مهمة الملك الجديد
الاصلاح وبناء الوطن
الجميع بانتظار فعل حر من الملك الجديد يقوم على معرفة
التحديات والمشاكل الراهنة، التي جرى اغفال النظر فيها
وحلها لعقود طويلة على أمل أن يكون الزمن كفيلاً بطمسها
أو تأجيلها.. إن المقولات الاصلاحية التي أطلقها الملك
عبد الله قبل وصوله الى العرش باتت رهينة أفعال على الأرض،
وقبل أن يتحول القول السياسي الى مجرد دعاية ساخرة، كما
هي عادة السياسيين المحترفين.
لا الناس في الداخل ولا المراقبون في الخارج مصابون
بفقدان الذاكرة البعيدة فضلاً عن القريبة، تماماً كما
أن إمكانية نزع الذاكرة بات مستحيلاً، فليس هناك من ينسى
حزمة التصريحات الصادرة عن الملوك والامراء السابقين حول
الاصلاح والتغيير وعلى الملك الجديد أن يقرر ما اذا كان
لتصريحاته حظ من الصدقية، أو ما اذا كان سيقتفي سيرة السلف
وعلى حد قول شاعر قديم:
وإن أنا الا من أولئك إن مشوا |
مشيت وإن يقعد أولئك أقعدِ |
فلا الشعب الذي حكمه ابن سعود بالأمس هو ذات الشعب
الذي يخضع تحت سلطة الملك عبد الله، وإن كانت السلطة هي
ذاتها لم تغيير من حيث النظرة اليها وأسلوب ممارستها.
إذن ما يجب فهمه هو واقع هذه السلطة نفسه، إنه في الرؤية
التقليدية الغارقة في الفئوية والحزبية لدى العائلة المالكة،
التي تضبط المجتمع، تحكمه وذلك ليس عن طريق الدولة فقط
بل بشبكة عصبية فائقة الكثافة تغطي الاجساد وكل الفئات
وكل الطبقات دون أن يكون هناك أدنى مؤسسة مستقلة.
ماهو، إذن، هذا الجهاز الذي يحكم ويضبط وينظم ويعالج؟
إنه ليس كياناً مجهولاً، إنه مؤلف من ملك وأمراء كبار
وصغار منبثون هرمياً ويؤلفون بمفردهم نخبة للسلطة. وحول
هذه النخبة يدور مختلف أصحاب الامتيازات، من بطانات مستفيدة،
وكبار وجهاء الدولة ووزراء والجيش والعلماء وطائفة من
الاكاديميين والاعلاميين ومدراء المشاريع الذين يتمتعون
بمزايا مادية.
لقد أخبرنا خليل الخليل بأن تشييد دولة القانون بات
هدفاً مركزياً في العهد الجديد، وليكن ذلك حقاً، ولكن
ثمة سؤال مشروع حول إمكانية الفصل العملي بين القانون
والتقليد، الذي يملي سلطة الأمراء على مقدّرات الدولة،
ويحدد طبيعة تداول السلطة وحجم الصلاحيات الممنوحة للأمراء.
إن أولى متطلبات تطبيق القانون هو فصل مجالي الدولة والسلطة
فصلاً حقيقياً وليس صورياً، فما جرى طيلة تاريخ الدولة
السعودية الحديثة أن إنضواءً تاماً ونهائياً للدولة في
حيز السلطة ومنذ تلك اللحظة باتت كيانية الدولة غائبة
لصالح السلطة المتضخمة التي تحوّلت هي الى كيانية مفتوحة،
بما جعل الدولة بكامل حمولتها مجرد أداة سلطانية تحكمها
قلة من الاشخاص النافذين بضراوة في شؤونها، ويقررون بمفردهم
أو عبر حفنة من المنتفعين والمتزلفين سياسات الجهاز الاداري
للدولة.
لا نتوقع أخلاقية سياسية فريدة في العهد الجديد وليس
هناك طفرة جينية ينتظر حصولها مع وصول الملك عبد الله
الى العرش، كما لا يمكن تغيير الواقع الفاسد بضربة حظ
وللأبد، فلا الملك يملك الكفاءة الثورية لتحقيق حلم فجائي،
ولكن ما ينتظره الاصلاحيون عموماً هو الاعلان عن برنامج
إصلاحي فاعل، ينطلق من تشخيص لمشكلات الدولة الحقيقية،
ويرسم خطة سير الدولة في المرحلة القادمة، وفق تصور الملك
الجديد للاصلاح.
نسجِّل للملك الجديد حسنة الاصغاء للمشكلات، وربما
الاحساس بها أيضاً، ولكن الاصغاء والاحساس وحدهما غير
كافيين ما لم يعقبهما فعل حر، فقد أصغى كثيراً وطويلاً
لمشكلات تم عرضها عليه في السابق من قبل شخصيات سياسية
ووطنية، وبالغ في الوعد بحلها، ولكن لم يسفر الوعد عن
فعل بل أحياناً ضرب صفحاً كأن لم يكن بالأمس راعياً متحمساً
لمبادىء سبق الى الاعلان عنها والترويج لها.
في خطابه الاول، حدد الملك عبد الله ملامح برنامجه
السياسي والتي لم تختلف في ديباجتها عن خطابات الملوك
السابقين من حيث الالتزام بالكتاب والسنة، وإن كان تشديده
على إتخاذ القرآن دستوراً يتطلب وقفة عاجلة سيما بعد أن
فقدت هذه المقولة صدقيتها كونها غير واقعية، وإن استعادتها
في هذا الوقت بالذات تضعها في سياق المناجزة السياسية
مع المطلب الاصلاحي الداعي الى ملكية دستورية.. فالدستور
هنا يعني مجموعة القوانين الخاصة بطريقة تشكّل سلطة وتداولها
والقيود المفروضة عليها والحقوق والواجبات المنصوص عليها.
لقد بات معروفاً أن مقولة (دستورنا القرآن) مترادفة
مع شمولية الحكم، أي أن الملك غير مقيّد بقانون، وله أن
يمدّ سلطته بإسم القرآن الى ما لا نهاية، فالقرآن هنا
لا يعني نصّاً قانونياً مشروحاً بقدر ما هو ستراً دينياً
للسلطة ينطوي على رفض لأي شكل من اشكال التغيير، باعتبار
أن الدين يرفض مثل ذلك بحسب العقيدة الاصولية الوهابية
المتزمتة في الحكم.
إن من المهمات الكبرى المنتظرة في عهد الملك الجديد
يمكن تلخيصها على النحو التالي:
ـ بناء دولة الامة
السعودية دولة بلا أمة أو وطن مقولة باتت معروفة ومتداولة،
فالمهمة التي أنجزها ابن سعود بقيت على حالها حيث أقام
سلطة بحجم دولة، لأن بناء الامة يعني بناء الوطن الذي
يحتضن مجاميع غير متجانسة ومتكافئة. فطيلة تاريخ الدولة
السعودية الحديثة، كان الانشغال الدؤوب منصباً على تعزيز
أركان السلطة وتوطيد دعائمها فيما كان هناك إغفال مقصود
أو خلافه لمهمة بناء الوطن وإرساء أسس الوحدة الوطنية..
لقد كان العيش في هذه الدولة على أساس غير مشترك، أي في
غياب سياسات إدماجية وثقافة وطنية توحيدية تتجاوز حدود
الانشغالات الفئوية والطائفية وتدعو الجميع للانصهار في
إطار وطن كبير يكونون فيه هم نواة أمة تاريخية.
إن دولة الامة مسؤولة عن تنظيم وضبط العلاقات بين الفئات
المنضوية بداخلها، وهي الناظم لها إذ أن وجودها الفعلي
يتحقق من خلال رعايتها وليس تواجدها داخل التفاعلات الجارية
بين الافراد الذي يشكّلون الامة، لأن تدخّلها في دورة
تفاعلات الامة يعني تدميرها وإحالتها الى مجرد طرف في
حلبة وليس راعياً او منظّماً لروابط الامة ومصالحها.
إن خذلان الدولة وانحسار دورها في بناء ثقافة الامة
ونزوعها منذ النشأة الى الاحتماء بثقافة خاصة دمّر فرص
تشكّل ثقافة وطنية، ودفع في الوقت نفسه الفئات الاخرى
الى التمسك بتراثها الثقافي الخاص، بما يمكن وصفه بردود
فعل احترازية ضد هيمنة الثقافة الخاصة الغالبة.
طيلة تاريخ الدولة السعودية الحديثة، لم يتم العمل
على صناعة ثقافة وطنية أو وضع خطاب أمة، دع عنك إنعكاس
تلك الثقافة على الجهاز الاداري للدولة ومؤسساتها، فقد
عاشت الغالبية العظمى خارج مدار السلطة الغالبة، فيما
يشبه حالة إغتراب طويلة، لا يشعر فيها أفراد الغالبية
بالانتماء لوطن أو أمة، بل وجدوا أنفسهم أقرب الى الاطارات
التقليدية التي نشأوا بداخلها مع وجود سلطة في الخارج
تفرض هيمنتها عليهم وتمثل مصدر تهديد لهويتهم الثقافية
والتاريخية، وتحرمهم من نيل حقوقهم المشروعة السياسية
والاقتصادية والاجتماعية.
بعد عقود من القطيعة الداخلية بين المجتمع والدولة
وكذا بين فئات المجتمع، نشأت حواجز نفسية وثقافية كان
لها إنعكاسات سياسية واضحة، ولم يكن إزالتها ممكناً بمجرد
تغييرات في اللهجة ولا في اطلاق تصريحات معلّبة جرت العادة
على استعمالها للدعاية السياسية، وقد حان وقت الفعل الحقيقي
والجوهري والفعّال.
لقد كان مشروع الحوار الوطني بداية صحيحة بشرط أن يطابق
المسمّى المضمون الكبير الذي يجب أن يحمله، وكان بالامكان
تحويله لقاعدة كبرى ينطلق منها المجتمع بكافة فئاته سعياً
وراء صناعة خطاب وطني وإعادة صياغة المجتمع المنقسم على
ذاته، ليبدأ أولاً بتخفيف حدة التوترات الداخلية ويؤسس
لمناخ ثقافي منفتح وحر يسمح بالقبول المبدئي لحالة التنوع
وصولاً الى تعايش مشترك يكون الاصل الثقافي لبناء دولة
الامة.
من المؤسف القول، أن مشروع الحوار الوطني أخفق في تحقيق
أولى مهماته وأن القدر الضئيل من التفاؤل لدى المتطلعين
لبناء الامة والوطن مالبث أن جفّ بسرعة، وعاد المدعوون
للمشاركة في اللقاءات الفكرية بقناعاتهم القديمة ومتبنياتهم
الفكرية المغلقة.. لقد كانت أجندة التيار الاصلاحي التي
أعلن عنها في يناير عام 2003 والواردة في وثيقة (رؤية
لحاضر الوطن ومستقبله) تدعو الى فتح أفق الحوار الوطني
على كافة مواقع الخلل في الدولة، ثقافياً وسياسياً واجتماعياً
وسياسياً، على قاعدة أن غياب آلية الحوار في الدولة كان
سبباً جذرياً في وقوع أزمات عديدة، بل هو سبب أزمة الدولة
كاملة.
إن مهمة كبرى تقع على عاتق الملك عبد الله من أجل صياغة
ثقافة وروح لهذا الوطن الذي لم يولد بعد، ولا يمكن للثقافات
الفرعية والخاصة أن تتراجع ما لم يولد خطاب وطني جامع
يرى فيه الجميع ذواتهم، ويوفّر بديلاً ناجحاً ومثمراً
لكل الفئات كيما تنضوي في الاطار الوطني العام، بمعنى
آخر إزالة كافة معوقات القطيعة: على المستوى الثقافي وقف
تدفق أدبيات الكراهية الدينية والاقصاء الثقافي المدعوم
من قبل الدولة، وعلى المستوى الاقتصادي إلغاء سياسة التمييز
على أساس مناطقي ومذهبي وقبلي، وعلى المستوى السياسي توسيع
دائرة المشاركة السياسية وتحقيق أفضل تمثيل شعبي في الجهاز
الاداري للدولة. إن بناء الوطن لا يُخلق بمجرد إطلاق موجة
عارمة من الشعارات السياسية التي ندرك سلفاً بأنها سريعة
الانكسار، فهناك تغييرات في البنى يجب أن تتم بالتزامن
مع تلك الشعارات، سيما في زمن باتت فيه مصداقية الدولة
تحت المجهر.
ـ تحقيق العدالة: في مفهومها الشامل الاجتماعي والاقتصادي
والسياسي
إن الدولة قد تستعيد بفعل نمو المداخيل مفهوم دولة
الرعاية، وليس الاعلان عن زيادة مرتبات العاملين في القطاع
الحكومي وموازنات بعض المؤسسات الاجتماعية والمدنية سوى
تعبيراً متزايداً عن إعادة إحياء مفهوم دولة الرعاية التي
تنذر نفسها لحماية الافراد. لقد عوّدتنا الدولة من خلال
تجارب سابقة أن الرفاه الاقتصادي يتم التوسل به كبديل
عن الاصلاح السياسي، وإن ثمة مؤشرات ذات دلالة قوية ظهرت
مع بداية العهد الجديد منها الاعلان عن زيادة الرواتب،
وزيادة ميزانية الصندوق العقاري والمعونات الاجتماعية.
فهناك احتمالان لذلك: الاول ضآلة التغييرات السياسية المقررة
بموازاة ضخ المزيد من المال، والثاني لجوء الدولة الى
حلحلة المشكلات الاقتصادية المحلية كبديل نهائي عن مطلب
الاصلاح الشامل.
قد تكون مصادفة ارتفاع أسعار النفط مع وصول عبد الله
الى العرش بارقة أمل إقتصادية ولكنها قد لا تكون كذلك
على المستوى السياسي، وإن الاكتفاء بتغييرات في المستويات
المعيشية للمجتمع سيبقي على جذور أزمة الدولة، إذ أن العدل
في مفهومه الشامل يتطلب أكثر من ذلك.
إن بادرة الافراج عن الاصلاحيين مع وصول عبد الله الى
العرش لقيت ترحيباً شعبياً، وإن كانت تقليداً متوارثاً
لدى الملوك السعوديين. وهناك مبادرات منتظرة أخرى في مجال
اطلاق الحريات العامة وأهمها حرية التعبير والرأي والنقد
والمحاسبة ووضع تشريعات لحماية حقوق الانسان حيال تعدّيات
الدولة، وفتح المجال أمام مؤسسات المجتمع المدني للعمل
بحرية تامة دون قيود من قبل أجهزة الامن، وإزالة كافة
أشكال الرقابة على وسائل الاعلام والصحافة، والسماح لكافة
الفئات للتعبير عن وجهات نظرها بصورة سلمية وعبر الوسائل
المشروعة.
إن عملية الاصلاح بمفهومها الشامل يجب أن تطال أنظمة
القضاء والتعليم وإعادة تقييم للسياسات الاقتصادية والامنية
والدفاعية وإشراك المجتمع في تقرير مصيره، إذا ما أريد
لوطن أن ينمو بصورة طبيعية.
|