الـد ولـة الـمـحـافـظـة
نزعة المحافظة أو (conservatism) في الدولة السعودية
قارّة في نظامها السياسي والاجتماعي، والنزعة المحافظة
وهي فلسفة تشدد على قيمة المؤسسات والممارسات التقليدية،
بمعنى إعادة انتاج وتنشيط الموروث التاريخي في مقابل المجرد
والمثل، ولذلك ينزع أصحاب الميول المحافظة في الحكم الى
التأكيد على المؤسسات والممارسات التي تتطور تدريجياً،
وتمثل تمظهرات للاستمرار والاستقرار. ويلحّ المحافظون
على أن الحكومة يجب ان تكون خادمة وليست سيدة لمناهج الحياة
القائمة، ويجب عليهم مقاومة الاغراء الرامي الى تحوّل
المجتمع والسياسة، ولذلك فهم مرتابون غالباً من فعالية
نظام الحكم، أي من تحوّله وتطوّره، بما يفصله عن قاعدته
التقليدية التي بني عليها، وبما يهدد بنتائج غير مأمونة
للنظام السياسي.
مما سبق يمكن المجادلة بأن نزعة المحافظة هي من حيث
التكوين والنشأة تقف على نقيض مع التحديث والاصلاح، وهي
بالتأكيد على تضاد تام مع اللبرلة التي تعتبر حركة تحديثية
مضادة للتقليدية، إذ نشأت خصيصاً لازالة الشرور والمساوىء
الناجمة عن إساءة استعمال السلطة. ومن الضروري هنا التمييز
بين المحافظة والنظرة الرجعية، التي تفضّل إعادة النظام
الاجتماعي والسياسي السابق والبالي.
في القرن التاسع عشر، عجّلت الثورة الصناعية في انهيار
النمط القديم من النزعة المحافظة، حيث نجحت الثورة في
تقوية الطبقة الوسطى وخلقت طبقة عاملة صناعية غير موالية
للمؤسسات القديمة، ومع نهاية القرن التاسع حققت الليبرالية
انتصارات متتالية على المؤسسة المحافظة في غرب أوروبا
وبدأت تشيع أفكارها في أرجاء العالم.
وبطبيعة الحال، فإن شروط التحول الداخلي للدول كانت
متباينة، وإذا كانت النزعات المحافظة قد فقدت تأثيرها
على مستوى النظام الدولي فإنها ظلت فاعلة داخل عدد كبير
من الدول خارج المجال الحيوي للغرب الصناعي.
بالنسبة للسعودية، فإنها نموذج الدولة المحافظة بصبغة
مزدوجة دينية واجتماعية، وعلاوة على ذلك فإن هناك تماهياً
تاماً بين مجالي الحكومة والدولة، إذ أن التغييرات الحاصلة
في مجال الحكم يسري تلقائياً على مجال الدولة، بخلاف ما
جرت عليه رؤية منظّري الدولة التي تستند على الفصل التام
بين المجالين، حيث يشدد هؤلاء على أن النظام السياسي للدولة
يتمايز عن الدولة نفسها، بمعنى أن النظام السياسي يتألف
من هياكل رسمية وغير رسمية والتي تمظهر سيادة الدولة على
الاقليم والشعب، أي المجال المدني للدولتية، ولكن الدولة
عبر تاريخها قد يكون لها أنظمة سياسية مختلفة.
بطبيعة الحال، فإن الدولة السعودية تمثّل حالة فريدة
في هذا الصدد، فالدولة والنظام السياسي ولدا في لحظة تاريخية
واحدة، وأن بقاء الدولة محكوم ببقاء النظام السياسي ذاته،
إذ ليس هناك حتى الآن تصوّر واضح حول طبيعة الدولة مفصولة
عن نظامها السياسي في هذا البلد، وحتى بالنظر الى الايديولوجية
الدينية المشرعنة للدولة والنظام السياسي، فإن من غير
المتخيّل إيجاد بديل ايديولوجي يعيد تأسيس الدولة والنظام
السياسي على قواعد جديدة، لأن ذلك يفضي الى إنهدام الاسس
التي قامت عليها الدولة وكذا نظامها السياسي.
من هذا المنطلق، فإن النزعة المحافظة بمنزوعاتها التقليدية
وتمأسساتها تجعل من التغيير والتحوّل محفوفاً بمخاطر التفكيك
على المدى البعيد، ولذلك تكاد تتطابق رؤية المحافظين في
كل دول العالم حول العلاقة الجدلية بين تحوّل النظام السياسي
ودرجة الحكم، أي مدى تغلغل الطبقة الحاكمة في النظام السياسي
وفي الدولة بصورة عامة. ولذلك فإن هناك ميلاً طبيعياً
لدى الطبقة التقليدية الحاكمة الى ضمان بقاء هيمنتها الكاملة
على النظام السياسي في ظروف التحول، كما ترغب بشدة على
تضمين القيم التقليدية في النظام.
إن المؤشرات التي ظهرت خلال الاعوام القليلة الماضية
كانت مقلقة بالنسبة للعائلة المالكة، حيث شعرت بأن رمزية
الدولة تآكلت على نحو سريع، تنبىء عن ذلك جملة الحوادث
التي مرت بها البلاد على مدى ثلاثة أعوام حين كانت جماعات
العنف تنفّذ عملياتها النوعية بقدر كبير من الجرأة دون
حساب لقوة الدولة، وكان منظر سحل جثة أحد الاجانب المقتولين
على أيدي هذه الجماعات في شوارع مدينة الخبر بالمنطقة
الشرقية دليل استخفاف بهيبة الدولة. في تجربة التيار الاصلاحي
الوطني المؤودة ما يفيد أيضاً بأن سطوة النظام السياسي
وقيمه التقليدية قد إنحسرت، فكان إصرار رموز هذا التيار
على عقد الاجتماعات التنسيقية بصورة علنية دليل على إنكسار
حاجز التقليد السياسي الذي أرسته العائلة المالكة.. ولم
تعد الاخيرة، كحارس للقيم والاعراف التقليدية الكفيلة
بصيانة النظام السياسي، قادرة على إدامة هذه الوظيفة لمديات
أبعد.
إن الهزّات العنيفة التي ضربت الدولة حملت من الرسائل
ما يكفي للتنبيه على ضرورة التغيير في جوهرية الدولة ونظامها
السياسي، وقد إستوعبت العائلة المالكة الدرس بصورة جيدة،
ولكن ما ترتب على ذلك كان فادحاً. فقد لجأت العائلة المالكة
الى ذات المؤسسات التقليدية للاستقواء بها على مقاومة
التغيير والتحوّل، مع الاكتفاء بمنطق المماطلة والوعود
المؤجلة بالاصلاح بحسب الرؤية الشعبية وليس الرسمية..
ومن الناحية المبدئية، غالباً ما تكون حركة التغيير
في الدول المحافظة بطيئة، وهذا يستتبعه إنتظار طويل كيما
تتأهل هذه الدول نفسياً وتقنياً لعملية التغيير، وفي الغالب
فإن هذه الدول تعيش حيرة وتردد لأمد بعيد خشية الانتقال
الى مرحلة متقدمة تجد نفسها فاقدة لأدوات التعامل معها
وضبط تداعياتها، ولذلك فهي تقرر وضع حسابات دقيقة لكل
خطوة تقدم عليها، وعليه فإنها تلوذ بالانتظار والترقّب
حتى تتحسس معالم الطريق التي تسير فيه وإليه..
وبرغم تكاثف الضغوط الداخلية والخارجية من أجل الاصلاح،
فإن العائلة المالكة تعيد إنتاج رؤيتها التقليدية وتتمسك
بذات القيم المحافظة التي ضمنت لها البقاء، وحتى بعد وصول
عبد الله الى العرش فإن نزعة المحافظة ماتزال قوية، وإن
السحب الكثيفة التي تجمّعت قبل وبعد وصوله الى الحكم لم
توعد سوى بالمزيد من المماطلة والانتظار.. ولكن الانتظار
والمماطلة قد يؤجلان الحتف ولكن لا يعدمانه؟!
|