سعود الفيصل يحذر من التقسيم بلغة تقسيمية
العراق بين مبادر عربية توحيدية أو تمزيقية
تصريحات الامير سعود الفيصل حول إمكانية سقوط العراق
تحت النفوذ الايراني جاءت في سياق مدافعة شديدة وتحرك
دبلوماسي عربي محموم قبيل فترة وجيزة من بدء التصويت على
الدستور العراقي من أجل تغيير المعادلة الوشيكة، والتي
قد تؤدي الى خسارة المسلمين السنة من معادلة الحكم القادم.
خرق الامير سعود الفيصل حاجز الصوت بعد أكثر من سنتين
من الغياب السعودي والعربي عموماً عن الساحة العراقية
سوى من جماعات العنف التي تسلل أفرادها عبر الحدود الشمالية
فجاءوا ممثلين غير رسميين عن بلادهم ليسجّلوا حضورهم بالدم
القاني في شوارع العراق وفي أجساد أبنائه.. خرق الامير
حاجزاً افتراضياً، بعد أن كان العراق يطلق سلسلة دعوات
لأشقائه وأهل جيرته بالقدوم اليه ومساعدته للنهوض من كبوته..
كل من أراد أن يبني جسوراً مع العراق وصل في مرحلة مبكرة
وبطرق مشروعة، بل حتى أولئك الذين أرادوا هدم تلك الجسور
مستعينين بإرتخاء حبل الرقابة على الحدود البرية وصلوا
في مرحلة مبكرة أيضاً، فيما بقي المسؤولون والمتباكون
على مصير العراق خشية وقوعه في المجال الحيوي للنفوذ الايراني
صامتين حتى بالنكير على القنابل البشرية المتدفقة من ديار
العرب المحاذية للعراق ومن ديارنا، حيث نفقد شبابنا في
عمليات سادية يحرّكها الاغواء الايديولوجي المقيت..
كان العراق بانتظار مبادرة عربية فاعلة وفورية منذ
سقوط الصنم في بغداد، فمشروع إعادة بناء العراق على أسس
جديدة كان بحاجة الى رؤية عربية تجديدية تعيد النظر في
تجربة الماضي التي أنهكت العراق وجعلت منه مجرد ستار ناري
أمام الخطر الايراني الحقيقي أو المتخيل.. لقد كان واضحاً
منذ سقوط بغداد أن العنصر العربي كان مفقوداً في المعادلة
العراقية، وأن حضوره الحقيقي كان سلبياً في الغالب، إما
العزوف الكلي عن مجريات التحول في الساحة العراقية أو
المساهمة غير المباشرة في تخريب المعادلة القائمة عن طريق
تسهيل مهام عناصر العنف من الدخول الى العراق..
تصريحات الامير سعود الفيصل حول إحتمالية تشظي العراق
على قاعدة طائفية والخوف من سقوطه في المربع الايراني
لم تأت في سياق فعل سياسي حقيقي، بل جاءت بعد فترة صمت
عربي غير مبرر، وكان بإمكان السعودية، التي رعت في فترات
سابقة مؤتمرات للمعارضة العراقية منذ حرب تحرير الكويت،
أن تلعب دوراً مركزياً في إستثمار التحول الكبير في العراق
لجهة مد جسور علاقة جديدة مع مختلف أطياف الشعب العراقي..
إن تصريحات الامير سعود الفيصل إستعادت ذات المفردات
القديمة التي تقوم على فرز الشعب العراقي على قاعدة طائفية
وقومية، والانكى فيها حين ينزع الامير سعود الفيصل الى
تذكير الاميركيين بالوقوف سوياً معهم في الحرب العراقية
الايرانية ضد ايران، رغم أن تلك الحرب مثّلت في الذاكرتين
العراقية والايرانية أسوأ صور الاصطفاف العربي ضد إرادة
الشعب العراقي الذي فقد خيرة أبنائه في محرقة الحرب، بما
تخللها من مقابر جماعية ومجازر وحشية جرى فيها استعمال
أبشع أنواع الاسلحة الفتّاكة، كانت فيها مجزرة حلبجة في
الشمال العراقي بصمة عار على النظام العربي لذات السبب
الذي يجعل العراقيين الآن نافرين من أي مبادرة عربية..
بالامس صمت عربي عن جرائم البعث واليوم صمت عربي عن جرائم
جماعات العنف.
مخاوف السعودية ستكون مشروعة لو أنها جاءت وفق رؤية
جديدة ومنظور مختلف للوضع العراقي وتصحيح الماضي بكل محنه
ومصائبه.. ليس هناك من يجادل في حجم النفوذ الايراني داخل
العراق، وهو نفوذ قد يبرره الايرانيون لحماية بلادهم من
المخطط الاميركي الشرق أوسطي، ولم تكن الدول المجاورة
محرومة من فرص امتلاك نفوذ داخل العراق فيما لو أرادت
أن تثمّر علاقاتها السابقة مع القيادات السياسية العراقية
في الاتجاه الصحيح.. لقد تباطأت السعودية كثيراً في أن
تكون لاعباً رئيسياً في المعادلة العراقية، مع أنها من
أكثر الدول العربية احتفاظاً بعلاقات مع زعامات المعارضة
العراقية السابقة، وقد قدّمت أموالاً طائلة منذ التسعينيات
لدعم تحركات القوى السياسية العراقية، ولكن مع سقوط النظام
العراقي المرشح منذ حرب تحرير الكويت للزوال بفعل حماقات
متكررة اقترفها رأس النظام التزمت السعودية موقف المتفرج
وغير المكترث احياناً..
إرتأت الحكومة السعودية النأي تماماً عن الشأن العراقي
طوعاً تارة وعجزاً تارة أخرى، فيما كان رسلها غير الشرعيين
يتدافعون الى الساحة العراقية ليرسموا عنها صورة بالغة
التشوّيه للعراقيين.. لقد كان العراق الجديد بانتظار مبادرة
سعودية تدخل اليه من البوابة الأوسع، وتكون أساساً يلتقي
عليه كل أطياف الشعب العراقي.. من المؤسف أن تصريحات الامير
سعود الفيصل جاءت في ظل تفجّر العنف الطائفي وفي ظل تجاذبات
طائفية حادة على خلفية التصويت على الدستور.
ومن خلال قراءة تداعيات تصريحات الامير سعود الفيصل،
يظهر أن سيل الكتابات التي تدفقت بعد ذلك جاءت لتصب في
قناة تأجيج الخلاف الطائفي داخل العراقي وخارجه، كما أحيت
تلك النزعات العنصرية القديمة التي جرى استعمالها بإسراف
قبيح وعابث من قبل النظام البعثي في العراق.
لقد فجّر الامير سعود الفيصل المكبوت العراقي مما حدا
بوزير الداخلية بيان جبر الى الرد بذات اللغة الموتورة
وغير اللائقة دبلوماسياً، حين هدد بكشف الاوراق، وعرّض
بانتهاكات حقوق الانسان في المملكة وسوء معاملة الشيعة
السعوديين، واصفاً السعودية بأنها (ديكتاتورية الاسرة
الواحدة) ومطالباً إياها بـ (إقامة نظام ديمقراطي وإطلاق
الحريات) أسوة بما يجري حالياً في العراق.. ورغم أن هجوم
وزير الداخلية العراقي إتسم بالانفعالية الخارجة عن الاعراف
الدبلوماسية، ولربما هو ما أجّج الماكينة الدعائية السعودية
لشن حملة مضادة على وزير الداخلية العراقي مستعملين السلاح
البعثي التقليدي في القاء الوصمة الايرانية على المخالفين،
الا أن خلف هذه التشابكات تكمن حقيقة أخرى يجب النظر اليها
وفق رؤية متوازنة.. فتمسك السعودية المعلن بعدم التدخل
في الشؤون الداخلية للدول، تجعل من تصريحات الامير سعود
الفيصل خروجاً صريحاً على هذا المبدأ وبخاصة فيما يتصل
بمطالبته بإجراء تعديلات جوهرية في الدستور العراقي، والزام
الحكومة العراقية القائمة بأمور يجب عليها فعلها من أجل
ضمان حقوق السنة السياسية، بل وأن تسبق وتعقب تلك التصريحات
حملة إعلامية من أجل التصويت بـ (لا) على الدستور ووقف
العمل به مالم يخضع لتعديلات كبيرة.
العراق هل يكسّر الأيدي المتصافحة؟!
|
كان بإمكان السعودية أن تعمل ما عجزت الادارة الاميركية
والحكومة العراقية عن فعله، بأن تعيد تكتيل السنة العرب
في العراق بدلاً من السماح لجماعات الزرقاوي اختطاف القرار
السني.. إن واحدة من أسوأ تداعيات العمليات الارهابية
في العراق على يد جماعة الزرقاوي أنها أدت الى تفتيت الوحدة
المجتمعية السنية حيث أدى ذلك الى غياب صورة السياسي القادر
على تمثيل السنة العرب، بل أدت تلك العمليات الدموية أيضاً
الى إغتيال فرص بروز قيادات ورموز دينية وسياسية في المجتمع
السني..
إن الصحوة المتأخرة لدى القيادة السعودية شأنها شأن
قيادات عربية قبل أيام من التصويت على الدستور العراقي
وعبر مدخل حفظ حقوق السنة العرب، جاءت في لحظة خاطئة كونها
أثارت حساسية الغالبية من الشعب العراقي الممثلة في الشيعة
والاكراد، الذين عبّروا في أول رد فعل لهم عن رفض أي مبادرة
عربية كونها مبادرة مقطوعة الصلة بحركة الاحداث العراقية
وخارج سياق التطور السياسي الداخلي، بل قد اعتبرها البعض
خروجاً على حقائق المجتمع والسياسة في العراق.
إن مبادرة سعودية لمصالحة عراقية حقيقية وشاملة ستكون
أقوى من مبادرة الجامعة العربية التي جاءت عقب إجتماع
لجنة المتابعة العربية في مدينة جدة، والتي تقرر بعدها
إيفاد عمر موسى الامين العام للجامعة العربية الى بغداد
لمسعى المصالحة العراقية. لم يكن رفض المبادرة العربية
عراقياً سوى كونها جاءت من البوابة الطائفية التي دخل
منها المتنازعون في العراق، ولم تكن مبادرة عربية تعني
العراقيين جميعاً، وهنا يكمن مأزق التحرك العربي المتأخر..
فقد دخلت الجامعة العربية كطرف عن أهل السنة، فيما غاب
دور الجامعة طيلة السنتين الماضيتين بكل الدماء التي أهرقت
في شوارع مدن العراق..
ولنقلها صراحة، أن العمليات الارهابية الدموية في العراق
كانت وصمة عار على الجامعة العربية والدول الاعضاء فيها
بالتزامها الصمت حيال ما جرى من قتل جماعي ومجازر جماعية
وحشية.. لقد تنبّه الشعب العراقي الى أن الدول العربية
لم تكن بمستوى المسؤولية، كونها لم تصدر بيان استنكار
واحد او حتى تعاطف مع الضحايا الذين يتساقطون يومياً بفعل
عمليات عنف غير مبررة.
إن التصريحات المتشددة لوزير الخارجية الامير سعود
الفيصل ضد إيران لها مايبررها، ولكنها تتخطى الحقائق الجديدة
في العراق، وكان يفترض أن يرعى الامير مشاعر العراقيين
الذين يرفضون الوصاية مهما كان مصدرها وشكلها أعجمياً
كان أم عربياً، وكان عليه أن يوجّه مبادرته وتحفظاته الى
الشعب العراقي نفسه بدلاً من استعمال لغة الغرماء المتنافسين
على كعكة العراق وكأن الوضعية المالية التي ارتبطت بكيفية
ضمه لخارطة الاسلام وفتحه عنوة باتت تفرض نمطاً قدرياً
محدداً في التعامل معه.
إن العراق الذي يولد من جديد وعلى أسس متقدمة قد يكون
في يوم ما نموذجاً ديمقراطياً يحتذى، إن لم يكن واحة ديمقراطية
محاطة بحلقة من الديكتاتوريات في كافة الاتجاهات.. دول
الجوار جميعاً تريد من العراق أن يبقى متخلفاً من الناحية
السياسية والاقتصادية ومضطرباً أمنياً ومنقسماً طائفياً
وإن تظاهر الجميع بالحرص على وحدته وتماسكه، لأنهم يدركون
بأن العراق يصاغ من جديد ولن يخرج من ولادته الديمقراطية
الا قوياً ومؤثراً.. يريدونه كعكة وغنيمة قابلة للقسمة
طائفياً وسياسياً وقومياً مع الاحتفاظ بوحدة كيانية هشَّة
من أجل درء الاضطرابات المتوقعة التي يمكن أن يتركها إنقسام
العراق على دول الجوار، وبالتأكيد ليس هناك من دول الجوار
من يريد العراق أن يكون ديمقراطياً مندمجاً منسجماً بين
فئاته، لأن نجاح التجربة الديمقراطية فيه يعني اندياحها
الى خارج الحدود وبالتالي بدء انهدام الكيانات المستبدة
المجاورة له..
تحاول الدول العربية عبر مبادرة الجامعة او مبادرات
فرعية ومنفصلة التوصل الى إتفاق من أي نوع مع الادارة
الاميركية من أجل تعطيل المسيرة الديمقراطية في العراق،
عبر العنف وعبر إثارة المخاوف من النفوذ الايراني وعبر
طرح قضية الحقوق السياسية للسنة العرب.. وكل ذلك بات معروفاً
في العمل السياسي الروتيني، وقد تستجيب الادارة الاميركية
الى بعض النقاط الواردة في أي مبادرة عربية تجدها مريحة
لها من عناء التجربة العراقية التي أنهكت قواتها وقدراتها
الادارية والعسكرية. ولكن ماتحمله تلك المبادرات للشعب
العراقي او للغالبية منه سيكون له تأثيرات عكسية تماماً،
فأي مبادرة في جو مشحون طائفياً ستخضع بصورة تلقائية للحسابات
الطائفية، ما لم يوفّر أصحاب المبادرة كل الضمانات الضرورية
لاثبات حسن النوايا ورفع سقف التطلع الى مستوى إستيعاب
كامل الطيف السياسي والقومي والمذهبي العراقي.
قد لا تكون تصريحات الامير سعود الفيصل حول الخطر الايراني
في العراق منفصلة عن الملف النووي الشائك والذي مازال
يخضع لتجاذبات شديدة تشارك فيه أطرف عدة اقليمية ودولية،
وقد تكون السعودية وعدد من الدول العربية قد أفادت من
التوترات المتنامية بخصوص الملف النووي الايراني من أجل
تكثيف الضغط على ايران وحلفائها في العراق كمدخل الى الموضوع
العراقي، الذي شهد لحظات حاسمة سيما مع اقتراب موعد التصويت
على الدستور، والذي سيشكّل الاساس القانوني للعلاقات الداخلية
ولتموضعات القوى السياسية والاجتماعية في الدولة العراقية
الجديدة.. إن التقاء المخاوف السعودية والعربية مع المخاوف
البريطانية والاميركية وربما الاسرائيلية من الملف النووي
الايراني ومن النفوذ الكاسح لها في منطقة الجنوب قد يدفع
واشنطن على الاقل للتنبّه الى دور ايران في العراق على
حساب الادوار العربية الاخرى التي قد يكون لها أهمية خاصة
في المستقبل ولعل هذا ما لفت اليه الامير سعود الفيصل
حين أكّد على التعاون المشترك بين بلاده والولايات المتحدة
إبان الحرب العراقية الايرانية من أجل وقف تطلعات السيطرة
الايرانية في العراق وربما في المنطقة.. ومهما قيل عن
ترتيبات اميركية ـ ايرانية بشأن العراق، فستظل الهواجس
الاميركية حاضرة دائماً، خصوصاً وأنها تدرك جيداً بأنها
تلعب مع طرف ليس بالسهل حتى في مجال الاستراتيجيات السياسية،
بل ايران نجحت منذ سقوط نظام صدام الى الدخول في العراق
والمشاركة الفعالة في صياغة معادلات الوضع الجديد وهو
ما جعل الاميركيين والبريطانيين يقبلون خاضعين بدور ايراني
فاعل.. مع أن نوايا الاطاحة السياسية بالنظام الايراني
مازالت قائمة بل تندرج في أولى قائمة التمنيات الاميركية،
رغم ان تحويل النوايا الى أفعال يبدو عملاً شاقاً بل قد
يكون مع خطأ الحسابات الدقيقة للقوة الايرانية كارثياً
ومدمراً.
إن ما نخلص منه من تصريحات الامير سعود الفيصل هو أن
العراق ينتظر مبادرة عربية جامعة تقنع أبناء العراق بصدقية
الموقف العربي الذي لم يكن كذلك على الاطلاق طيلة السنتين
الماضيتين، وإن نجاح المبادرة العربية يتوقف على أفق صانعيها،
فإما أن تكون مبادرة لكل العراق وإما أن يكون نصيبها الفشل..
دع عنك تأثيرات المبادرة على علاقات الدولة العربية المشاركة
فيها مع العراق.
|