من أسلمة الإستبداد الى لبرلته
السعودية: السلطة المطلقة بين الأسلمة واللبرلة
د. مضاوي الرشيد
يحاول النظام السعودي الجديد أن يقنع الجميع أنه يسير
على خطى ثابتة في طريق الاصلاح والنقلة التاريخية التي
تنسجم مع خصوصية المجتمع وتلبي طلبات الشرائح المختلفة.
فحسب الخطاب الرسمي كل مرسوم ملكي يصور وكأنه الاصلاح
المرجو الذي تنادي به الفعاليات وتتطلع له البلاد. فتحريم
تقبيل أيادي الامراء يصب في هذا الاصلاح ويعززه رغم أننا
لم نسمع بعريضة اصلاحية قدمت للقيادة تطالب بتحريم مثل
هذه العادة والتي مارسها الآباء والاجداد. واستقبال ثلاثين
أو أربعين حرمة ومناقشة أمورهن بعد السلام عليهن يمثل
نقلة جذرية من حالة تناسي وجود المرأة في المجتمع الي
حالة الاعتراف الرسمي والصريح بوجودها. وبعيداً عن هذه
الشكليات تأتي سلسلة طويلة من الاجراءات كالانتخابات الشكلية
للمجالس البلدية وجمعيات الصحافة وغرف التجارة الي ما
هنالك من مؤسسات مدنية ومؤخراً جاء دور إنشاء لجنة حقوق
إنسان حكومية إذ أن في البلد جمعية أخري تعتبر مستقلة
تماما قامت على مبادرة افراد لاعلاقة للدولة بهم او بطريقة
عملهم.
يعتقد المراقب للشأن السعودي ان البلاد بالفعل تسير
نحو تقنين السلطة المطلقة فينتظر الجميع الاعلان الرسمي
لنشوء الدولة السعودية الرابعة إذ أن الخطاب التاريخي
الدعائي يصوِّر الماضي وكأنه قام على ثلاث مراحل لكل مرحلة
دولة. وان كانت الدول الثلاث السابقة إعتمدت على الخطاب
الديني الاسلامي من اجل شرعنة السلطة المطلقة وما ترتب
عليها من استبداد وحكم جبري نرى النظام اليوم قد إبتعد
بل شطح شطحات كبيرة عن المشروع الاول الا وهو أسلمة هذه
السلطة.
اليوم نشهد نقلة بالفعل من أسلمة الاستبداد الى لبرلته.
مرحلة اللبرلة هذه هي مرحلة إعلامية تبتعد بعداً كبيراً
عن مفهوم الليبرالية كما عرفتها المجتمعات التي تدين بها.
ولكنها حاضرة في الخطاب الاعلامي الذي يسوِّق للنظام السعودي
الجديد في مرحلة انكشفت فيها اوراقه كلها وخاصة مقولاته
المستمدة من الموروث الديني. ولم تكشف هذه الاوراق الشرائح
الليبرالية المحلية وخاصة تلك التي تطورت مع تطور الصحافة
المحلية وانما كشف الاوراق تم من قبل المجموعات والتي
كانت في الماضي جزءا لا يتجزأ من الموروث الديني ذاته.
عملية فضح اسلمة السلطة المطلقة تمت على يد هؤلاء خاصة
من كان هدفه الاول والاخير تبرئة الاسلام وتعاليمه من
ممارسات النظام السعودي.
عند هذه النقطة نطرح السؤال البديهي. ما هي يا ترى خصائص المشروع القادم والذي نقترح تسميته بالدولة السعودية الرابعة؟
يمتاز مشروع لبرلة السلطة المطلقة القائم على قدم وساق بالخصائص التالية:
اولا: محاولات إصلاح دينية تهيىء المجتمع لفقه جديد وتعلّمه أبجدية الحوار والحديث و القبول بما يسمى الآخر المعرف تعريفا واهياً غير محدد. فعبد عقود من تطبيق مبدأ محاصرة الآخر وحتى خنقه وتجريده من إنسانيته نحن اليوم بصدد إحتضان هذا المسمى بالآخر. الشعار اليوم هو لا لهجر المبتدع بل لاحتضانه من اجل القبول به، فلا يضر الدولة الرابعة ان كان بها شيء من التعددية الدينية فالكل لوحات فنية ربما يستفيد منها النظام في المهرجانات الثقافية خاصة وان كان هذا المختلف الآخر من الموالين والذين يدينون للنظام الذي فتح باب الحوار معهم من اجل اشراكهم في تقديم الولاء طبعا دون تقبيل الايادي خاصة امام عدسات الكاميرات الصحافية. القبول الشكلي بالآخر سلاح اعلامي جذاب لكنه فعال في تثبيت مشروع لبرلة السلطة المطلقة فالتعددية الدينية والقبول بها من اهم ما ترتكز عليه هذه اللبرلة ولو بالطريقة السطحية التي نشاهدها اليوم.
ثانيا: محاولات اصلاح اقتصادية تتمثل بالخضوع لمتطلبات عصر العولمة من اهمها القبول بشروط الانضمام الي منظمة التجارة العالمية والتي لها رمزية مهمة في مشروع لبرلة السلطة هذه. الانفتاح الاقتصادي سيجلب رؤوس الاموال والاستثمارات ومشاريع خصخصة الخدمات والتي هي اليوم ممتلكة من قبل الدولة والكل يعلم النتيجة الطبيعية لمثل هذه الاصلاحات والتي أثبتت أنها دائمة مرفقة بارتفاع أسعار الخدمات وخلق تفاوت طبقي وزيادة هذا التفاوت بمعدلات سريعة هي من أهم إفرازات اللبرلة الاقتصادية والتي تتطلب إنحساراً ملحوظاً لدور الدولة الاقتصادي.
فالدولة السعودية الرابعة تحاول أن تقلص ذاتها إقتصاديا لتفطم شعبها شيئا فشيئا وتعوده بالتدريج على شراء الخدمات المتعددة كالتربية والتعليم والصحة وغيرها من الخدمات التي هي مرتبطة بأصلها في مشروع الدولة الريعية. فستكثر المؤسسات التعليمية الخاصة من مدارس وجامعات وكذلك المستشفيات وسيرتفع مستوى المخصخص منها وسيدفع المواطن الثمن الباهظ لمثل هذه الخدمات ومن لم يمتلك القدرة الشرائية فليس له الا القطاع العام المهترىء حالياً والذي سيزداد إنحداره في المستقبل.
ثالثا: إجتماعياً سيحاول النظام ترجمة اللبرلة وحصرها في موضوع العنصر الانثوي وستوظف النساء في قطاعات تجلب إهتمام الاعلام وتلقى ضجيجاً داخلياً محلياً وكذلك عالمياً. سيزداد ظهور النساء في مجالات اقتصادية وتربوية وحتى سياسية وكل هذا من أجل إعادة صياغة الدولة الرابعة وإظهارها بمظهر أفضل من شكلها الحالي. فالوجوه النسائية أصبحت اليوم مقبولة بل مطالباً بها من قبل بعض الشرائح المحلية والرأي العام العالمي والذي يحسب له النظام الحالي حساباً أكبر بكثير من الداخل.
الملك الجديد أضعف من يقوم بالتغيير
|
سيتبنى النظام ورموزه كل الحالات النسائية والتي تظهر تخلف المجتمع ويبرزها تماماً كما حدث للمذيعة السعودية والتي تعرضت للعنف الاسري والضرب من قبل زوجها. هذه المأساة الحقيقية الواقعة على الساحة السعودية وجدت اخيراً أذناً صاغية من قبل أميرة ما فاحتضنت الحالة وتم التعاطي معها بشكل يظهر النظام وكأنه الحامي للحريات والحقوق النسائية من تخلف المجتمع المأساوي. اللبرلة الاجتماعية هذه تأتي على حساب تأطير وتمأسس القوانين بشكل ينصف الجميع من النساء وليس فقط الحالات الخاصة المعروفة والتي تحظى بتغطية إعلامية مكثفة. نلاحظ هنا أن اللبرلة الاجتماعية والاقتصادية ستكون في مصلحة أقلية نسائية كالمثقفات وصاحبات رؤوس الاموال ومديرات إقتصاديات توارثن ثروات من قبل ذويهم. أما المرأة المهمشة إقتصادياً وإجتماعياً فستظل كذلك إذ أنها لن تجد في النظام المشخصن من يدافع عن قضيتها ويحميها من ضرب الزوج الجائر أو حتى من عنف النظام ذاته.
سينخدع الكثير من النساء بهذه اللبرلة الاجتماعية السطحية بل سيجند النظام الكثير من النساء في عصر الدولة الرابعة ليدافعن عن سياسته إذ أنه سيسمح لهن برئاسة المؤسسات وربما يخلق النظام وزارات نسائية ويطعم مجلس الشورى الحالي ببعض الوجوه الانثوية والمنتفعات من هذه النقلة هن من الفئات التي ترتبط بأسر ومجموعات مقربة من السلطة منذ البدء وليست بعيدة عنها. فزوجات وبنات هذه الاسر سيكنّ الطلائع السابقة والافواج الاولى التي تتصدر تغيير ملامح الدولة الحالية كما هو الحال الان المتمثل بتصدر الاميرات مشاريع الاعمال الخيرية والنشاطات النسائية. والمعروف أن مثل هذه الانشطة النسائية لاتخدم عادة المصالح النسوية وانما تخدم مصالح السلطة التي تجنِّد نساءها من أجل تثبيت سلطتها على الفئة الذكورية والنسائية معاً وإعادة صياغة الاسس التي استمدت السلطة المطلقة شرعيتها منها. فبعد أسلمة السلطة هذه حان الاوان لعملية لبرلتها. هذه اللبرلة تأتي مشخصنة وبعيدة عن مفهوم تطوير المؤسسات المستقلة.
رابعا: سياسيا ستأخذ عملية لبرلة الدولة السعودية الرابعة شكلاً مميزاً إذ أنها ستقوم على خلق وتطوير المعارضات الموالية تماما كما حصل في دول الجوار والتي سبقت النظام السعودي في اعادة صياغة ذاتها. والمقصود بالمعارضة الموالية هو ربما خلق برلمان منشق على ذاته تتصارع فيه مجموعتان أو ثلاث مجموعات بطريقة تعيق الاصلاح الحقيقي بدل أن تجعله حقيقة وواقعاً على الارض. فتدخل المعارضات الموالية حلبة الصراع ليس فقط من أجل فرض إرادتها على الاخرى بل أيضا من أجل الاستيلاء على أكبر قدر ممكن من بركة السلطة وحبها. سيتنافس الجميع وسيتصارع المتصارعون من أجل إحتكار إذن السلطة كما هو حاصل الآن ولكن سيوجد النظام المؤسسة التي ستمكن هذه الفئات من ممارسة المصارعة المفضوحة لتتدخل بين الحين والآخر إما لاسكات الجميع والذي يتم عادة عن طريق حل المؤسسات البرلمانية وإما لترجيح كفة فئة على أخرى.
ستعارض السلطة أي مشرع علني لبلورة التكتلات السياسية كإنشاء أحزاب مثلاً وستتبرقع مثل هذه الاحزاب خلف براقع الجمعيات أو ما يسمى كذلك وستساعد السلطة على تفريخ العدد الاكثر من مثل هذه الجمعيات لأنها إن كثرت وتفرّقت وتشعّبت سيصعب عليها التجمع والتكاتف وسيضمن النظام تشرذمها وعدم تحولها لمجموعات ضاغطة على السلطة. ستشجع السلطة أيضا تعددية الهيئات التي تعمل في مجال حقوق الانسان ولا نستبعد أن يكون لكل أمير جمعية تدافع عن حقوق الانسان في المستقبل وبغياب العمل الحزبي المعلن ستتحول هذه الجميعات الي جمعيات مسيسة مما سيؤدي الي فقدان مصداقيتها فتسييس الجمعيات والمؤسسات المدنية غير الحكومية هو الكفيل بتعطيلها وشل قدرتها على لعب دور فعال في مجال عملها. دليلنا على ذلك مثال دولة عربية بها مئات الجمعيات المستقلة او ما يسمي بالـ NGO والتي تجد نفسها تتصارع فيما بينها وتتنافس على الموارد والمصادر الداعمة اكثر من تمثيلها لمصالح مستقلة. المنتفع الاول والاخير هو السلطة المطلقة التي تفرق وتسود. ستلتحق الدولة السعودية الرابعة بهذه المسيرة بسرعة غريبة.
اما على مستوي القيادة السياسية فسنري تحولا رمزيا كالذي بدأ يظهر وسنلاحظ مراسيم ملكية وتصرفات سلوكية ترسخ صورة الملك القريب البعيد الصغير الكبير التقليدي والمتحضر. ستكون الصور المتناقضة والمتلفزة ملازمة للمرحلة القادمة. سينتقل الملك بسرعة بهلوانية من صورة الـ COOL KING الذي يأكل البطاطس المقلية في سوبرماركت أمريكية الى صورة تقليدية تعتمد على استمرارية التراث المحلي. كذلك سينزل الملك من عليائه وسيختلط بالرعية في أحياء فقيرة كما حصل، سيعتمد على النظر واللمس لتحسس مشاكل الرعية وسيحتضن الاطفال في مسرحيات اعلامية قادمة ليبرهن قربه من هموم المجتمع وكل هذا سيخلق دراما جديدة وسيكرس قوة الاعلام في صياغة وبلورة مجموعة من الصور المتناقضة. وقد سبق النظام السعودي في هذه المسرحية بعض الملوك العرب ولكن لا بد من الاشارة الي ان مثل هذه الصور المتناقضة قد تكون غير معروفة العواقب بل قد تساعد في تشتت صورة الملكية والتي هي قائمة اولاً وأخيراً على البعد وليس القرب من الرعية وكذلك على ابهات ومراسيم ملكية متقنة الانتاج والتمثيل.
وأخيراً ستحظى كل هذه النقلة من أسلمة السلطة المطلقة الى لبرلتها بمباركة أمريكية خاصة وأن ملامحها العريضة كان قد تم رسمها وهندستها في الولايات المتحدة وخاصة في أروقة مراكز الابحاث والتي تقدم نصائح مباشرة للنظام السعودي هذه النصائح تكون في مجملها منطلقة من مصالح الولايات المتحدة حسب رؤيتها لهذه المصالح وليس من فهم لطبيعة أو جدوى هذه الاصلاحات. دليلنا على ذلك المقولات الامريكية التي ربطت بين ترسيخ الديمقراطية في الانظمة الاستبدادية كخطوة لمحاربة الارهاب ولكننا نشهد اليوم تراجعاً في هذا الموقف إذ أن الولايات المتحدة بدأت تتلقى النصائح من نفس هذه المراكز والتي تقول أن دمقرطة الانظمة ليس بالدرع الذي سيحميها من الارهاب.
هذا التراجع ظهر بوضوح خلال زيارة المبعوثة الامريكية الى المنطقة العربية. حصرت المبعوثة هيوز نشاطها بتحسين صورة نظامها هي وليس المطالبة بتغييرات جذرية للانظمة التي استقبلتها.
اقتنعت الولايات المتحدة أن لبرلة السلطة المطلقة المتمثلة بالاصلاحات السطحية على صعيد الدين والمجتمع والاقتصاد والسياسة السابقة الذكر هي الخيار الوحيد الممكن والذي سيخدم مصالحها بشكل أفضل من الديمقراطية الحقيقية والتي ستأتي بمجموعات سياسية تخافها الولايات المتحدة كما تخافها الانظمة ذاتها. بعد هذه المباركة الامريكية نتوقع الاعلان الرسمي عن موعد الاحتفال بقيام الدولة السعودية الرابعة أم هل يا ترى كانت العطلة الرسمية بمناسبة العيد الوطني والتي حصلت لاول مرة هذا العام هي إيذان بتأسيس هذه الدولة؟
القدس العربي ـ لندن 14/10/2005
|