تمزق المجتمع وتغولت السلفية وغاب الإصلاح السياسي
التحديث والصراع في المملكة العربية السعودية
وفرة مالية وتوزيع غير عادل
|
شهدت العقود الثلاثة (من الستينيات وحتى الثمانينيات
من القرن الماضي) طفرة تحديثية في المملكة شملت البنى
التحتية للدولة ومؤسساتها، كما تضمنت طفرة رخاء اقتصادي
انعكست على حياة الملايين من المواطنين. إضافة الى ذلك،
فإن تحولات ثقافية ونفسية لازمت مسيرة التحديث والتنمية،
وهذا أمرٌ طبيعي، وإن لم تلامس الجوانب السياسية.
المدهش في تلك المرحلة، أنها شهدت أيضاً إعادة انتاج
للصراع بين مكونات المجتمع السعودي بشكل حادّ، بين النجديين
والحجازيين مثلاً، وبين الشيعة والصوفية من جهة والوهابيين
من جهة أخرى.. وقد كان صراعاً إجتماعياً ثقافياً سياسياً
تشكلت على أثره منظومة الأفكار والتوجهات السياسية الحاضرة
اليوم بين جميع الفرقاء.
ما الذي حدث في تلك الفترة بالضبط؟
ولماذا شهد الصراع أوجه في فترة رخاء إقتصادي وتحديثي؟
وأين موقع الدولة، والعائلة المالكة من ذلك الصراع؟
وما هي النتائج التي تمخّض عنها ذلك الصراع، والى أين
يقودنا اليوم؟
هذه أسئلة تحتاج الإجابة عليها فصولاً مطولة من النقاش
والتفصيل، لا يسع المرء الكتابة عنها جميعها، وإنما ملامستها
بالقدر الممكن المتاح في هذه المقالة.
يقصد بالتنمية والتحديث عملية تغيير شاملة لكل أوجه
الحياة الإقتصادية والإجتماعية والسياسية والثقافية والنفسية
في مجتمع ما. بهذا المعنى هناك عواقب إجتماعية وثقافية
للتنمية والتحديث، وأخطار ومزالق إن لم تدرس بعناية. وهذا
ما حدث في المملكة.
فطبيعة التحديث أنه كان أعرجاً، أي أنه أغفل أمرين
هامين: التحولات الثقافية والإجتماعية؛ كما أغفل التحديث
السياسي كمسألة يصعب فصل أجزائها من كامل العملية.
في الموضوع الأول، تصور القائمون على عملية التنمية
بأنه من الممكن استيراد أدوات الحداثة دون إحداث تأثير
ثقافي في المجتمع، وقد عبّر أكثر من مسؤول عن هذا التصور
الناقص بالقول أن المملكة تستورد الأدوات والتكنولوجيا
دون الأفكار!
وفي الموضوع الثاني، نُظر الى التنمية كعملية اقتصادية
وفنية بحتة مفصولة عن أبعادها السياسية، أو أنهم كانوا
يرون بأن المسار التحديثي لا يشمل بالضرورة الجزء السياسي،
وفي هذا كانوا خاطئين أيضاً.
هناك نظرتان، أو لنقل رؤيتان تجاه التحديث، الأولى
تقول بأن زيادة التحديث تؤدي الى إضعاف الروابط الدينية
والعرقية والخاصة بشكل عام، وتوجه النظر الى الروابط الوطنية
والإنشداد الى ولاء الدولة ليعلو فوق الولاءات الأخرى.
أي ان التحديث يوفر روابط جديدة بين الأفراد في المجتمع
على أسس غير تقليدية، كروابط مصالح اقتصادية، أو ما يسمى
بالروابط المدنية، مؤسسة على التغيرات التي تطرأ على أفكار
الأفراد وعلى تطور أحوالهم الإقتصادية.
سياساته دمّرت التواصل الإجتماعي
|
وتقول هذه الرؤية بأن الدولة قادرة على تنشيط الإنتماءات
الوطنية في فترة عملية التحديث؛ خاصة وأنها ستوفر مناخاً
مرتخياً ومسالماً بين الجماعات، التي ستتعرف على بعضها
البعض أكثر وستقل حينها النظرات الفوقية والتعصبية والنمطية،
آخذين بعين الإعتبار أن التحديث سيترافق معه فورة في التعليم
التي ستحدّ من التصورات الخرافية تجاه الآخرين، وتقلّم
أظافر التشدّد لدى الأفراد والجماعات.
عكس هذا تقول به الرؤية الأخرى التي ترى أن التحديث
يقوّي الروابط القائمة المذهبية والقبلية والمناطقية والأثنية،
وذلك لأسباب مختلفة: من بينها أن التحديث يوفّر أدوات
جديدة لنفخ الروح في داخل الجماعة الواحدة، ويساعدها على
نشر أفكارها ورؤاها وشخصياتها؛ ومن جهة ثانية يقوم التحديث
بتوفير أرضية للصراع جديدة لم تكن متوفرة في السابق، وهو
الصراع على المصالح بين الجماعات، وعلى غنائم التحديث،
الأمر الذي يأتي معه التكتل على أسس غير مدنيّة. قد يستطيع
التحديث تهدئة الصراع بين الجماعات ولكنه لا يحلها، وإذا
ما فشلت الدولة اقتصاديا، وأعقب التحديث نكسة، فإن الروابط
القديمة تتقوّى على حساب الدولة.
ويعتقد أصحاب هذا الرأي، بأن التعليم الذي يفترض أن
ينتج نخباً موحّدة التوجة، تسمو فوق ارتباطاتها الخاصة،
يقوم في فترة التحديث بعكس ذلك تماماً، فالمتعلمون ـ كما
ظهر في أكثر بلدان العالم ـ هم الذين يقومون بإشعال أوار
الإنتماءات الضيقة رغبة منهم في المكاسب السريعة وتحصيل
موقع في جهاز الدولة أو منفعة عامة للجماعة. ويعتقد أصحاب
هذه النظرة بأن التحديث قد يفجر المشاعر الإنفصالية ويدعمها
بأدوات التحديث. ويعتمد هؤلاء على حقيقة أن المواطنين
يريدون ذات الأشياء، وبالتالي فهم يتصارعون عليها كأفراد
أو كجماعات؛ ثم أن عملية التحديث في الغالب تكون غير متوازنة،
من حيث توزيع المنافع والخدمات لأن بعض الجماعات قد سبقت
غيرها في التعليم والتأهيل فاحتلّت المواقع قبل غيرها،
وهذا ما يولد السخط والحسد والخوف من أن تسيطر جماعة على
كل مقدرات البلاد.
هناك أيضاً رؤية ثالثة تحاول أن تخطّ لها طريقاً وسطاً
بين الآراء، فالمشكلة حسب رأي القائلين بها لا تكمن في
عملية التحديث نفسها، بل في المكونات الثقافية للمجتمع
الذي يشهد العملية، وفي النخب وتجاربها السابقة، وهل كانت
هناك نزعات سابقة للإستفراد بالمنافع، أم كانت هناك تفاهمات
مسبقة يمكن أن يبنى عليها التحول بانسيابية دون أضرار
كبيرة.
في المملكة، حين جاءت خطوات التنمية والتحديث، لم ينتفع
منها الجميع على قدر متساوٍ، فهذا أمرٌ صعب تحقيقه. بيد
أن سياسات الدولة كانت تركز على المدن الكبيرة، وعلى المدن
والمناطق الأثيرة لديها حسب خلفيتها الإجتماعية والدينية،
وبالتالي أُهملت مناطق شتّى من البلاد، لأن القائمين والمهندسين
لعملية التحديث سحبوها لتنمية مناطقهم ولم يفكروا في البلاد
ككل.
ومن جهة ثانية، فإن عملية التحديث أيقظت المشاعر الخاصة،
لتتصارع حول المراكز الشاغرة في الدولة، وحول المنافع..
فمن لا ينتمي الى هذه الفئة او المنطقة لا يحصل إلا على
الفتات، وقد دفع هذا الجميع الى التكتل والبحث عن الأنساب
والخلفيات والروابط القديمة لإعادة تفعليها بحثاً عن مصالح
كل فئة، ودفعاً للأضرار. وقد ولدت مشاعر جمعية واضحة في
فترة التحديث، بين النجديين وبين الحجازيين وبين الشيعة
وبين بعض أهل الجنوب. وكان كل طرف يتهم الآخر بأنه أخذ
حصّة أكثر من غيره خاصة بين النجديين والحجازيين. وتلقت
الدولة عرائض شتّى تشكو من التهميش، في حين أنها كانت
سادرة في مخططاتها من أجل غلبة نجدية على كل مواقع القرار
ومفاصل الدولة ومنافعها.
الخدمات الصحية والطرق والتعليم والبعثات والخدمات
الكهربية والمائية والتوظيف وغيرها كانت مجرد مواضيع يدور
حولها الصراع. وكانت كل جماعة تنظر الى الأخرى بعين الحسد
والريبة والبغض، وقد أُتيحت للجميع مشاهدة المفارقات المفجعة
في عملية التنمية، بين مدن تقوم من الأنقاض وأخرى تهوي
أو بقيت مهلهلة. إن التحديث فتح العين على المنافسة، وأجلاها
بصورة واضحة. وكانت المقارنة بين المناطق وبين الأفراد
وبين الشركات بل وبين المسؤولين الكبار في الدولة علامة
لافتة في تلك الحقبة.
لهذه الأسباب لم تكن عملية التحديث في المملكة قوة
دفع باتجاه توحيد المجتمع؛ وإنما كانت بحق قوة عمياء باتجاه
تمزيقه، أنتجت سخطاً في كل مناطق المملكة، حتى الأثيرة
نجد!، بل أن بعض المناطق شهدت أحداث عنف على خلفيات إقتصادية
وأيديولوجية كما في المنطقة الشرقية، حيث كان الإهمال
الإقتصادي ـ وهي مغذي البلاد الأساس بالرساميل ـ مفجّراً
للعنف والتوتر والصدام مع الدولة. ولم يكن هناك تعويضاً
في جوانب معيّنة للفئات المحرومة في الجنوب والشمال والشرق
والغرب، حيث كان الطمع والعمى عن رؤية المستقبل يغري بالإستفراد
وبالتالي ترسيم الحدود عالية الجدران بين الجماعات والمناطق.
ما نشهده اليوم في المملكة من صور نمطية بين المناطق
إنما هو نتيجة لتلك السياسات القديمة، التي لاتزال تدار
بصورة حديثة متخذة من التمويه وسيلة تقوم بها النخب النجدية
المسيطرة التي أنتجتها تلك الحقبة العمياء.
في تلك الحقبة، كان هناك موجان دافقان متعارضان: موج
باتجاه الإنفتاح والحداثة يتناغم مع الوفرة المالية؛ وموج
سلفي شجّعته الدولة بغرض ملاحقة الإنشقاقات السلوكية السلبية
الناتجة عن عملية التحديث والغنى، وكان موقع الغنى في
أكثره في نجد. لهذا لعب التيار السلفي دوراً بارزاً في
الحدّ من تلك الممارسات، وجاءته أحداث أفغانستان لتنقله
الى طور آخر: طور التسييس والعنف، وقلب الأفراد الفاسدين
بين ليلة وضحاها الى مجاهدين يقاتلون لإعلاء كلمة الدين.
التيار السلفي اقتنص الفرصة لتوسيع نفوذه في دوائر
الدولة في عملية (تنجيدها وتوهيبها) وأصبح ضاغطاً على
كل الشرائح الإجتماعية المخالفة، مذهبية كانت أم ثقافية
فكرية، وكان التبشير المذهبي في الداخل والخارج يجري على
قدم وساق، الأمر الذي أنتج الينينا فيما بعد أحداث سبتمبر
وما تلاها من عنف داخل البلاد ولازال. كان رأي الملك فهد
ساذجاً، فلكونه محرج من عدم الإلتزام الديني، فتح الباب
على مصراعية للسلفيين، ليؤكد شرعيته الدينية كملك، ولكي
يحوّل السلفية الى طاقة ضابطة في المجتمع خاصة للتيارات
الجديدة التي أفرزها التحديث والتي تريد تغييرات عميقة
في المنظومة الثقافية والسياسية للبلاد.. فكانت المخالب
السلفية للجميع بالمرصاد. ربما كان الملك فهد وهو يقضي
آخر أيامه قد شهد نتاج سياسته، التي لازال الوهابيون راضين
عنها وعنه، ويغفرون له كل أخطائه بسبب تبنيها!
التعليم هو الآخر أنتج لنا التعصب والصراع بين الطلبة
بدل أن يكون التعليم اللبنة الحقيقية لبناء المواطن وروح
الإنتماء.. لقد اختطف التعليم كما يقال دوماً؛ لم تختطفه
السلفية وحدها؛ بل اختطفته المناطقية النجدية ولاتزال،
ظنّاً منها أنها ستستطيع تكريس حقيقة الهيمنة النجدية
الى الأبد وتشرعنها من الناحية الذهنية والثقافية والدينية.
لقد تعلم الطلاب كيف يشتمون بعضهم بعضها، وكيف يكفرون
بعضهم بعضاً، وشاهدوا بأم أعينهم الفوارق بسبب المذهب
والدين والمنطقة والقبيلة، فكان أن تخرجت الأجيال وهي
مؤطرة مناطقياً ومذهبياً وقبلياً، تدرك انتماءها الخاص
قبل الإنتماء الواسع العام للدولة؛ وتحقد على الأخيرة
لأنها لم تكن محايدة في كل سياساتها التعليمية والتوظيفية
والمدنية والعسكرية والقضائية.
لقد تفجّرت كل المشاكل اليوم ونستطيع الحديث عنها بقدر
من الحرية كما يفعل بعض الكتاب السعوديين. الجميع يشير
الى خلل سابق في التعليم وغيره. لكن أحداً لم يشر الى
حقيقة أن الدولة كانت صانع هذه النتائج المرّة؛ وأنها
يجب أن تغيّر مسلكها فتعيد اللحمة الى المجتمع بعد أن
مزّقته صراعات القرن الماضي.
ها هي الدولة أمام طفرة أخرى. طفرة مالية ـ نفطية!
ها هي الأموال تتقاطر عليها؛ لكننا بقدر ما جازمين
بأن من يسيطر على الدولة (النخب النجدية) لا يمكن أن يكونوا
محايدين في توزيع الثروة والمنافع على الأقل. ونعلم علم
اليقين بأن التحديث الأولي لم يتضمن أبعاداً سياسية فهي
أجلت التغيير، فما عسى أن تقوم به إرهاصات التحديث الجديد،
هل ستفتح نافذة أمام الإصلاح السياسي؟
نشك في ذلك كثيراً لأسباب يطول بحثها.
|