حتى لا يغرقكم المديح
مات الملك!
عاش الملك!
خادم الحرمين ودّع الحياة الدنيا فورثه خادم آخر.
والبيعة.. يا لها من بيعة، وما أسهلها من بيعة.
لقد جاءت بصورة سهلة وتلقائية:
لقد بايع الأمراء من عشيرة آل سعود ملكاً من بينهم!
ثمّ جاء مشايخ نجد فبايعوا الملك الجديد ومنحوه الشرعية
الدينية واعتبروا بيعته مثل بيعة الرضوان! كما قال الشيخ
السديس! مشددين على أن من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة
جاهلية، والبيعة قد حجزت لولي الأمر الجديد.
تلا ذلك مبايعة العامّة ـ من نجد خصوصاً ـ وبذلك تحققت
الديمقراطية البدوية في أعلى مراتبها وأعظم تجلياتها وصورها.
بضعة أمراء يقررون من يكون الملك، ثم مشايخ مذهب لا
يمثل إلا أقليّة في المملكة يقرر شرعية الملك الجديد وإسلامية
حكمه، ثم العامة تأتي فتبصم.. لنصل بسهولة الى حكم الإسلام!
* * *
مات الملك!
عاش الملك!
المفجوعون بموته كذّابون في أغلبيتهم الساحقة. والفجيعة
سببها الحرص والطمع، وليس الأسى لخسارة القائد الملهم
والعظيم الذي لم تلده حرّة.
أما المدّاحون المطبّلون فكثر، تعودنا أن يكون جلّهم
من مصر، فجاءت الفضائل تترى من لبنان هذه المرة! واكتشف
المواطنون صفات في مليكهم العظيم لم يدركوها من قبل نحتها
فنانو الدعاية والتصنيم في بلد الفينيق، وبصم عليها طبّالو
الصحراء الذين أنهكونا لقرون من التحذير من مساوئ الغلو
خشية أن نقع دون أن نعلم في الشرك!
لقد حذرنا أفاقو الوهابية ورهبانها من الغلو في المديح
لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فذلك يمهد للشرك، حتى
وإن كان المديح صحيح المحتوى، وقالوا أن ذلك يؤدي الى
(التصنيم) والإشراك بالله.. ولكنهم لا يمانعون أن نشرك
ملوكهم بالله، وأن نمدحهم ونحمدهم بما ليس فيهم، وأن نقول
فيهم ما لا تجيز الوهابية وأحبارها أن نقول نصفه في أنبياء
الله ورسله!
أكثر من أسبوعين ونحن نستمع سيلاً دافقاً من المديح
لعبقرية مضت، وعبقرية آتية لا تستطيع (فك الخط) ولا قراءة
جملة مفيدة!
أفلام ووثائق وشهادات كلها تتحدث عن مصيبة اهتزّ لها
الكون، فيما آيات النفاق تتطاير يميناً ويساراً بشكل مقرف
من إعلاميين وأحبار دينيين ومسؤولين يبحث كلّ منهم عن
غنيمة آتية تراعي أسعار النفط المرتفعة والفائض الهائل
في الميزانية السعودية، وهو فائض سيكون لأصحاب الدفوف
والطبول والتمائم والبيعة الشرعية النصيب الأوفر منه!
* * *
هذا والناس مشغولون بقوتهم، وفجيعتهم بأنفسهم فوق كل
فجيعة!
الكثيرون انشغلوا بسوق الأسهم السعودي عن أسهم النفاق
الإعلامي.. فكل خوفهم أن يخسروا أموالهم، فلما اطمئنوا
الى أن خادم الحرمين الشريفين الجديد لن يسمح بانهيار
السوق حتى ولو تدخل بشكل عجيب وألغى البيع والشراء وأوقف
التداول! حين علموا بذلك شكروا الله أن قبض روح الخادم
الأول دون ارتدادات سلبية أكثر منها في العقدين الأخيرين
من حياته!
وفيما كان رؤساء الدول وملوكها يتبارون في إنزال الأعلام
وإعلان الحداد يوماً وإثنين وثلاثة بل وصل بأحد مهووسيهم
أن جعل الحداد أربعين يوماً! وكأن الخادم الراحل وهو جاءا
من بطن واحدة.. متصوراً أن التزلّف السياسي الفاقع هذا
سيزيد من حصته ضمن قائمة أيتام الملك الطويلة. وقد يكون
تصوره أقرب الى الصحة من فهمنا نحن أبناء الوطن لعقلية
حكامنا وعبقريتهم.
وفيما يتبارى هؤلاء بالحداد المزيّف، والأعلام المنكوسة،
كانت الحياة تسير طبيعية في البلاد، قال المعلقون أنها
تتفق مع الخصوصية السعودية والفهم السعودي للإسلام! فلم
تتوقف الحياة للحظة، لا في الدوائر الرسمية ولا لدى الشركات
والمؤسسات الخاصة! وقد كانت أمنية الأغلبية ان ينالوا
عطلة عن العمل بوفاة الخادم لكي يريحوا أنفسهم ويسكنوا
الى أهليهم، لا للبكاء على أطلال الخادم وتذكر فضائله
والنواح على معجزاته!
* * *
لقد قرأنا وسمعنا بل وابتلعنا مرغمين كميّة هائلة من
الدجل متعدد المصادر متعدد الأبواق متعدد الأغراض متعدد
الأشخاص متعدد الوجوه والألوان والحقول والأبواب.. لم
يحدث أن وقع طيلة عقود مضت من تاريخ المهلكة في مناسبات
مشابهة. لقد كان أقطاب النظام الجدد بحاجة الى تسخير التكنولوجيا
للتأسيس لشرعية جديدة لأشخاص وسياسات ووجوه عفا عليها
الزمن؛ وسواء أصبح الخادم الجديد نبيّاً مرسلاً أم حكيماً
لم تلد أنثى مثله، وسواء حكم ليوم أو لسنة، فإن واقع الأشخاص
والسياسات والنظام والمصفقين والمطبلين أصغر من أن تمتص
هذا المديح، بل أن هذا المديح سيغرقهم بدل أن يكون لهم
طوق نجاة.
|