مقاربة للوضع السياسي السعودي
حول الشراكة في السلطة والدمج السياسي
معظم دول العالم تتكون من مجتمعات مختلطة دينياً وثقافياً
ولغوياً ومذهبياً وإثنياً وقومياً. لا توجد سوى أقل من
عشر دول في العالم يمكن اعتبارها (مدمجة) من حيث القاعدة
الشعبية لغوياً ودينياً وإثنياً وبالتالي قومياً. وهذا
التنوع يفتح الباب على مصراعيه حول السياسات الواجب اتباعها
للتعاطي مع التنوع متعدد الأشكال في كل دولة.
والسعودية، شأنها شأن غيرها من دول العالم تطفح بتنوع
ثقافي وسياسي ومناطقي وقبلي وديني، ولكنها لم تك تعترف
أصلاً بوجود هذا التنوّع، وإن كانت ممارساتها السياسية
المحليّة تحسب كل تفاصيله.. وكان الشعور الرسمي بأن هذا
التنوع لا يشكل قضية في الأساس تحتاج الى معالجة حكيمة،
والى سياسات تقريب توحد المجتمع وتؤسس للتعايش الإجتماعي،
وتقوي قاعدة شرعية السلطة على أساس سواسية ثقافية ما،
إما هي موجودة أو يراد لها أن توجد.
هذا التنوع كان ينفجر بين الآونة والأخرى، وكانت السياسة
القائمة غير ديمقراطية واشتملت على وسائل من بينها: الإمتصاص
للتنوع في البوتقة الثقافية والمذهبية والمناطقية النجدية.
فقد كان ينظر الى الثقافات غير النجدية بخوف من أنها قد
تصبح ملاذاً آمناً لمشاعر سياسية مناهضة؛ وكان الأمل أن
تستطيع الثقافة النجدية بمخزونها المذهبي، وبدعم من الدولة
أن تمحي الثقافات القائمة والمذهبيات المتعددة لصالح ثقافة
مسيطرة قادمة من عمق الصحراء، نجحت في محيطها النجدي في
توحيد الوسط، ولربما كان ينظر اليها بأنها قادرة أيضاً
على توحيد البقية عبر تدمير الثقافات الخاصة ـ الفرعية.
الإمتصاص، او الدمج القسري، كان من الطبيعي أن يفشل،
أولاً لمحدودية الثقافة النجدية (التي يقع مجملها في خانة
التمايز المذهبي الصارخ) في استيعاب التنوع أو بعض جوانبه
في إطارها، وهو أمرٌ لو حدث لكان بالإمكان شطب بعض ملامح
الثقافات الفرعية واستيعاب بعضها. لكن نجد لم تأتِ إلا
بمعول للهدم الثقافي الذي يعزز قوة الآخر قبالها، ولم
تجد فيما لدى الآخرين أي أمر حسن ـ ربما بسبب حالة الترفّع
والإستعلاء ـ يمكن النظر اليه على أنه عنصر إيجابي يطور
الثقافة المراد فرضها. ومن جهة أخرى، فإن الثقافة النجدية
ذات خصوصية عالية من جهة المناطقية. إن الوهابية من جهة
نشأتها ذات بعد مناطقي فاقع، ولم تستطع نجد ولا زعماؤها
أن يفتحوا تلك الثقافة بالتخفيف من عناصرها المناطقية،
بل كان يراد تعميقها أكثر فأكثر. هذا البعد المناطقي استدعى
تسويد عناصر ثقافية غير قابلة لأن تحل محل العناصر المشابهة
لها مما لدى الثقافات الأخرى، وبالتالي رفضت تلك الثقافة.
وفي حقيقة الأمر فإن الحكومة السعودية، شأن دول عديدة،
فشلت في هذا النوع من التدمير للثقافات الخاصة. ما نجح
في دول أخرى جرى في أزمان سحيقة، وبكلفة عالية، أما في
العصر الحالي فإن التكنولوجيا وفرت ملاذاً للثقافات الأخرى
لكي تُحفظ وتنتشر وتتداول بين الأجيال. وبالتالي لم يعد
ممكناً في هذا العصر الحديث عن (مذابح ثقافية) بالمعنى
الحرفي للكلمة، وإن وجد قمعاً ثقافياً في أكثر من بلد
من العالم.
كانت أمام المسؤولين السعوديين وسيلة أخرى، وهي ما
يعرف بقدر الصهر، وهو لا يعني تضييع الثقافات الأخرى،
وإنما وضعها في قدر كبير تنتج منه ثقافة أخرى تحتوي على
عناصر من كل الثقافات الموجودة، فالقدر إذ يصهر الثقافات
المتنوعة فإنه في نفس الوقت لا يلغيها ويؤسس لثقافة أخرى
لم تكن قائمة، بل لثقافة حيّة قابلة للنمو والتطور حسب
ما يمكن أن يعد من المدخلات في ذلك القدر.
لقد ثبت أن الوسائل غير الديمقراطية، بل غير الإنسانية،
لا يمكن أن تحل مشكلة التنوّع، ولا أن تلغي فرص وقوع النزاع
والإختلاف بين الشرائح الإجتماعية. كما ثبت بأن انحياز
السلطات ـ أي سلطات ـ لمذهب أو ثقافة معيّنة يورّطها ويزيد
الأمور سوءً أكثر مما يحل من مشاكل.
إن الصهر الجبري يؤدي الى رد فعل إنفصالي، حدث في أماكن
عديدة من العالم. وبوادره ـ بالنسبة للسعودية ـ لا تخفى
لكل عين فاحصة.
والقمع، وإن كان قادراً على فرض سواسية ثقافية على
السطح، بمعنى أنه يفرض نمطاً سلوكياً وثقافياً موحداً
بقوة السلطة وسلطانها، فإنه في الوقت نفسه يعمّق الهويات
الثقافية الخاصة أكثر ولكن (تحت السطح). وهذا ما شهدناه
واضحاً في أكثر من منطقة من مناطق المملكة. ففي الوقت
الذي تتمتع فيه نجد بحرية ثقافية ومذهبية الى حد فرضها
على كل مواطن (علناً) في الإعلام والصحافة والمساجد والمدارس
وغيرها.. فإن ما يجري بعيداً عن أعين السلطات أكثر أثراً
وخطراً على الدولة نفسها. والثقافة التي تقاوم القمع لها
صفة أكثر جذرية من تلك التي تفرض بالقوة في نفوس المواطنين.
ينبغي هنا التذكير بأن بعض الدول انغمست من أجل التخلص
من التنوع بشتى أشكاله الإجتماعية والثقافية والإثنية
في سياسات محرمة دولياً، مثل القيام بالمذابح والتطهير
العرقي. وهذا الحل أيضاً ـ في هذه المرحلة ـ غير قابل
للنجاح، خاصة ونحن نرى المحاكمات الدولية لمن يقوموا بمثل
هذا الفعل المشين المكلف إنسانياً وأخلاقياً ومادياً ودينياً.
على أن بعض (مهووسي) الطائفية في نجد يعتقدون بأن هذا
الحلّ قابل للتطبيق: فلنطرد الحجازيين ذوي الأصول الوضيعة
الى الخارج! ولنفعل ذات الشيء مع الشيعة فنهجرهم الى العراق
أو إيران ـ هكذا يقولون!
إن أي فعل في هذا الإتجاه يحدث، حتى وإن كان بدون معاضدة
من الدولة بصورة مباشرة، سيكون المسمار النهائي الذي يدقّ
في نعشها. فهذا الحل ليس فقط غير قابل للتطبيق من الناحية
العملية، لكنه في نفس الوقت يفتح الباب واسعاً لحل انفصالي
سريع مدعوم من الأسرة الدولية، وسيضع المسؤولين ومن يقومون
أو يؤيدون تلك الأعمال في قفض الإتهام لزمن طويل، قد يخسرون
من خلاله أو أثنائه السلطة السياسية نفسها.
إذا كان صحيحاً القول بأن المجتمع المتعدد إثنياً أو
ثقافياً أو قومياً في بلد ما، لا يمكن حكمه بمنطق الأكثرية
والأقلية لأنه يؤدي الى حكم غير ديمقراطي للأكثرية، وبالتالي
لا يحل المشكلة.. فإنه من باب أولى، كما هي الحالة في
السعودية، أن لا يمكن أن تحكم أقلية أكثرية أو مجموعة
أقليات مساوية لها في الحجم أو أكبر منها.
إن (حكم الأقلية) النجدية يجب أن ينتهي، لصالح حكم
أكثر تمثيلاً وعدالة.
ثم إن أي حل للتنوع يقوم على الحلول الراديكالية لا
يمكن أن يتم في هذا العصر، ويجب اعتماد مبدأ (العيش المشترك)
بين مكونات المجتمع السعودي، إذ لا أحد قادر على إلغاء
الآخر، وربما لا أحد قادر على تغيير أو ابتلاع أو تدمير
ثقافة الآخر، وبالتالي لا يوجد سوى حل صحيح واحد هو القبول
بالعيش المشترك. اما ما هي صفة هذا العيش المشترك وعلى
أي أسس يقوم فهو ما سنشرحه.
هذا يستدعي الإنتباه الى أن النخب في كل منطقة، أو
لدى كل جماعة، يجب أن تدرك هاتين الحقيقتين آنفتي الذكر،
وأن تقتنع بهما، وأن تستبق الأمور قبل أن تصبح الحلول
أكثر صعوبة في المستقبل بحيث تستعصي على الحل، ولا يبقى
الا (الطلاق) بما يتبعه من حرب أهلية وتدخلات أجنبية،
وتدمير أسس الدولة القائمة.
وسائل الحل
وسائل الحل مطروحة علمياً، ومطبقة في عدد غير قليل
من الدول، وبينها دول إسلامية. أي أننا لا نأتي بجديد،
وهو ليس كلاماً في الهواء.. ولا يزعمن أحدٌ أن الخصوصية
السعودية تمنع ذلك، فالداعون للهيمنة ليسوا ممثلين إلا
لمناطقهم ومذاهبهم وقبائلهم، ولا يمثلون خصوصية على مستوى
الوطن، وإلا لو كانت هذه الخصوصية موجودة، لما كانت هناك
مشكلة من وجود التنوع أصلاً.
الحل ينقسم الى أربع خطوات:
الأولى ـ بناء إئتلاف واسع يمثل نخب كل الجماعات المناطقية
والمذهبية.. وإذا وجد في منطقة ما أكثر من ممثل سياسي
(كأحزاب أو تجمعات سياسية مثلاً) فإن قادة أكبر هذه الجماعات
والأحزاب تتعهد وتعمل بفتح الطريق أمام أي تنوع في الرأي
داخل كل جماعة. بمعنى آخر: إن بناء الإئتلاف يتطلب قدراً
من الديمقراطية وليس التمثيل فقط، وأن يراعي المستقبل
في حال ظهرت قوى بين كل جماعة دينية ومنطقة فيكون الإئتلاف
مفتوحاً للجميع وليس مغلقاً على الموجودين الممثلين فحسب.
الثانية ـ النسبية في التمثيل السياسي والمصلحي. وهنا
قد تظهر لدينا عقدة مما يسمّى بـ (المحاصصة) التي تعتمد
الآن في العراق. فالرافضون يغضبون من المحاصصة التي هي
أقرب الى العدالة في توزيع السلطة والثروة والمسؤوليات،
ولكنهم لا يرفضون ولا يغضبون من احتكار فئوي لأقلية الحكم
على مدى عقود من الزمن! وهذا خلاف العدل والمنطق.
إن الصراع على السلطة وتوابعها نزعة بشرية لدى الأفراد
والجماعات، وبالتالي يجب أن تخضع لنظام ما، فلا يكون الحكم
لمن غلب ويكون الخاسر صفراً على الشمال! المسألة هنا ليست
مسألة عضلات، لأن من لا يمتلك قدراً وتمثيلاً في السلطة
سيسعى اليوم أو غداً لتدميرها باعتبارها سلطة غير شرعية
مستأثرة وفاسدة، يقوم استئثارها على أسس غير عادلة لا
تعتمد الكفاءة ولا التوزيع العادل.
في ظل وضع كهذا، فإن وضع نظام لتوزيع السلطات والثروات
والوظائف في الدولة أمراً غير معيب؛ إنه لا ينتقص من وحدة
البلاد بل هو أدعى الى لمّ الشمل وتقرير المصير المشترك
على أرض الواقع، وتوحيد المصالح في بقاء النظام ووحدة
الدولة، وإبعاد المجتمع عن التمايزات والصراعات وتدمير
أسس المواطنة ذات الدرجات المتعددة (مواطن درجة أولى وثانية
وثالثة؛ أو صفر 1، وصفر 2 وهكذا!).
نعم فإن القبول بالنسبية أمرٌ صعب بالنسبة للفئة المسيطرة،
فكيف تتخلّى عمّا بيدها من سلطات لصالح فئات تعدها منافسة
أو عدوّة (وإن كانت جزءً من النسيج الوطني والدولة!)؟
في بعض الأحيان فإن بعض الأقليات هي نفسها ترفض هذه النسبية
(المحاصصة) إما لأنها حاكمة تستحوذ على كل شيء كما في
المملكة وفي العراق، وإما لأنّ هناك خلافاً على أسس التوزيع،
وهو ما حدث في قبرص التي أدّى الإختلاف بين العناصر التركية
واليونانية بين السكان الى تقسيمها، بعد إقرار تلك المحاصصة،
حيث طلب القبارصة اليونانيون بتعديلها من جديد. ولحدّ
ما كانت المحاصصة فاشلة في لبنان، فاعتقدت بعض الأطراف
أنها تستطيع أن تأخذ بذراعها أكثر مما حدده القانون لها،
فكانت النتيجة حرباً أهلية، لم يحلّها سوى (الطائف) الذي
أقرّ الماضي مع بعض التعديلات الخفيفة. أي أنه أقرّ بمنطق
المحاصصة والنسبية فأعيد بناء البيت اللبناني من جديد.
هناك دول عديدة ناجحة في التجربة: ماليزيا وسويسرا
وهولندا والنمسا وبلجيكا وغيرها.
ماذا تعني النسبية أو المحاصصة؟
إنها تعني أن يتفق اللاعبون على نظام ما معتمد لتوزيع
السلطات في الوزارات وفي البرلمان وفي الإدارات وأجهزة
الخدمة العامة للدولة، وكذلك بالنسبة للتوزيع المناطقي
للثروات التي تتمتع بها البلاد.
في معظم الأحيان تعتمد المحاصصة والنسبية على نسبة
السكان لكل أثنية أو جماعة أو منطقة؛ فإن كانت تمثل عشرة
أو عشرين بالمائة أخذت بمقدارها في كل أجهزة الدولة العليا
وفي الثروة والخدمات. وفي بعض الأحيان تقوم الأكثرية ـ
في حال وجود انقسام بين أكثرية وأقلية ـ بالتنازل أكثر
من حصّتها ضماناً لإشراك الأقلية، فتعطي الأخيرة أكثر
من حصتها بنسبة ما، كبادرة حسن نيّة، وتعزيزاً لأواصر
الثقة، أو لأن تلك الأقلية يوجد بها مصادر الدخل الرئيسية
للدولة، وهكذا.
قد يسأل سائل: ماذا إذا كان بعض الأفراد من أي جماعة
لا يقبلون بهذا التقسيم، ولا يريدونه في الأساس، وأنهم
يقبلون أن يمثلون من خارج مناطقهم وأثنياتهم ودياناتهم؟
هذا الحل المقدم لم يوضع إلا لوجود مشكلة، فإذا كانت
المشكلة غير موجودة، فلا معنى للحل! إذا كان أكثر السكان
يقبلون بأن يمثلهم أي طرف كان وفق نظام مختلف مقبول، فليكن.
المشكلة إذا كانت كل فئة تتحدث عن المظلومية وعن الحرمان
وعن سيطرة فئة وعن غياب العدالة في توزيع الثروة، فهنا
لا يهم رأي أفراد، بل الرأي العام الكلي في كل جماعة،
فيأتي الحل مانعاً لتدهور الوضع وإيقاف الإحتراب الذي
يطلّ على الأبواب. فعلى سبيل المثال: لو كانت نجد قد قدمت
نموذجاً عادلاً من التمثيل السياسي والتوزيع الإقتصادي
لخيرات البلاد، ومثلت البلاد بحصة أكبر من حصتها برضا
الأكثرية وبدون نزعات انفصالية، وبارك الجمهور في المملكة
خطواتها، فلا معنى للحل المقترح أصلاً. اما والحال وهي
تهتضم حقوق الكل، وتستحوذ على السلطة والثروة، وتفرض خيارها
الثقافي والديني على الجميع، فهذا ولد وسيولد مشاكل أكبر
في المستقبل لا نعلم حدود خطرها، ولكنها على أية حال منذرة.
الثالثة ـ إعطاء حق الفيتو المتبادل (الرفض) لكل الجماعات
المكونة للدولة فيما يتعلق بصناعة القرار السياسي والإقتصادي.
نحن هنا لا نتحدث عن القرارات الصغيرة، وإنما عن القرارات
المصيرية. إذ ـ ضمن الحل ـ يجب أن لا تقوم الأكثرية باتخاذ
قرارات تضرّ بالأقلية بحجة أنها أكثرية برلمانية أو أكثرية
عددية في الدولة. هذا يعني (التوافق) وهو ما نشهد محاولات
ولادته في العراق اليوم، كما نشهده في لبنان وفي ماليزيا.
التوافق يعني تسيير البلاد وفق سياسات يتراضى عليها الجميع؛
وفي حال برزت الحاجة لاتخاذ قرار، يشارك فيه الجميع، فإن
موضوع الأكثرية والأقلية في البرلمان ينجح في القضايا
الصغيرة؛ أما في القرارات الكبرى للدولة فتستدعي أن لا
يتخذها طرف واحد، خشية أن تتحول الى سلاح بيد الأكثرية.
من هنا ـ على سبيل التذكير ـ أعطيت في العراق لجميع
المكونات الإجتماعية والسياسية رفض الدستور المقترح في
حال رفضه ثلثا السكان في ثلاث محافظات. لقد وضع النظام
هذا بديلاً عن ذكر (الفيتو) وهو يعني في صميمه حق الفيتو
للأقلية أو الأكثرية؛ مع ملاحظة ان السنّة العرب في الأساس
هم ضدّ هكذا نوع من الحل، ويريدون العودة الى أصول اللعبة
القديمة بحجج مختلفة. لكن ما كان يمكن أن يمرر الدستور
بوجود الفيتو، ولكن قبلوا به لكي تمضي اللعبة السياسي
وفق أصولها.
من هنا ـ على سبيل التذكير ـ أعطيت في العراق لجميع
المكونات الإجتماعية والسياسية رفض الدستور المقترح في
حال رفضه ثلثا السكان في ثلاث محافظات. لقد وضع النظام
هذا بديلاً عن ذكر (الفيتو) وهو يعني في صميمه حق الفيتو
للأقلية أو الأكثرية؛ مع ملاحظة ان السنّة العرب في الأساس
هم ضدّ هكذا نوع من الحل، ويريدون العودة الى أصول اللعبة
القديمة بحجج مختلفة. لكن ما كان يمكن أن يمرر الدستور
بوجود الفيتو، ولكن قبلوا به لكي تمضي اللعبة السياسي
وفق أصولها.
الرابعة ـ الفيدرالية، أو اللامركزية: وهذا يعني أنه
إن وجدت جماعات تقطن في مناطق معينة ضمن حدود واضحة المعالم
من الناحية الجغرافية، كما هو في المملكة، وهذا ما يحدث
دائماً من جهة أن تحديد موقع الأقليات والجماعات يعني
توضيح جغرافيا الأكثرية أيضاً.. إن حدث هذا، فإن اللامركزية
(والفيدرالية واحدة من أشكالها) تعتمد في الدستور.
الفيدرالية تعني تحديداً نقل صلاحيات من المركز الى
الأطراف والمناطق، بغرض مراعاة الخصوصية الثقافية للجماعات،
ولتسهيل الإدارة والأداء الخدمي، ولمنع تغوّل الدولة المركزية،
كما هو حاصل في العالم العربي في مجمله، على حساب السكان.
بيد أن هناك من يتخوف من المركزية، من جهة أنها قد
تكون فاتحة لتقسيم الدولة. وهذا تخوف مشروع، ولكنه يستخدم
في غير إطاره الصحيح. فاللامركزية جاءت لتكون حلاً لمنع
تقسيم البلاد، وليس بغرض تقسيمها. وهي قد تكون خطرة في
حال واحدة، إذا جاءت متأخرة جداً وأراد بعض الأطراف استخدامها
كوسيلة للتقسيم. هذا التخوف ـ كما هو في العراق اليوم
ـ يحلّ بطرق مختلفة ولكن يجب قبل هذا أن ندرك ابتداءً
مسألتين أساسيتين:
أولاها، ان الجماعات المسيطرة ـ أقلية كانت أو أكثرية
ـ عادة ما تتذرّع برفضها للفيدرالية بأنها ستقسم البلاد،
وذلك لأنها في الأساس ترفض نسبية التمثيل والمحاصصة لأنه
يعني تنازلها عن كثير مما بيدها هو ليس من حقها بل من
حق آخرين استضعفوا تحت سلطانها. وهنا عادة ما يتم الرفض
من أجل الإستئثار بحجة وحدة البلاد والحفاظ عليها، وكأن
هذه الجماعات المسيطرة تدّعي وحدها أنها أكثر وطنية من
غيرها، ولكنها في واقع ممارساتها طائفية مناطقية بغيضة.
لا يجب النظر الى الفيدرالية على أن من يقبل بها هو مفرط
بوحدة الوطن ولا أن ينظر الى رافضيها ـ خاصة من الفئات
المهيمنة ـ على أنها الوحيدة التي تحفظ البلاد ووحدتها،
أو أنها ممثلة للخط الوحدوي وما عداه فهو انشقاقي انفصالي.
فهذا لا يعدو ذرائع تتخفى وراءها المصالح الخاصة والفئوية.
وثانيها، إن الرفض يفتح موضوعاً بالغ الأهمية، وهو
يدور حول هذا التساؤل: بأي حق قانوني أو أخلاقي تفرض وحدة
سياسية على جماعات لا يقبلونها؟ هذا السؤال يوجه الى الأقليات
المسيطرة أكثر من توجيهه الى الأكثريات. ذلك أن رفض الفيدرالية
من الأقليات الحاكمة يستبطن أن الأكثرية غير راغبة في
الوحدة، فلماذا إذن تفرض؟ المفترض حسن النيّة، ولهذا كيف
يكون مقبولاً أن تتهم أكثرية بالإنفصالية وهي تقول نعم
للفيدرالية واللامركزية في حين بإمكانها أن تنفصل باعتبارها
أكثرية؟
الذين يخافون من اللامركزية ـ كما في المملكة ـ هم
في واقع الحال يدافعون عن سيطرتهم وإبقاء هيمنة الأقلية
دون وجه حق. في بلد مترامي الأطراف كالمملكة فإن الفيدرالية
مناسبة له، لإعطاء المناطق فرصة للتعبير عن خصوصياتها،
ولإيقاف سياسة الهيمنة، ولإعادة اللحمة للنسيج السياسي
والإجتماعي على أسس تقترب أكثر من العدالة والإنصاف. إن
الرافضين للإصلاح السياسي يأتون في أكثرهم من الأقلية
الحاكمة، وكذلك الرافضون للتنوع والتعدد الثقافي والديني،
وأيضاً الرافضون للامركزية والنسبية في التمثيل، وما ذلك
إلا دليل واضح على عدم نضج (نتمنى أن يكون مرحلياً) لأنه
في نهاية المطاف لا بدّ أن يصطلح النظام السياسي بصورة
من الصور، وإن لم يتم فسيبقى شبح التقسيم يهدد البلاد.
إن السياسات الفئوية القائمة هي التي تدفع بتمزيق الوحدة
السياسية، وليس الفيدرالية. لكن دعاة الفرض المذهبي والثقافي
يريدون البلاد أن تكون على مقاس ثقافتهم وعقولهم ومصالحهم،
وليس لهم من وسيلة سوى القوة، والقوة لا تستطيع أن تحمي
ملكاً إلا لفترة، هكذا هي التجربة الإنسانية، وهذه هي
إرادة الله التي وضعت أسباب الفناء والبقاء.
أما بشأن الخطوات القانونية التي تحمي البلاد من الإنزلاق،
في حال إقرار الفيدرالية، فهي التأكيد دستورياً على المشتركات
الثقافية وليس التمايزات كما هو حاصل الآن في المملكة؛
وأن توضع النصوص الحافظة لوحدة الدولة، وتوفّر السبل لديمومتها.
ثم إن العملية السياسية إن نجحت، فهي ستجبر الأطراف على
البقاء ضمن الوضع الراهن، لأن مصالحهم ستكون حينئذ مرتبطة
بمصالح الدولة وبقائها.
عوامل مساعدة
هناك عوامل تساعد على نجاح ما سماه ارند ليجفارت بالديمقراطية
التوافقية والتي تحدثنا عن مضامينها آنفاً، قد لا تتوفر
جميعها في مثال المملكة:
أ ـ القبول بمنطق المساومات السياسية بين النخب، وكذلك
التنازلات من الأطراف المختلفة، وهي تنازلات قد تكون مؤلمة
للجميع، خاصة لنخبة الفئة المسيطرة. في كل مرحلة من مراحل
البناء السياسي، ستواجه البلاد بمشاكل، كما هي الآن، وعلى
النخب أن تتنازل وتساوم للوصول الى الحل، لا أن تقف جماعة
وتطرح حلها فإن لم يقبل ترفض كل شيء. منطق المساومة والتنازل
يعني تربية للذات واحتراماً لرؤية الآخر والنظر بعين العطف
تجاه مصالحه وهم بالتالي جزء من الشعب. أما أن يكون المنطق:
لنا الصدر دون العالمين أو القبر، فهذا يعني أن الحل الوحيد
هو التقسيم.
ب ـ غياب الأكثرية العددية.. وهذا مفيد بالنسبة للمملكة
مثلاً، فالجميع مجرد أقليات، لا تتجاوز أي منطقة أو جماعة
نسبة الـ 30% من مجموع السكان. وبالتالي فإن المخاوف متشابهة،
والمشاعر مشتركة، والإدراك بوجهة نظر الآخر أقرب الى التحسس
والوضوح؛ ثم إن غياب الأكثرية يخفف ذهنياً على الأقل من
نزعة التفرّد والإستئثار، ويقارب بين المطالب المتشابهة،
ويحدّ من إمكانية الحرب الداخلية.
ج ـ الغياب العميق للفوارق الإقتصادية والإجتماعية؛
وهذا متأتّى بشكل جزئي في حالة المملكة، ولكنه على أية
حال أفضل بكثير من دول أخرى. إن غياب الفوارق تماماً أمرٌ
صعب، وفي حال عدم وجود الفوارق فإنه لا معنى للحل هذا.
الفوارق أوجدت هذا الحل، ولكن حجم عمقها يخفف أو يعمّق
الصعوبات. قد تكون المشكلة الإجتماعية في المملكة أصعب
من الفوارق الإقتصادية. فالإنفصال النفسي بين الجماعات،
والتأطير المذهبي الحاد، وكذلك المناطقي، دمّر في العقود
الثلاثة الأخيرة أواصر التقارب، خاصة في عهد فهد، فتقلصت
نسبة التشابك الإجتماعي عبر الزواج والمصاهرة، كما تقلصت
نسبة التشابك الإقتصادي على أثرها، وتفككت روابط كانت
قائمة، حتى الصداقات العادية، والزيارات المتبادلة وصلت
نسبها الى الحضيض.
د ـ أن تكون الجماعات المكونة للدولة ذات حجم متقارب،
وهذا متحقق تقريباً؛ ولكن غير المتحقق أن عددها كبير وهو
يزيد من الأعباء للتوصل الى تفاهمات مشتركة. كذلك فإن
عدد السكان إن كان قليلاً يساعد على الحلّ لذات السبب.
هـ ـ وجود تهديد خارجي للدولة أو للجماعات. وهذا متحقق
جزئياً، ومن مصادر شتى، مع النظر بأن الخوف لدى كل جماعة
مختلف نوعاً ما. فهناك من يرى الخطر قادماً من أميركا
ومن إسرائيل، وبعضهم يراه مذهبياً سياسيا قادماً من العراق
أو من إيران، وهكذا. المهم ان استشعار الخطر قد يراه البعض
مفيداً لتحفيز خيارات الإصلاح، وبعضهم ـ الفئة المسيطرة
ـ تريده مبرراً لتعويقه، وحجة لتجاوزه، وهذا في غير صالح
الوضع الحالي.
و ـ أن تكون الجماعات المشكلة للدولة متمركزة في مكان
جغرافي واحد وغير مشتتة؛ وهذا حاصل بقدر كبير، وإن كان
يعد دلالة على فساد السياسات السابقة أو فشلها على الأقل.
حلول أخرى للتنوع والتعدد
الهيمنة والسيطرة: أحد هذه الحلول، هو حل السيطرة بكل
الوسائل الممكنة، ويسمى (نموذج الهيمنة) وقد نظّر لهذا
الحل الإسرائيليون؛ فهم يقولون بأن الحلّ مع الفلسطينيين
الذين يعيشون بين ظهرانيهم يتم عبر الخطوات التالية:
ـ كل مصادر الدولة المالية توضع في خدمة الفئة المسيطرة
وهي التي تقرر المحاصصة دون الرجوع لأحد (الإسرائيليون
أو من يؤمن بهذا الحل: النجديون يؤمنون به وإن لم يطبقوه
بحذافيره).
ـ كل الوظائف العليا تكون في يد الفئة المسيطرة.
ـ هناك فصل وقطيعة تامة بين النخب الممثلة للجماعات.
ـ الفئة المهيمنة تسيطر على وسائل القمع وتفرض رأيها
وشروطها على الآخرين، أو تمنحهم فرصة لبناء نظام قانوني
خاص بهم ضمن إطار السيطرة نفسه.
هذا حلّ، اتبعه الى حد بعيد صدام في العراق والنجديون
في المملكة كما الإسرائيليون. ولكن أيّ من هذه الدولة
لم تحلّ مشكلتها حتى الآن، عدا أنه في العراق هناك محاولات
لإعادة بناء نظام مختلف؛ والإسرائيليون توصلوا الى أن
هذا الحل غير ممكن فانسحبوا من غزّة، واكتشفوا أن لا حل
إلا بإقامة دولة فلسطينية (بغض النظر عن حدودها وكيف تدار).
باختصار هذا حلّ الفاشلين.. او حل من لا حلّ له إلا
ذراعه وفوهة سلاحه. وهو بالتالي حلّ غير دائم، وغير عادل
أيضاً، وفيه مغامرة بمستقبل وحدة البلاد نفسها.
العيش مع المرض أم الإنفصال: بعض المنظرين السياسيين
يجادلون بأن الدول التي تعاني من انشقاقات حادّة، لا تحتاج
الى حلول ومسكنات، ولا إلى ضبط الصراع الداخلي والوصول
الى نقاط مشتركة وتفاهمات مصالح. وهم يعتقدون بأن أنجع
الحلول هو التخلّص من المشكلة من جذورها بدل العيش معها.
والحل المقترح هو الطلاق من العقد السياسي إن كان هناك
عقد، وترتيب وسائل محلية ودولية للإنفصال بأقل الأثمان.
آخرون يرون بأن مشكلة التنوع لا حلّ جذرياً لها، وإن
ما يطرح مجرد مسكنّات للألم، وبالتالي فهم يقترحون العيش
مع الألم ومحاولة (تجميد المرض) بالمزيد من الحقن والمهدئات.
هؤلاء لا يقترحون فكرة سيطرة جماعة على أخرى، ولا تدمير
جماعة لثقافة أخرى.
آخرون طوروا هذه الفكرة، وقالوا لكي تنجح التهدئة،
فإنه من الواجب وضع ضوابط للصراع بين الجماعات المختلفة
في أية دولة. بمعنى آخر: القيام بمشروع (تنظيم الصراع)
وتحديد طريقة اللعبة السياسية، بشكل ينزع عنها تغوّلها
ويبقيها تحت السيطرة فلا تهدد الدولة آنئذ وإن أزعجتها.
الحل إذن وضع المشكلة تحت السيطرة. كيف؟ البعض يقول
بأن الصراعات بين الجماعات تعطل الديمقراطية كحل، مع أنها
حلّ معقول. وهذا كلام مردود من جهة أن الحل لا يمكن أن
يكون جزءً من المشكلة. حيثما وجدت مشاكل فإن الديمقراطية
تساهم في الحل لأنها تتضمن عوامل عقلانية وإدماجية.
البدء في الحل من نخب الجماعات، هذا رأي آخر، وهو يعتمد
على أن مشاكل التنوع تقودها النخب التي تريد أن تكسب من
الصراع أو ترى في الصراع نفسه وسيلة للحصول على مكاسب
لا تستطيع أن تكسبها بوسائل أخرى. فتغذية النزعات الإنشقاقية
والصراعية هدفه زيادة المكاسب عبر التوجه الى الجماعة
الخاصة وحشدها بوجه الأخريات.
أحد المنظرين السياسيين وهو ايريك نوردلينجر وضع ست
خطوات لتنظيم الصراعات ووضعها تحت السيطرة، وهي مشابهة
في كثير منها لما عرضه ليجفارت: إئتلاف مستقر من كل النخب؛
النسبية في المحاصصة؛ الفيتو لكل جماعة؛ الإتفاق على عدم
تسييس أجهزة الحكومة في الصراع؛ اعتماد المساومات بشأن
قضية أو كمجموعة قضايا؛ وأخيراً التوافق على الحلول والسياسات.
الفيدرالية في ظرف تحديد اللعبة، قد لا تكون مفيدة
بنظر البعض، لأن الهدف هو: توزيع السلطات ومصادر الثروة؛
ومنع أو السيطرة على العداوات والعنف بين الجماعات وليس
زيادتها؛ وإيقاف تسييس الهويات الخاصة، ومحاولة النخب
القفز عليها كما حدث في تجربة هولندا.
كل هذه الحلول (عدا النموذج الإسرائيلي) تتضمن نوعاً
من الشراكة في السلطة من قبل كل الجماعات في الدولة، وهي
تعني أيضاً مشاركة في السلطة كما هي شراكة فيها. ويقصد
بالشراكة السياسية عنصرين أساسيين هما: مشاركة وتمثيل
كل الجماعات المهمة المكونة للدولة في جهاز الحكومة؛ والثاني،
أن تعطى الجماعات قدراً من الإستقلال الذاتي في إدارة
شؤونها؛ بالإضافة الى عنصرين ثانويين وهما الفيتو والنسبية
في التمثيل والمحاصصة.
فهل هذا الحل يروق الحاكمين في المملكة؟!
ليس بعد!
|