مؤشر مخيّب للديمقراطية في بلادنا
الإصـلاح غيـر الـلافـت
منذ بدأت موجة الاصلاح في السعودية قبل ثلاث سنوات
كان الاعتقاد بأن الاجراءات الاصلاحوية التي إتخذها الملك
عبد الله منذ كان ولياً للعهد ستلفت النظر وستجعله فارس
ميدان يتنافس فيه كثيرون، مشفوعاً بصخب إعلامي كثيف يحيل
من الخطوة الى حركة، ويجعل من الحبة قبّة، وقد نجحت العائلة
المالكة الى حين في أن تحيط نفسها بهالة إصلاحية لم يكن
تحصل عليها بغير كثافة الضخ الدعائي المتواصل ورضى الحليف
الاميركي الذي يشعر بالذنب أمام شعبه ومؤسساته الديمقراطية
كونه لا يزال داعماً لأنظمة الاستبداد في الشرق الاوسط،
كيف وأن فيها من ظهر من يمتطي الطائرات لينزل الهلاك في
عقر داره.
ما بين الشعبي والرسمي مسافة بعيدة، تماماً كما الفاصلة
بين الحقيقة والخيال، أي بين المنجز الفعلي والمفتعل،
فالانتخابات البلدية التي سبقتها حملة دعائية مكثفة لم
تكن سوى خطوة ضئيلة لا يعتدّ بها في طريق الديمقراطية،
وإن كان لها من أهمية فهي كونها تجري في بلد لم يقبل حكامه
إحداث أدنى تغيير في تركيبة الدولة، فهي خطوة متواضعة
للغاية بالقياس الى المعايير العالمية للديمقراطية، وإن
المنطق الذي تلوذ به العائلة المالكة في تبرير سياسة التدرّج
ليس سوى تعبيراً قبيحاً عن الاحتكار التام للسلطة ورفض
مبدأ المشاركة السياسية. إن جملة التدابير الشكلية التي
اتخذتها العائلة المالكة منذ ثلاث سنوات لا تنم عن رغبة
في الاصلاح حتى وفق سياسة التدرّج، فقد تراجعت معدلات
حرية التعبير، ولم يسمح حتى الآن بإنشاء مؤسسات أهلية
تكتسب صفة الرسمية، بل هناك من الادلة ما يكفي على أن
الدولة تنزع الى فرض سيطرتها الكاملة على مجمل المناشط
الاهلية. ومن أبرز ما يمكن ملاحظته في هذا الصدد منظمات
حقوق الانسان التي مازالت تعمل بصورة غير رسمية، فيما
أصبح مجال حقوق الانسان مورد تجاذب بين أقطاب الحكم، فهناك
لجنتان لحقوق الانسان ولكن واحدة منها تابعة لوزير الداخلية
والاخرى للملك، بينما كان مشروع إنشاء لجنة حقوقية أهلية
مستقلة مبرراً لاعتقال أصحابها بل وتقويض النشاط الاصلاحي
برمته.
كنا نعتقد بأن وصول عبد الله الى العرش سيعني مفتتحاً
إصلاحياً إستثنائياً سيعيد الاعتبار للتيار الاصلاحي الذي
حمل تطلعات غالبية السكان، بعد أن أطفأ وزير الداخلية
شموع الأمل في الخامس عشر من مارس 2004، ولكن ذلك الاعتقاد
كان خاطئاً، فقد إنهمك الملك الجديد في لعبة التسويات
الداخلية وترتيب بيت الحكم، فيما لا ذكر فيه لقضية الاصلاح.
بات من الواضح، أن حضور التيار الاصلاحي في الساحة الشعبية
والاعلامية مؤشر الحراك السياسي الفعلي في السعودية، والعكس
صحيح، فإن غياب الاصلاحيين دليل على الممانعة الخفيّة..
منذ وصوله الى العرش في أغسطس الماضي، لم يبلغنا الملك
الجديد بأجندة إصلاحية ولا غير إصلاحية، فأولويات الملك
ليست معلنة ولكن ما يرشح منها على السطح هو طائفة من القرارات
السامية المتعلقة بترتيب البيت الداخلي، فيما لا تزال
باقي المؤسسات والسياسات متماسكة وتعمل وفق المنظور القديم،
الممثل في ملك الآباء والاجداد وفق مبدئي الحق التاريخي
والالهي.
لم يظهر حتى الآن أن في جعبة الملك ما يبشر بعهد جديد
في مسار الاصلاح، وإن ما يتغير حتى الآن على السطح هو
بضغط من أسفل، أي من القوى الاجتماعية والسياسية التي
فقدت الأمل في أن يأتي التغيير من الاعلى، الأمر الذي
يستبطن رسالة غير مباشرة الى الملك الجديد بأنه لم يعد
فارس الحلبة المنتظر. فقد سأم الناس من وعود لم تثمر في
تجسيدات إصلاحية مهمة، فقد انفصلت مركبة الاصلاح عن مدارها
الرسمي وباتت تعمل بصورة مستقلة وفق توجيهات القوى الاصلاحية.
مهما يكن، فإن إنطفاءة الوهج الاصلاحي لم تكن مفاجئة
منذ الضربة المباغته التي وجهها وزير الداخلية للرموز
الاصلاحية، وإن الكرة باتت في ملعب الملك الجديد وعليه
تحديد موقفه في المرحلة القادمة. إن ما تخبرنا به الحقائق
الراهنة أن السعودية مازالت بحسب التصنيف الدولي غير مؤهلة
رسمياً للدخول في قائمة الدول التي بدأت السير في طريق
الديمقراطية. فبعد تقرير الخارجية الاميركية الصادر هذا
العام، فإن السعودية وللسنة الثانية على التوالي مصنّفة
في قائمة الدول المنتهكة للحرية الدينية، كما أن المنظمات
الحقوقية الدولية مازالت تطلق تحذيراتها من الانتهاكات
الخطيرة لحقوق المرأة. وقد تجتمع هذه الخروقات في مجال
الحقوق والحريات عند خط المناهض لديمقراطية وفق المعايير
المقرّة عالمياً، وهو ما أظهرته الدراسة التي أعدّها مركز
المعلومات التابع لمجلة إيكونوميست، حيث ذكرت الدراسة
بأن هناك طيفاً واسعاً للعملية الديمقراطية في الشرق الاوسط،
وقد شملت الدراسة 20 دولة وضعت على 15 مؤشر للحرية السياسية
والمدنية. وأوضحت الدراسة بأن السعودية تأتي في المرتبة
ماقبل الاخيرة. وقد وضعت الدراسة كل دولة على مقياس من
10 نقاط، وخلص المحللون في هذه الدراسة الى أن مظاهر التحول
الديمقراطي قليلة في بعض البلدان. وقد ذكرت الدراسة بأن
أول تعاطي للسعودية مع الديمقراطية في فبراير الماضي عندما
أجريت الانتخابات البلدية، لكن مازالت الملكية المطلقة
تقاوم الضغوط من أجل الاصلاح. وقد حصلت لبنان على معدل
6.55 والكويت على 5.05 وقطر على 4.45 وعمان على 4 والبحرين
على 3.85 فيما حصلت السعودية التي جاءت في المرتبة التاسعة
عشر على 2.80 من عشرة.
لم تنطوي الدراسة على مفاجئات في نتائجها، وإن كان
تبدّل مفاجىء حصل في عدد من الدول العربية مثل العراق
والاراضي الفلسطينية المحتلة، فقد بات العراق يتمتع بنظام
حكم ديمقراطي رغم موجة العنف المتصاعدة وحالات الفساد
الاداري والانتهاكات الحقوقية، والتي تبقى بالقياس الى
العهد السابق ضئيلة.
إن أهمية الدراسة تكمن في كونها كشفت عن الحجم الطبيعي
للاصلاح في السعودية، بعيداً عن الضجيج الاعلامي الذي
أحدثته بعض الاجراءات الشكلية التي أعلنت على مدى الاعوام
الثلاثة الماضية، فللديمقراطية معاييرها الثابتة التي
أخفقت الدولة السعودية في الامتثال لها، وإن حصولها على
المرتبة ماقبل الاخيرة اي قبل ليبيا وموازية لسوريا تحمل
من الدلالات ما يكفي.
المرأة مرشحة.. البداية المتأخرة
كما هي فكرة الانتخابات البلدية، التي بدأت متواضعة
ومن أدنى مستويات العمل الاداري الدولتي، والتي رغم ذلك
لم تسفر حتى الآن عن خطوات عملية، فإن دخول المرأة الى
عالم الانتخاب تم خارج المنظومة المؤسسية الدولتية، وفي
ذلك مايلفت أيضاً. فهي تخوض المنافسة في مؤسسة إعتمدت
مبدأ الانتخاب منذ فترة طويلة، ولكن هذه المنافسة لا تمثّل
مختبراً لكفاءة المرأة بقدر ما تمثل اختباراً لردود الفعل
الدينية على مشاركة المرأة في الانتخاب.
في إنتخابات الغرف التجارية والصناعية بجدة التي أجريت
في شهر نوفمبر الماضي، أظهرت المرأة تفوقاً في إنتخابات
مجلس إدارة الغرفة التجارية التي تنافس على عضويتها 71
مرشحاً دخلوا ضمن أربع قوائم إنتخابية، حيث فازت كل من
السيده لمى عبد العزيز السليمان والسيدة نشوى عبد الهادي
طاهر بعضوية الغرفة التجارية والصناعية بجدة لتكونا من
بين 12 عضواً في ادارة الغرفة، وهي أول مشاركة نسائية
تكون فيها المرأة ناخبة ومرشحة.
لاشك أن مشاركة المرأة في الانتخابات تعد مؤشراً صالحاً
لقياس درجة التأهيل السياسي والاداري للمرأة أولاً من
حيث زيادة مستوى التطلع ومن حيث رغبتها في الدخول في العمل
السياسي جنباً الى جنب الرجال. من جهة ثانية، إن فوز المرأة
في هذه الانتخابات هو مؤشر آخر على ثقة الناخبين فيها
من قبل الرجال أو النساء على حد سواء، وثالثاً إن مشاركة
المرأة في الانتخابات وفوزها يلمح الى القبول الاجتماعي،
حيث شهدت الانتخابات تفاعلاً إجتماعياً إيجابياً وحماساً
ملحوظاً لمشاركة المرأة دون حساسية. وكانت قائمة الاوائل
التي تمثل أول تكتل انتخابي نسائي في السعودية ضمت كلاً
من بتول جمجوم، وأماني عبد الواسع، وبثينة مؤمنة، وألفت
قباني، وسلوى رضوان، ودنيا بكر يونس، وحنان مدني.
في المقابل، كشفت الانتخابات البلدية الى مستوى معين
عن الفوارز الاجتماعية والايديولوجية، ولعل في ذلك ما
يؤكد ماسبق الالماح إليه بأن السماح للمرأة بالمشاركة
في إنتخابات الغرفة التجارية التي تعتبر مؤسسة شبه مستقلة،
يراد منه إختبار ردود فعل المؤسسة الدينية المتشددة، حيث
إن رفض الاخيرة لمبدأ مشاركة المرأة في الانتخاب قابل
للتبرير والتنصّل من قبل الدولة، تماماً كما هي الدعوات
التي تنطلق من أفواه بعض أعضاء مجلس الشورى وغيرهم للمطالبة
بمناقشة قيادة المرأة للسيارة، بما يتيح للأمراء الكبار
اعلان البراءة من تلك الدعوات في حال رفضها من قبل العلماء
والمشايخ، فإن نجحت تلك الدعوات وحققت أهدافها بادر الامراء
لقطف ثمار المنجز ونسبوه لأنفسهم وإن أخفقت أعلنوا البراءة
منها وقد تطير رؤوس أصحابها.
في انتخابات الغرفة التجارية والصناعية بجدة بدت الاصوات
المنكرة خافته، ولكن هناك من التيار الديني المتشدد من
عبّر من خلال منابر عديدة (البيانات والانترنت وغيرها)
عن رفض مشاركة المرأة في الانتخابات فضلاً عن قيادة المرأة
للسيارة. ولعل من أبرز ردود الفعل المعلنة ما ورد في بيان
صادر عن ثلاثة من رجال الدين السلفيين، وهم عبد الرحمن
البراك وعبد الله الجبرين وعبد العزيز الراجحي والذين
أفتوا بعدم جواز دخول المرأة المسلمة هذه المجالس أو التصويت
للمرشحة نفسها للعضوية، وأوصوا (بعدم التصويت لمن ترشح
نفسها لعضوية تلك المجالس..). وقد لقي البيان بعض الصدى
وسط التيار الديني المتشدد، حيث ندد إمام مسجد السيدة
رقية بجدة الشيخ هاشم باصرة بمشاركة المرأة وقال بأن (إجتماع
المال والنساء سيؤدي الى فساد المجتمع..).. هذه الاصوات
رغم تعكيرها لصفو الانتقال الهادىء والمتواصل للمجتمع
تشكّل أحد الكوابح لعملية الاصلاح، وتلتقي في الوقت ذاته
مع الرغبة الداخلية للأمراء.
|