل ما يقال عنها
أنها مرحلة حرجة وصفها لأحد المراقبين بأنها مرحلة تنذر
بتداول السلطة وتغيير رموزها كل ستة لأشهر بسبب السن المتقدم
للصف الاول من الامراء المخوَّلين لاعتلاء العرش وليس
من المستبعد لأن يتوج ملك ويبقي في الحكم لفترة قصيرة
ليعاد طرح موضوع الخلافة مرة أخرى.
يبقى هذا الهم من الهموم الاولية للقيادة السعودية
ليس فقط اليوم بل حتى الغد القريب. لذلك نجد المرأة وقيادتها
للسيارة من أسهل الامور القادرة على صرف النظر على الاقل
في الحيز العام عن موضوع قيادة البلد.
مسكينة هذه المرأة في الجزيرة العربية، لقد أصبحت ميزان
الحرارة الوحيد الذي تستعمله السلطة لتقيس به الكثير من
الامور الحساسة فهي تلجأ اليه لتمييع المواقف المحرجة
وخاصة السياسية وكذلك لصرف إهتمام المجتمع الى أمور أقل
ما يقال فيها أنها تقسِّم ولا توحِّد.
فالنظام يعرف أن في موضوع قيادة المرأة للسيارة ليس
هناك موقف وسط بل هناك جيش معارض وآخر مؤيد ويصعب التنبؤ
بقوة الجيشين، ولكن النظام يظل أمله كبيراً في الابقاء
علي الهوة والشرخ كما هما عليه من التباعد.
لقد جنَّد النظام المرأة وحقوقها في لعبته السياسية
فهو يشتري الصمت المطبق من بعض الفئات الاجتماعية والدينية
علي سياساته الخارجية والداخلية التي تتعارض مع تطلعات
هذه الفئة، اذ أبدى إستعداده للتضييق على المرأة وعدم
الانصياع لضغوط الخارج المطالبة بالشعارات الفارغة وهو
كذلك يشتري ولاء فئات أخرى إذ أظهر نفسه، وكأنه المدافع
عن هذه الحقوق الواقفة في وجه من يطمح الى طلبنة السعودية
حسب مزاعم النظام خاصة من قبل الشرائح المتحجرة والتي
لا يعرف التعامل معها سواه.
النظام يلعب على الحبلين فهو يظهر عفته وطهارته من
خلال موضوع المرأة ولكنه يستغل هذه المرأة ذاتها في معركته
من اجل تلميع صورته في الخارج.
فمنذ احداث 11 ايلول (سبتمبر) نرى أن النظام يقوم بحملة
جهادية لتلميع الصورة فيسافر بنسائه وبناته الي عواصم
العالم حاملا معه الاميرات والمعلمات والتاجرات وصاحبات
رؤوس الامول ليقول كلمة واحدة فقط: إنظروا كيف اننا نتقدم
بسرعة تناسب خصوصيتنا..
يختصر النظام الحملة الاعلامية الهادفة لتحسين صورته
بوجه حسن يجعله أكثر قبولاً خاصة اذا إحتوت الصورة العنصر
اللطيف أو الضعيف حسب مفهوم الشخص، فتصبح عندها حقوق المرأة
الجوهرية متأرجحة بين ذكورية النظام في الداخل وأنوثته
في الخارج، إذ أنه ما زال بحاجة لاثبات هذه الذكورية من
خلال استعراض العضلات داخل الحدود ليتذكر الجميع أن الراعي
ذكر والرعيّة مؤنث. أما في الخارج فشيء من الانوثة كفيل
بالاستلطاف خاصة في بلاد إختلط فيها المذكر بالمؤنث.
سيظل النظام السعودي محتاجا لمسألة المرأة وقيادتها
للسيارة ليطرحه زمن الازمات السياسية القادمة منها الوعكات
الصحية المرتقبة والتي ستنهك جسد السياسة ان لم يتم التعاطي
مع تداعياتها ومنها الاحتقان الناتج عن الهوة بين تطلعات
الشباب والفرص المتوفرة لهم، ومنها النظام التعليمي والذي
فشل في تأهيل مجتمع شاب يعتبر أكبر شريحة إجتماعية في
البلد، وسيبقى هذا النظام محتاجاً لتجنيد المرأة في معاركه
الخارجية.
وبعد أن صرح وزير الداخلية أن قيادة المرأة للسيارة
إنما هي قضية إجتماعية لماذا يا ترى لا يستفتي الشعب في
هذا الموضوع وتحل القضية. هل لأن كلمة إستفتاء من المحرمات
أم أن الباب سيفتح بعدها لاستفتاءات قادمة. أم أن الامة
ستجتمع علي ضلال وتقر للمرأة بحق قيادة السيارة.
لقد استهلك النظام موضوع قيادة السيارة أكثر من مرة
فكلما تلبَّدت الغيوم السياسية تطل المرأة والسيارة لصرف
النظر وحجب الرؤية عما هو أهم وأكثر إلحاحاً من هاتين
القضيتين حتى أصبحت المعادلة معروفة للجميع. ولن تحسم
القيادة هذا الموضوع طالما أنها تستطيع إستهلاكه في أزماتها
القادمة.
أثبتت تجارب الشعوب الاخرى أن الانظمة التي تستغل قضايا
المرأة في الاعيبها السياسية إنما هي أنظمة ساقطة معنوياً
وفكرياً وسياسياً واجتماعياً.
في مطلع القرن العشرين إستغل أتاتورك وشاه ايران قضية
المرأة، إذ أن الاثنين نصَّبا نفسيهما مدافعين عن المرأة
وحقوقها حسب خطابهما السياسي فسقطت جمهورية أتاتورك وتحولت
الى حكم عسكري ديكتاتوري لم تتخلص منه تركيا الا منذ فترة
قصيرة، وكذلك نصَّب الشاه نفسه مدافعاً عن المرأة ومحرراً
لها فسقط نظامه، أما النظام السعودي فهو نظام ما بين بين
في الداخل هو حامي المرأة من قوى الشر العالمية الهادفة
الى تغريبها وإفسادها أما في الخارج فهو المناصر لها الناهض
بها وهو محرمها في الخارج تسافر معه ويصطحبها في جولاته
الدبلوماسية ومؤتمراته الاقتصادية والاكاديمية، ويتحول
بذلك ولي الامر الى محرم خلال السفر معه ومرافقته.
لا يعيش أي مجتمع بشري معروف بعيدا عن التناقضات ولكن
تبقى هذه التناقضات هامشية، أما في النظام السعودي فنجد
التناقضات قد اصبحت الركيزة الاساسية التي تستند عليها
السياسة حيث تتعايش البطالة المحلية مع اليد العاملة الخارجية
ويتعايش الفقر القاتل والتسول مع ثروات طائلة تصادرها
مجموعة إحتكرت القرار والموارد والارض وما عليها.
كان يجب على أعضاء مجلس الشورى المعنيين أن يفتحوا
ملف قيادة البلد ومصير القرار المتأرجح بين شخصيات لو
كانت في دول أخري لحان وقت إحالتها على التقاعد وليس تصدّر
السياسة والرؤية المستقبلية. فبينما يبقي المجتمع في الجزيرة
بحالة تكهنات وقلق على مصيره السياسي في منطقة تغلي بالتغيرات
من بيروت الى القاهرة مروراً ببغداد يطل علينا أعضاء الشورى
السعودية بموضوع قيادة المرأة للسيارة.
وبينما يبقى ما سمي بالاصلاح متأرجحاً بين الحلول وأنصاف
الحلول التي تبني على إساسها شرعيات جديدة بعد أن سقطت
الشرعيات القديمة تطلّ علينا الشورى هذه بموضوع قد تمَّ
إستهلاكه وإجتراره من قبل، وعندما تدخل القيادة السياسية
مرحلة الجمود تتشاور الشورى بموضوع تقود المرأة أم لا
تقود.
القدس العربي ـ لندن 7/6/2005
|