كيف ترسـخ قـدم زلّـت؟
الـحـوالـي يـفـيـق مـدوّيـاً
صمته أشد تطرفاً وربما أشد دوّياً من نطقه، فإن نطق
أماط اللثام عن صمت البركان قبل لحظة زئيره الذي يؤذن
بانفجار كبير. قليلة هي الفرص التي تتاح للمرء تقويم متبنياته
الفكرية، رغم أن ليس هناك ما يدعو للتصلب عند المواقف
التي تقع في خانة (الاجتهادات)، فدواعي المراجعة ونقد
الذات تبدو، مع انقشاع الحجب وظهور المزيد من الحقائق،
أكثر من دواعي الركون الى المواقف القبلية التي جرفها
سيل الحقائق المتدفق.
الحوالي والعمر: ثبات على طريق التشدد
|
الشيخ سفر الحوالي، شأنه شأن كثير من لدّاته ورفاق
دربه، يخوض معركة مع الآخر بضراوة مستمرة، الأمر الذي
يحرمه فرصة المراجعة، ولأن المعركة ضد الآخر تنطوي ليس
على إثبات الذات فحسب بل وعلى ترسيخ الهوية التي لم تفتأ
تكسو كل رؤية بغشائها الايديولوجي الفاقع..
للمرض كما العوارض الطبيعية الاخرى (الموت مثلاً) مفعول
نفسي خاص على بني البشر، وليس حملة الافكار بمنأى عن تأثيرات
تلك العوارض، فقد خضع كبار الفلاسفة والمنظّرين تحت تأثير
تقلبات الحياة بكل أشكالها، ليس استسلاماً ونكوصاً لتلك
التقلبات وإنما لأن الاخيرة تحمل في طياتها فرصة التأمل
بعمق وتجرّد الى حد ما في الماضي وممارسة عملية فصل بين
ماهو حقيقة وماهو مجرد تصورات غير مؤسسة على قواعد عقلية
رصينة.
ربما لم تكن تسمح الحالة الصحية للشيخ سفر حوالي بوقفة
مع الذات، فالجلطة الدماغية أصابت مركز التفكير لديه،
وكان بحاجة الى وقت طويل من أجل إستعادة بناء الخلايا
التالفة جزئياً. عودته الجزئية الى عالم العقل لم يقدّر
لها أيضاً أن تمنحه فرصة إعادة تقويم المنهج، بل لحظنا
إستبشاراً من رفيق دربه الشيخ ناصر العمر (المشرف العام
على موقع المسلم) بـ (التزامه بالمنهج الذي عُرف عنه)،
وهي دالة غير سارة، لا لأن ثمة توقعاً عالياً بأن انقلاباً
فكرياً سيقوم به الشيخ سفر الحوالي على ماضيه، وليس مطلوب
منه ذلك، مع ضرورته له كداعية مجتهد، تخضع أفكاره لمبدأ
الخطأ والصواب. إن كلام الشيخ ناصر العمر المحمّل بالبشارة
ينبىء عن رغبة غير معلنة عن إصرار على التمسك بخط سير
فكري، رغم الهزّات العنيفة التي أصابته منذ مطلع هذا القرن.
في الزيارة التي قام بها الشيخ ناصر العمر للشيخ سفر
الحوالي في الرابع عشر من ذي القعدة الماضي ـ ديسمبر،
تضمنت لقاءً مختصراً يمثّل إختباراً ليس لقدرة الحوالي
على الاستيعاب الذهني ونشاطية الذاكرة، ولكنه يمثّل محاولة
للاطمئنان على ثباته على الخط الذي عاهد أهل دعوته عليه.
فقد أعاد العمر طرح الاسئلة القديمة على الحوالي للتثبّت
من سلامة الادراك والمواقف الايديولوجية لدى الحوالي.
لقد بدا الحوالي أشدّ إصراراً من ذي قبل على مواقفه
بصبغتها الايديولوجية المألوفة، فهو لم يتجاوز كبوة ليعثر
بعدها بل قدّم خطوات مصطنعة للامام كالمريض الذي تعتريه
مشاعر التحدي للانتصار على مرضه ولكن دون مقوّمات داعمة.
ربما تقطّعت أحبال الذاكرة القريبة بالحوالي، ولم يسعفه
العمر بربط ما فاته خلال فترة مرضه، كيما لا يورطه في
سؤال حول واقع الجهاد في العراق، هذا العراق الذي يئن
دماً وموتاً على يد إنتحاريين يحزمون أجسادهم بأيديولوجيات
ومتفجرات تتشظى في أي مكان لا فرق فيه بين العام والخاص
كما لا فرق لدى هؤلاء الانتحاريين في من تلتحم الشظايا
صغاراً ورضّعاً كانوا أم نساءً ـو كهولاً، طالما أن الدماء
تسيل داخل العراق.. من غريب صنع الحوالي والعمر استعارة
بقايا ذاكرة بيان دموي سابق وقّعه مع مجموعة من العلماء
والمشايخ، ليلحقوا الذاكرة المفتونة برسالة متكفّنة بدم
جديد.
البيان الجديد وقّعه الحوالي في التاسع من ذي القعدة
الماضي مع مجموعة من رفاق دربه وهم: الشيخ عبد الرحمن
بن ناصر البراك. فضيلة الشيخ عبد الله بن محمد الغنيمان،
الشيخ الدكتور عبد العزيز بن عبد الفتاح قارئ، الشيخ الدكتور
سفر بن عبد الرحمن الحوالي، الشيخ الدكتور ناصر بن سليمان
العمر، الشيخ الدكتور عبد الله بن حمود التويجري، الشيخ
الدكتور عبد الرحمن بن صالح المحمود، الشيخ الدكتور سعد
بن عبد الله الحميّد، الشيخ الدكتور عبد الله بن إبراهيم
الريس، الشيخ الدكتور عبد الرحيم بن صمايل السلمي، الشيخ
فهد بن سليمان القاضي، الشيخ عبد العزيز بن ناصر الجليل.
ولا ندري هل لقلة إطلاع من الحوالي ورفاقه على الوصمة
الظاهرة على سلسلة العمليات الانتحارية والتي باتت السلفية
الوهابية دمغتها الثابتة عند العراقيين، أم أن الجهل بواقع
العراق يحرّض على المزيد من التوغل في حقل الشوك المتربص
بكل المتورطين في دم العراقيين المسفوك ببلاهة وغباء من
قبل ممثلين أدعياء يصادرون صوت العقل والدين لدى علماء
الامة متسلّحين ببيانات كهذه لاضفاء شرعية زائفة من مصدر
فقير لها.
ينبّه البيان على وحدة القلة في وجه الكثرة، وهذا من
غريب صنع الحوالي وزملائه الذين ينطلقون من مبدأ (الاجتماع
والائتلاف على الحق) لأنه ( أصل من الاصول الشرعية، ولذا
لقّب أهل الاتباع بأهل السنة والجماعة)، ولا نخال الجميع
يجهل أن أهل السنة والجماعة في العراق تربأ بنفسها عن
بيانات كهذه لا يفيد منها سوى الجماعات التي آلت على نفسها
الا التورط حد السفه في دماء زكية بريئة، بإسم أهل السنة
والجماعة، وهم منهم براء. فماهو هذا الاسلام الذي عناه
بيان الحوالي ورفاقه بما نصه (وإن الناظر في أحوال العراق
اليوم يرى المخاطر العظيمة تحيط بالاسلام وأهله من الكفرة
والمنافقين، الأمر الذي يستوجب التلاحم ورص الصفوف بين
المجاهدين)، فأي إسلام يعنى به في هذا البيان وهو يقدّم
أفضل خدماته لكل عملية تشويه تتربص به، ومن هم أهل الاسلام
المقصود بالبيان والمصادرين له لم يدعوا جريمة في التاريخ
الا أحيوها ولا سنة جاهلية الا بعثوها من مرقدها وهم يشيعون
الرعب وينثرون أشلاء ضحاياهم في الساحات المكتظة والاسواق
العامة المزدحمة بالبشر الذين يبحثون على لقمة عيش كريمة.
ثم أبعد ذلك يدعو البيان الى رص الصفوف بين من يصفهم الموقعون
بفصائل المجاهدين وبين (إخوانهم من أهل السنة) كيف وقد
أذاقوا أهل السنة وبال أمر ليس لهم فيه يد فيه ولا مطمع
في ولوج مغبته.
ومن أغرب ما يوهم البيان المعنيين به أن يلمح الى نصر
في الأفق وهزيمة تبدو للعيان، وهل ذلك الا إيغال في الخطأ
ودعوة الى المزيد من التورط في لعبة الدم السادية التي
ما فتأت تشيع الدمار في كل شي دون تمييز، فهل حقائق التاريخ
يمكن استبدالها بأحزمة ناسفة وبالسهولة التي يصوّرها البيان،
حتى يزيّن الموقّعون لفرق المشاغبين بالدماء على أن ثمة
نصراً في الافق! وأي نصر يقصد به وعلى من، وقد أجمع العراقيون
أمرهم على نظام إرتضوه لأنفسهم، وليس هناك من سبيل للعودة
بالحاضر الى الامس، فمياه الانهار لا تعود الى منابعها
ثانية، وأن خيار التعايش والتوافق وحده الحاسم في الأمر.
إن دعوة الشيخ الحوالي كما البيان البائس إغفال متعمد
للحقائق القائمة الآن في العراق، وليست دعوته من يصفهم
بالمجاهدين للتوحد وأن النصر على حد زعمه قريب سوى تصويراً
دوغمائياً محضاً، يسير على عكس حركة الحقائق التي تتشكل
وتترسخ في المعادلة العراقية الراهنة. وكان يؤمّل من الشيخ
الحوالي كما رفاق دربه من المشايخ والعلماء من الطبقة
المتوسطة في التراتبية الدينية السلفية أن يلجموا نزوة
الدموية لدى الجماعات المسلّحة التي طاش بها اليأس من
الخروج بنصر حقيقي لتقترف أبشع الجرائم دون تغيير في أسس
المعادلة القائمة، التي تزداد رسوخاً يوماً بعد آخر وبخاصة
مع إصرار الغالبية العظمى من الشعب العراقي على الارتضاء
بما تم التوافق بشأنه.
إن فشل الجماعات المسلّحة التي تستلهم من البيانات
السلفية روحها القتالية في فصل قضية الاحتلال الاميركي
للعراق عن قضية شعب رزح طيلة عقود تحت نظام دموي قلّ نظيره
في تاريخ البشرية على الاطلاق، هو المسؤول اليوم عن فشل
هذه الجماعات في أن تحرز تقدماً على الارض أو تكسب تعاطفاً
ليس في داخل العراق بل وفي خارجه، بل إنها تخسر المزيد
على مستوى الخارج ولا رجاء في تحوّلها الى مشروع تغيير
ملهم.
في سياق آخر، لا يخلو أيضاً من رؤية مثالية حالمة دعا
الشيخ الحوالي الى توظيف الانفتاح الاعلامي لنشر (الاسلام
والدعوة الحقة وفق المنهج الصحيح) ولا نحتاج الى عناء
كبير في فهم عبارتي (الدعوة الحقة) و(وفق المنهج الصحيح)،
وهما عبارتان مؤدلجتان مثقلتان بالنزعة الدغمائية، وهما
تشيان في الوقت ذاته بالاصطفائية والتنزيهية لدى الحوالي
الذي يكاد يعتبر الوحيد القابض بأسنانه على مواقف ظهرت
لاحقاً تأثيراتها التدميرية في الداخل والخارج، وهاهو
يخرج ثانية ليعلن امتثاله المطلق لمواقف أشد تطرفاً. فهو
يطمع في توظيف الانفتاح الاعلامي لنشر العقيدة التي يعد
هو أحد أقطابها البارزين الآن، بما تحمل من حزمة أحكام
تكفيرية واستئصالية.
وفوق ذلك يفرض نفسه كاهناً ومنجّماً حين يقوم بتوزيع
شهادات النصر في كل الارجاء، وكأنه يغفل ما أصاب المسلمين
في أنحاء العالم بفعل أفكار ظهرت خطورة انبثاثها، ولم
تنتج سوى إنتحاريين بأحزمة ناسفة يوهمون بأنهم كتائب السماء
الذي يشيعون الخير ليعودون الى السماء شظايا بعد أن يضرجوا
الارض بدم أعداء إفتراضيين. فقد ظل الحوالي متمسكاً بنبوءة
انتصار الصحوة ممثلة في (الطائفة المنصورة التي أخبر عنها
النبي صلى الله عليه وسلم)! وقد أطلق تحذيراته مكرراً
للحكومات بتغيير سياساتها تجاه شباب الصحوة، والا (فسوف
تدفع الثمن غالياً) وكان يشمل تحذيره للحكومة السعودية
نفسها، بل بدرجة أساسية يطالبها بالقبول بشروط الصحويين،
والكف عن ملاحقتهم، بل العفو عنهم.
وبالرغم من أن الحوالي كان من الاقطاب الكبار الذين
شاركوا في المفاوضات بين الحكومة والجماعات المسلّحة حتى
أصبح ملجئاً لكثير من المتورطين في عمليات العنف، وقد
بلغ من تسامحه تجاه العنفيين حداً مريباً وكأنه يحتضن
أبناءه ويدفع السوء عن حوارييه، ولكن ذلك التسامح يغيب
بصورة تامة حين يتعلق الأمر بآخر مازال يكتوي بتطرف الحوالي،
حتى ليكبر عليه أن يعتذر عما أصاب الابرياء من جراء فكر
هو صائغه، وموقف هو صانعه.
كنا نحسب أن الحوالي وهو يستفيق من مرضه سيعيد فحص
أفكاره المنهكة بطريقة ناقدة، ولكنه لم يحد عن خطه الفكري،
وسيقول مناصروه بأن ذلك تعبير عن الثبات على المبدأ، واليقين
الذي لا يساوره شك في المعتقد، وتلك تسلية تقليدية لدى
المؤدلجين والعقائديين، تماماً كما القصص الاعجازية التي
راجت عقب دخوله المستشفى!
الحوالي لم يتغير، وليس في ذلك كرامة، وإن صمته عن
بعض أخطائه السابقة ينمّ عن تمسّكه وإصراره، بما في ذلك
تكفير الدولة، والصوفية الذين قال عن كثير منهم بأنهم
(زنادقة متسترون يريدون هدم الاسلام من داخله) ونعته للسيد
الراحل محمد علوي المالكي بأنه (داعية الشرك في هذا الزمان)
وقوله عن الاشاعرة بأنهم ليسوا من أهل السنة.
فالحوالي يطالب بصياغة الدولة ومعتقدات الناس بحسب
طريقته ووفق منهجه، وحين يعجز عن ذلك يوصم الدولة والمخالفين
له عقدياً بالكفر. ولعل صمته عن إدانة العنف في الداخل
وتشجيعه للعنف في الخارج يفصح عن دعم مستور كما هي لعبة
التنظيم السياسي بسلاح عسكري، فكما ذكر أحدهم ذات مرة
بأنه يمثل الجناح السياسي والايديولوجي لتنظيم القاعدة،
فقد أصبح الحوالي القائد السياسي والايديولوجي لجماعات
العنف، وهو باملاءاته السياسية والعقدية على الدولة إبان
تصاعد عمليات العنف لم يكن سوى مستثمراً سياسياً لعمليات
عسكرية متواصلة، ولا غرابة في أن يقدّم في تلك الظروف
فاتورة مطالب قديمة حول تغيير هيكلية الدولة ومجمل نظامها
التشريعي وإعادة دمج المجتمع الديني السلفي في بنية الدولة،
تمهيداً لاقامة دولة الشريعة على النموذج الطالباني.
|