النمط اليهودي للإسلام السعودي المفرّغ من جوهره
السعودية: طقوس السياسة وسياسة الطقوس
د. مضاوي الرشيد
أثبت النظام السعودي انه ككل الأنظمة العربية القديمة
والحديثة بحاجة الى مقولات وطقوس تساعده على توطيد شرعيته.
فرغم محاولات النظام اقناع رعيته انه المثال الحي للدولة
الاسلامية المعاصرة، الا انه يظل يحتاج الى العنصر المرئي
وخاصة في زمن تتصدر الصورة الحية المكانة الاولى في مخيلة
الشعوب بعد ان انتشر استعمال الاعلام المرئي. فبينما كانت
أنظمة العرب تبني شرعياتها على مقولات محاربة الاستعمار
وطرد المستعمر، كان النظام السعودي ينسج صورا مستمدة من
المخيلة الدينية، اذ انه استطاع ان يحول الطقوس والشعائر
الدينية الى طقوس سياسية بحتة، مهمتها الاولى والاخيرة
ترسيخ شرعية النظام بطريقة مرئية تكون اقوى بكثير من قدرة
الكلمة على فعل هذه المهمة.
هذا التحول في مفهوم الطقس الديني ساعد النظام على
خلق وعي يربط بين مفهوم الدولة الدينية ومظاهر الدين دون
التمحيص في ماهية الرابط. كان لطقوس السياسة هذه سياسة
مدبرة ومؤدلجة اذ انها تعتمد على قدرة الطقس في خلق نوع
من التمويه يولد اقتناعــــا بدينية الدولة.
استطاع النظام السعودي ان يعتاش لفترة طويلة على الطقوس
خاصة وانها دوماً تكون ظاهرة ومرئية للمتفرج والمشارك
سوية. ولد النظام مجتمعاً يعتبر ممارسة الشعائر وعرضها
على الملأ واقامتها على مرأى ومسمع الجمهور، مقياسا وحيدا
لهذه الدينية.
ظهرت اهمية الطقس مؤخراً في لحظة مبايعة ولي العهد
الامير عبد الله ملكا على البلاد؛ حيث اثبتت هذه البيعة
بشكل جلي ان المجتمع هو بالفعل مجتمع للطقوس الدينية.
لا يخفى على الجميع ان بيعة الملك هذه تختلف اختلافاً
جوهرياً عن بيعات تاريخية كبيعة الانبياء وغيرها من البيعات
الاسلامية الماضية، ولكن لم يتردد الاعلام السعودي وما
يسمي بعلماء الدين من اجراء مقارنات تاريخية تعرض على
الشاشات التلفزيونية هدفها ترسيخ مفهوم البيعة الاسلامية
للنظام واقناع الجمهور ان هذه البيعة التاريخية التي تحصل
في القرن الواحد والعشرين ما هي الا امتداد لممارسات المسلمين
الاوائل. لقد وصلت الوقاحة الفكرية والاستهزاء بالانبياء
والتاريخ القديم الى درجة اجراء مقارنة بين بيعات الانبياء
وبيعة حالية لا تعتمد على اي بعد تاريخي أو شرعي. فمنذ
متى كان المسلم يبايع اسرة او افرادها بالجملة. وفي اي
نص ديني ثبتت بيعة القياصرة والملوك. لقد فرغت البيعة
ومفهومها ولم يبق منها الا الطقس الديني.
هذا الطقس امتاز بميزات غريبة، اذ انه بدأ بمبايعة
فرد او فردين من قبل افراد العائلة ومن ثم عرض القرار
على ما سمي بالوجهاء او اهل الحل والعقد، وعلى رأسهم علماء
الدين، اذ ان هؤلاء هم من يضفي الشرعية على هذا الطقس
والذي لا يكتمل الا بوجودهم ولو الشكلي. يستطيع هؤلاء
ان يسخروا علمهم الشرعي في سبيل اضفاء البركة والنعمة
خاصة عندما يشرحون للرعية مفهوم الطقس وضرورته، ويرتلون
الجمل المستمدة من حقبة تاريخية قديمة لاضفاء نوع معين
من القدسية والتي هي بالنتيجة عملية تضليل واضحة المعالم.
ان استعمال النص الديني في مناسبة ما سمي ببيعة الملك
ما هو الا استهلاك مفضوح للدين ونصوصه. وبغياب الخلفية
الشرعية لمثل هذه البيعة يتشبث هؤلاء بالطقس ومظهره وكلماته
ليتجاوزوا الواقع الحقيقي للنظام وبيعته الحالية والسابقة
ومدى قربها او بعدها من النمط الذي يكمن في الذاكرة الدينية
والذي تتحدث عنه النصوص الشرعية.
انحصرت اسلامية النظام السعودي بالطقوس الدينية، وهذا
لا ينطبق على البيعة فقط، بل تتصدر الطقوس وهمينتها على
الخير العام كل مناسبة من حج وصلاة وصيام وغيرها من الطقوس
المعروفة. وليس من الغريب ان يستغل النظام هذه المناسبات
والشعائر لترويض النفوس وتعويدها وتدريبها على نمط معين
يقلص الدين ويختزله في عمارة المساجد وسقاية الحاج بينما
يتجاهل ما هو اكبر من ذلك واعظم.
كلنا نعلم ان حتى المجتمعات التي تطبق العلمانية تضطر
الدولة الى المشاركة في الخير العام الديني؛ ففي بريطانيا
مثلا، تدفع الدولة مبالغ كبيرة من الخزينة العامة لمساعدة
المدارس الدينية وخاصة التابعة للكنيسة البريطانية، وكذلك
تمول الكثير من المشاريع الدينية وتدخل في شراكة مع بعض
الجهات ذات التوجه الديني. لذلك ليس بالفخر ان يتصدر النظام
السعودي المشاريع الدينية والتي تبهر الناظر اليها، فالدولة
الدينية لا يقتصر مفهومها على المظهر الديني بينما يطمس
جوهرها.
بيعة عبدالله مثل بيعة النبي!
|
سياسياً اثبت النظام السعودي علمانيته. هو بالفعل نظام
يفصل بين الدين والدولة، الأول يبقي مطبقاً اجتماعيا فقط،
اما شؤون الدولة الاقتصادية والسياسية فهي تدار دون اعتبار
للدين رغم الطقوس الظاهرة والشكليات والتراتيل المتكررة.
خذ مثلا القضاء. من المعترف به ان الدول تحترم سيادة قانون
واحد يطبق على أرضها ولا تقبل ان تتواجد عدة مصادر للتشريع،
اذ ان هذا يخل بمبدأ السيادة المرتبطة بالدولة وحدودها.
ففي السعودية الكل يعلم ان الزواج والطلاق والإرث وربما
بعض السرقات التافهة والأمور الاخلاقية كلها تخضع للشريعة
الاسلامية، أما الأمور التجارية والاقتصادية فتخضع لسلسلة
انظمة وضعية مرتبطة بمراسيم ملكية وكذلك مؤخراً القضايا
الاعلامية حيث لها محاكمها الخاصة بها وهلم جرا. التعددية
القضائية والتشريعية هذه حالة فريدة خلقت وضعاً لا تعرفه
الدول الاخرى، وان عرفته فهي تعترف به كما يحصل في الدول
العربية الاخرى والتي تصر دساتيرها على ان الاسلام هو
دينها ولا تحتفظ الا بقوانين الاحوال الشخصية، بينما تسن
قوانينها الخاصة الوضعية في المجالات الحياتية الاخرى.
هذه التعددية السعودية افقدت القضاء مصداقيته، ونسفت
مقولات الاحتكام الى الشريعة والتي تتردد من باب الدعاية
والتضليل، وقد زاد الطين بلة موضوع ما يسمي بالعفو الملكي،
هذا العفو ما هو الا دليل قاطع على مهزلة ما يسمي القضاء.
هذا القضاء الذي يجرم ابرياء بعد تلقي الاتهامات من النظام
والبحث عن ادلة شرعية لاثبات جرائمهم المزعومة، ومن ثم
يأتي العفو ليكرس المكارم الملكية التي تأتي على حساب
هذه الهيكلية المسماة محاكم شرعية. ليت النظام يكرس مكارمه
على حساب شيء آخر وليس التلاعب بالقضاة والشرع الذي يزعمون
انهم يطبقونه. ان يصيب النظام اهدافه على حساب هذه المؤسسة
هو دليل قاطع على تجنيد مؤسسة يجب ان تكون مستقلة في سبيل
خدمة مصالح آنية. القضاء كغيره من الأمور الجوهرية تحول
على ايدي النظام السعودي الى طقس آخر من طقوس الدين والتي
تستغل ابشع استغلال في سبيل بناء شرعيات خيالية تنسجها
آلة اعلامية ومؤسسة دينية وحلقات ثقافية همها الاول والأخير
اقناع الجميع ان مجتمع الطقوس الدينية يحكم من قبل الدولة
الدينية.
استغلال النظام السعودي للدين وشرعيته نجح في تحويل
دين سماوي جمع بين جوهر عالمي يصلح لكل زمان ومكان، وطريقة
حياة نظمتها قوانين وقيود معروفة للجميع، الى دين يختزل
في طقوس دينية تعرض على الجميع. وبهذا التحول استطاع النظام
ان يقرب بين الاسلام الممارس في بلد كالسعودية والدين
اليهودي المعروف بانه نمط واضح من انماط الديانات التي
يغلب فيها الطقس الديني على كل شيء آخر. فبينما المسيحية
مثلاً تخلت عن كثير من الطقوس خاصة بمفهومها البروتستانتي،
نجد ان اليهودية الارثوذكسية بقيت تدور في فلك الطقوس
وقيودها.
جاء الاسلام ليجمع بين روحانية الدين والجانب التعبدي
الطقسي وبذلك تميز عن هاتين السابقتين التاريخيتين اي
اليهودية والمسيحية. الاولى اغرقت نفسها في تفاصيل العبادات
والحرام والحلال، اما الثانية فتجاهلت العبادات واغرقت
في الروحانيات والتي ورثتها من فلسفات قديمة كالفلسفة
اليونانية. وعلى يد النظام السعودي نجد ان الاسلام في
المملكة بدأ يقترب من النمط اليهودي اكثر فأكثر، وتم تفصيل
وتأصيل جزئيات العبادة حتى غرق المجتمع بأمور ابعدت الاسلام
عن وسطيته. فشغل المجتمع بأسره بموضوع دخول المرحاض وبأي
قدم يبدأ المرء هذا الدخول، او بموضوع الرموش المستعارة
هل هي حلال ام حرام، اما موضوع البيعة وموضوع الملكية
وموضوع الدولة الاسلامية فبقيت موضوعات محرمة لا يتطرق
اليها اي عالم الا بما يكرس شرعية النظام. وبينما كثرت
موضوعات الدكتوراه التي تناقش الطقوس الدينية كالطهارة
مثلا، نجد قحطا ثقافيا متعلقا بموضوعات تحرج النظام ولو
من بعيد.
فما فائدة الجامعات الاسلامية اذا كانت لا تنتج الفكر
الذي يسلط الضوء على اهم الأمور التي اقلقت المجتمعات
الاسلامية الماضية والحاضرة، وتسببت في شتات فكري بل حتي
في مآس كبيرة؟. هؤلاء الذين يتصدرون الجبهة الرافضة لكل
شيء وفكر غريب ـ اين هي يا تري اطروحاتهم الشرعية التي
تفصل لنا مفهوم الدولة الاسلامية وان وجدت ـ اين هي يا
تري؟ لن يستطيعوا ان يقنعوا الجميع ان الدولة الرشيدة
الحالية هي نمط متأخر زمنياً ولكنه في جوهره ما هو الا
تجسيد لدولة الانبياء والموحدين. ان في هذا تجنيا واضحا
على تاريخنا وعقولنا وقدرتنا على المقارنة والاستنتاج.
عندما كان المجتمع يتلقي الحكمة والكلمة بطريقة شفوية
ترددها ألسنة علماء محليين محدودي النظرة والقدرة، ربما
تقبّل هذا المجتمع التفسيرات الاحادية والتنظير السياسي
المستتر تحت عباءة الدين. اما اليوم فالوضع يختلف اختلافا
كليا، اذ ان المجتمع يتعرض لهجمة اعلامية وفرتها التكنولوجيا
الحديثة، اعادت للاسلام تعدديته والتي كانت ملازمة له
منذ ايامه الاولى. اليوم لا احد يحتكر التفسير الديني
ولا حتى الطقوس الدينية، وعندما يبني النظام السعودي شرعيته
على مركزية اقامة الشعائر، يستطيع الجميع ان يروا بأم
أعينهم كيف تقام هذه الشعائر بعفوية في السنغال وماليزيا
والهند وغيرها دون ان تجند طقوس الاسلام لمشاريع سياسية
بحتة.
هذا التجنيد القبيح له انعكاسات خطيرة على تطور المفهوم
الديني ذاته، حيث انه ولد ردة فعل اولى وثانية. الاولى
هي نمو جيل كبير يختصر الاسلام ورسالته بظهور الرجل بمظهر
من يقيم الطقوس ظاهريا فقط، اذ ان ممارسة الطقس نفسه اصبحت
بديلا عن ممارسة الدين كرسالة. هذه الرسالة طمستها ممارسات
النظام ذاته. فاذا شوهد رجل في المسجد يصلي مع المصلين
يتسارع الجميع لابداء أحكامهم عليه ومنها تزكيته واعطاؤه
بطاقة براءة من كل جرم قد يرتكبه خارج المسجد. اما ردة
الفعل الثانية فتجلت في رفض جيل آخر لجميع الطقوس الدينية
والتعامل معها على انها ضرب من النفاق والرياء يستغله
النظام لاصابة اهداف خاصة به وليس بالعبادة.
ردات الفعل هذه ما هي الا نتاج طبيعي لعقود من الزمن
تم فيها تحويل الدين كخطاب ورسالة وشعائر الى آلية تستهلك
يومياً من قبل نظام يبحث عن شرعية في مجتمع بدأ يفصل بين
الطقوس الدينية المستهلكة من قبل النظام وبين ماهية هذه
الطقوس ومغزاها الحقيقي.
لن ينجح النظام السعودي في دروسه الدينية والتي تقارن
يوميا بين بيعة الانبياء القديمة وبيعته الحديثة مهما
حشد اطياف العلماء وطوع النصوص، ولكنه بالفعل نجح في ارساء
دعائم مجتمع الطقوس الدينية في النظام العلماني. فكلما
ترسخت علمانية النظام كلما تطورت فنون الطقوس واستهلاكها.
لقد حقق النظام نجاحا باهرا في التقريب بين الاديان عندما
قرب بين الاسلام ودين سابق يعتمد اعتمادا كليا على الطقس
ويسقط غيره من حيثيات الاديان ورسالتها العالمية. لم يحصل
هذا التقارب عن طريق مؤتمرات عالمية تجمع بين اهل العمائم
والحاخامات والرهبان بل عن طريق ممارسات يومية اختزلت
الرسالة المحمدية بطقس او طقسين وجردتها من جوهرها وجندتها
لمشروع دنيوي سياسي ضيق. وان استمرت المتاجرة المفضوحة
بالاسلام وشعائره ستذوب الفوارق بين ديننا ودين الاورثوذوكس
من بني اسرائيل.
من القدس العربي، 15/8/2005
|