رحيل الملك فهد.. ومحاسبة المرحلة
الدكتورة مضاوي الرشيد
الملك فهد: رئيس شركة وليس قائد أمة
|
منذ أكثر من عقد من الزمن والجزيرة العربية تحكم من
قبل خمسة ملوك ومنذ يوم الاثنين الموافق 1 آب (أغسطس)
2005 أصبحت تحكم من قبل أربعة ملوك. لن نمجّد الفقيد كما
فعلت الفضائيات والجرائد المملوكة من قبل النظام السعودي،
لن نظهره بمظهر العفيف الطاهر المدبِّر لشؤون الوطن صاحب
التنمية والتقدم، إذ إننا نؤمن بأن الكمال لله وحده. لن
نخلِّد ذكراه كما تخل|د سيرة الانبياء فهذا ما لا تقبل
به عقيدتنا ومنهجنا. كذلك لن نستعرض شخصيته من باب تعداد
مساوئه وزلاّته كما فعلت بعض الجرائد الغربية. هذا الغرب
والذي ارتمى في أحضانه مليكنا لمدة ثلاثة عقود هو نفسه
الىوم يسلط الاضواء على زلاته والتي في مجملها كان الغرب
مسرحا لها.
لن نفعل هذا لاننا نتقيد بقيود تمنعنا من التشهير بالموتى
خاصة واننا نعلم أن الله وحده هو من سيحاسبهم في آخرتهم.
وبهذا الاسلوب نرفض أن نتدنى الى المستوى الذي يتبعه النظام
والذي يشهر بمعارضيه في حياتهم ومماتهم فنحن أرقى من أن
ننزل الى هذا المستوي والاسلوب في التعامل مع من لا يتفق
معنا ولا يجمع على آرائنا. بدلاً من هذا كله سنحاسب مرحلة
تاريخية، وان كان الملك صاحب القرار الاول والاخير في
هندستها ورسم ملامحها الا انه يعتمد في بلورتها على طاقم
كبير من المساعدين والابناء والاخوة وغيره.
داخليا: ارتبطت العقود الثلاثة الماضية بإقتصاد متذبذب
اذ أنه إرتبط بسلعة واحدة سعرها قد ينخفض الى ثمانية دولارات
ويرتفع الى ستين دولاراً. أمام هذه الحقيقة ولد إقتصاد
بقي رهينة هذه السلعة والطلب علىها. فشل النظام في إيجاد
حل لهذه المشكلة والتي أفقرته في منتصف الثمانينات وأوائل
التسعينات وها هي الىوم قد أغنته بعد الصعود الكبير في
أسعار هذه السلعة. لم يستطع النظام أن يحد من اعتماد اقتصاده
على هذه السلعة ولم يستطع ان يتحكم بالاسعار الا اذا كان
انخفاضها في مصلحة الغير. ضخت مضخاته المزيد والمزيد عام
1990 ومن ثم عام 2001 ومن ثم الآن حتى لا يتأثر الاقتصاد
العالمي ولكن هل من فكر في مخزون البلد وفي مستقبله وفي
مستقبل الجيل الشاب القادم؟
اجتماعيا، دخل المجتمع عصر الآفات الاجتماعية فكثرت
الجرائم وحالات الانتحار والادمان والاضطراب النفسي ناهيك
عن حالات الطلاق والعنوسة والشذوذ وغيره. هذه الآفات فنّدت
مقولات العفة والطهارة والتدين اذ أنها صدمت الاباء بأبنائهم
وثكلت الامهات. طبعا لا احد يعتبر المجتمع مجتمع ملائكة
ولكن على خلفية المقولات التالىة انصدم الجميع بحجم الكارثة
ومدى انتشارها بين اطياف المجتمع المختلفة والمتباينة.
شباب يتسكع في الشوارع ومطاردات في المدن ومغازلات في
مراكز تجارية وجرائم قتل هنا وهناك. ونحن هنا لسنا بصدد
مجتمع صناعي تأتي ثروته على حساب بعض الممارسات الاجتماعية
بل نحن بصدد مجتمع ما زال يعتبر الأواصر العائلية والمثالىات
منهجه. ماذا حدث يا ترى؟ غناء فاحش مارسه الامراء وحلقات
الولاء على مرأى ومسمع الاكثرية. تفشى البذخ وانتشرت الاستهلاكية
في طبقات المجتمع التي أصابها الثراء على خلفية إقتصادية
غير متّصفة بالثراء. فبينما كان الدخل القومي ينخفض في
الثمانينات كان دخل افراد الاسرة الحاكمة يزداد وقصورهم
تنتشر من الرياض الى جدة مرورا بلندن وباريس وجنيف وغيره
من عواصم العالم ومنتجعاته.
بينما كان الدخل القومي ينخفض في الثمانينات كان دخل
افراد الاسرة الحاكمة يزداد وقصورهم تنتشر من الرياض الى
جدة مرورا بلندن وباريس وجنيف وغيره من عواصم العالم ومنتجعاته.
لم يستوعب المجتمع هذه التناقضات. أصبح منهج الثراء
السريع الشرعي وغير الشرعي هو النمط المتبع ليس فقط من
قبل الامراء بل حتى من قبل من لفَّ لفَّهم. إختلطت الامور
في عقول الكثير بعضهم التحق بالركب يسرق وينهب ويبني قصوراً
في الداخل والخارج وبعضهم لاذ بالمخدرات وآخرون تقوقعوا
مفضلين الانزواء على الانخراط في عملية جمع الاموال السريعة.
أصبحت النساء سلعة تباع وتشتري والمهور ترتفع وتنخفض وكأننا
في سوق النخاسة. لم نعد نكتفي بزيجات شرعية بل ظهرت علينا
أنواع اخري لم نكن نسمع عنها أو ندري بها. وتصدر المشرعون
يشرعون لها ويحللونها تارة لامتصاص العنوسة وتارة لرغبات
خفية والله أعلم. انبهر المجتمع بالثراء السريع والويل
الويل لمن لم يلتحق بالقافلة فلا علم يعطي المرء قيمة
في سوق الرجال والذي صنع مؤخراً ولا أصل ولا سيرة حسنة.
الملك عبد الله: وريث عرش أم مرحلة؟
|
اصبحت الامور تقاس بالمال والمال فقط. اصبح الكرم مرضاة
للجميع ومفخرة يزايد بها على الاخرين. اصبحت الصدقة وسيلة
في كسب الارصدة وليس إطعاما للمسكين. اصبحت الصلاة مسرحية
للمشاهدين. اصبح تحفيظ القرآن مهرجانا للأمراء. أصبح الحج
طقساً من طقوس السياسة وليس من طقوس الدين. أصبحت الفتوي
مرسوما ملكيا وليس إجتهادا علمياً. اصبحت الثقافة سعودية
بعد ان كانت إسلامية ثم عربية. كنا أمة إسلامية أصبحنا
وطنا ومن ثم بدأنا نبحث عن هوية. كنا قبائل بدوية شرسة
متوحشة أصبحنا فجأة وبقدرة قادر خليجيين. استبدلنا الهوية
المنتزعة من الدين والثقافة بجغرافيا معظمنا بعيد عنها.
ولكنها كانت ارادة الغير والتي كان لها ما كان. طُلب منا
أن نصبح خليجيين فأنشأنا مجلساً وجلسنا فيه أو بالاصح
جلسنا عليه واليوم بدأ هذا المجلس يتصدع وعلى يد من؟ هؤلاء
الذين أمرونا أن نشيده انفسهم. هم ذاتهم بدأوا يسحبون
عفشه قطعة قطعة إذ أن مهمته قد إنتهت.
خارجيا: تميَّزت مرحلتنا التاريخية هذه بانجرارنا وراء
الغير في سبيل الحفاظ على نظام قضى على كل مؤسساته المستقلة
وشيَّدت آلته القمعية ـ إستوردنا أكثر الآلات قدرة على
التضليل والقتل، استعملنا الاولي كأبواق اعلامية والثانية
لقهر المجتمع المحلي. عاوننا على هذه المهمة أقوى دولة
في العالم باعونا آلات تجسس وتنصت فشلت في اكتشاف خطط
الغير ومطامعهم ولكنها نجحت نجاحا تاما في مراقبة المحلي
المجرد من القوة والارادة. اشترينا طائرات ودبابات لا
تطير ولا تسير الا في اجواء مدننا المحلية وشوارع القرى
النائية. دفعنا ثمنا باهظا لأن السوبرماركت محتكرة من
قبل مجموعة ضيقة لا تتسع للآخرين.
وقعنا في فخ مؤامراتنا خلف الكواليس. وصدمنا عندما
التف علينا أصدقاء أضداد جمعتهم المؤامرة وفرقتهم المصلحة.
وعندما طاح الفأس بالرأس التفتنا الى حليفنا نطلب الاغاثة.
فأتي ملبيا ودفعنا الثمن الغالى. وانحدرنا الى الحضيض
وخسرنا الهيبة والسمعة ولكننا انتصرنا حسب التعريف الرسمي
لمعني النصر. ولم لا ننتصر اذ ان النصر الىوم يقاس بمدي
بقائنا على الكراسي وتربعنا على العروش؟
خلال هذه المرحلة التاريخية ضربنا أكبر دولتين اسلاميتين
من حيث الموارد والقدرة البشرية بعضهم ببعض ووقفنا نموّل
الضربة بملايين الدولارات على أمل أن تهلك الحرب الدولتين
ومن ثم نخرج من المأساة كما تخرج الشعرة من العجين. لكن
هيهات للمؤامرة أن تنجح.
خلال هذه الفترة رابطنا على كل ثغر. في نيكاراغوا جاهدنا
بأموالنا ونفطنا. لم نعتبر جهادنا في هذا البلد فرض كفاية
بل كان فرض عين عينته السي. آي. أيه لنا لنخرجها من عدم
مرونة قوانينها المحلية والتي تحرم عليها دفع مبلغ أكثر
من ثلاثين مليون دولار لحبك المؤامرات ضد أنظمة لا تحبها.
نحن لا نتقيد بمثل هذه الجزئيات لذلك جهادنا في نيكاراغوا
كان من باب مساعدة الصديق. كذلك جاهدنا على ثغور إسلام
آباد وقندهار وغيره ليس حرصاً على إخواننا المسلمين من
البشتون والبلوش وغيره بل من باب حرصنا على تنفيذ مشاريع
الغير. هذه المرة كان جهادنا بالمال والرجال. صدّرنا الفائض
البشري والذي قد يخل بالامن المحلي الى تورا بورا علَّنا
نتجاوز مرحلة صعبة. جنَّدنا المجتمع وأطيافه وتذكَّرنا
مرة أخرى أننا مسلمون وبدأت القوافل ولكنها عادت. نعم
عادت ليس لنفتخر بإنجازها الحضاري ونصرها المبين بل عادت
لتجد نفسها أنها فجأة تحولت من مجموعة كانت يوماً ما تسمى
جهادية الى مجموعة تسمى اليوم بالارهابية. من كان مجاهداً
في الثمانينات هو اليوم المجرم الارهابي الابن العاق ـ
الجاهل بالعلم الشرعي المضلل المفسد في الارض.
نصّبنا أنظمة بدعمنا وأموالنا واعترفنا بهذه الانظـمة
وطبلنا لها للأنها نموذج الدولة الاسلامية المعاصرة لنعود
ونسحب إعترافنا فجأة وبسرعة بهلوانية. ومرة أخرى طلب منا
أسيادنا أن نسحب الاعتراف بعد أن كان قد غضَّ البصر. أثبتنا
أننا برغماتيون من الدرجة الاولى رغم مقولاتنا التي تمجِّد
إحترامنا لشرع ثابت غير متحول أو متغير. بعثنا من جنّسناهم
وأغدقنا عليهم الاموال لكل دولة وحكومة ونصَّبناهم رؤساء
ووزراء من باب الأخوة وسحبنا جنسيتنا من لأبناء بلدنا
ومن له جذور قديمة في تربتها. هؤلاء نسحب جنسياتهم ونلفظهم
الى الخارج لانهم مصدر إزعاج لنا. لم نفرِّق بين من يستعمل
القلم ومن يلوِّح بالسيف، الكل سواسية إذ أنهم إما فئات
ضالة أو عملاء. نحن نحتكر العمالة ولا نقبل بالمنافسة
حتى وإن أتت من داخل الشركة ذاتها ومن المساهمين فيها.
في هذه المرحلة تكرَّس موقعنا من الاعراب فنحن لسنا
بالمجتمع بل نحن مصدر نفط وموقع استراتيجي لا أكثر ولا
أقل. لم نعد وطناً رغم تشدقنا بهذه المصطلحات بل نحن بئر
عميق يفرغ يوما بعد يوم وجسر تعبره القوات الغازية في
طريقها الى بلدان الجوار. نحن من حوَّل الـ Pax americana
من حلم الى واقع. نحن لم نكتف بوجود عسكري بعيد خلف الأفق
بل أردنا علاقة حميمة في الاحضان وفي عقر دارنا إذ أننا
أهل الكرم والشهامة. لكن هذه الشهامة تكسَّرت عند أبواب
بغداد خلال أعوام الحصار. تكرَّمنا بأجوائنا وأرضنا لتجويع
أطفال العراق وتركيع أكثر الشعوب العربية عزة وكرامة.
كنا نتبادل القبل مع قيادة هذا الشعب ونقيم المعسكرات
الصحراوية لمن هرب الى أرضنا ودخل حدودنا. في إجتماعات
القمم نتهم البعض بالعمالة وننسى تاريخنا الحافل. فهل
استقطاب الزعماء العرب وعبوديتهم لمن استعبدنا ومن ثم
خلف الكواليس نكيد لهم ونموِّل معارضاتهم هنا وهناك؟
هل يا ترى إنتهت هذه المرحلة التاريخية يوم الاثنين؟
بالطبع لا. الشركات المساهمة عمرها طويل، خاصة أنها بنمطها
الذي تبلور خلال العقود الماضية قادرة على التوريث الذي
يؤدي الى إستمرارية المنهج رغم ان الاسلوب والطريقة لتفعيل
الخطوط العريضة قد تختلف بعض الشيء من رئيس مجلس ادارة
الى آخر. هناك من يفضِّل الأسلوب المباشر كالقمع والسجن
ومنهم من يميل الى المراوغة وشراء الولاء وغيره من أساليب
الاستقطاب. وهناك من يجمع بين هذين الاسلوبين بعضهم من
يدين غلوّنا ومنهم من يدين إنفتاحنا وبعضهم من يحاول إقناعنا
أننا أمة وسط. بعد إستعراضنا لهذه المرحلة التاريخية نتساءل
أين الوسط؟ هل الوسط هو تمجيد الاموات؟ هل الوسط قصور
شامخة واحياء فقيرة؟ هل الوسط امبراطورية اعلامية تمتد
من واشنطن الى الرياض مرورا بصفحات مشتراة من مجلة الاكونومينست
و اللوموند و الفايننشال تايمز .
في زمن تحول فيه الوطن الى مهرجان لا نستعجب ان رقص
مرجان. ولكن السؤال المطروح الآن على أي نغمة وايقاع ستعاد
صياغة الاوطان.
القدس العربي ـ لندن 4 /
8 / 2005م
|