عبد الله بعد نصف عام على العرش
ملك عادي في زمن استثنائي
في اليوم الذي رحل فيه الملك فهد في أول أغسطس من العام
الماضي، كان الاعتقاد السائد بأن ستاراً سميكاً قد أسدل
على عهد شهد سلسلة من الازمات الاقتصادية والاجتماعية
والامنية. كان عهداً ينظر اليه المراقبون الاجانب على
أنه مليء بالتناقضات، فبينما كانت الموجة الدينية السلفية
المتطرفة تتصاعد كانت في المقابل الروابط بين السعودية
والولايات المتحدة تزداد قوة وحميمية.
كانت المخاوف غير المعلنة بأن أي إنتقال للسلطة في
المملكة، المعرّفة بوصفها المنتج النفطي الأكبر في العالم،
قد يتسبب في هزّات اقتصادية عنيفة عبر العالم، ولكن ولي
العهد (والملك الحالي) عبد الله، الاخ غير الشقيق للملك
السابق كان يسيّر الشؤون اليومية للدولة منذ عام 1996،
أي عقب إصابة الملك فهد بجلطة دماغية أفقدته القدرة على
القيام بشؤون الملك.
وفيما كان ينظر الى الملك عبد الله باعتباره إصلاحياً،
وهي نظرة ظلت قائمة لفترة من الوقت بعد مؤشرات متواصلة
من الملك منذ كان ولياً للعهد وكذا حاشيته المقرّبة حول
الدور الاصلاحي التاريخي المرتقب لدى عبد الله بعد وصوله
الى سدة الحكم، فإن تلك التوقعات بدأت تتضاءل على نحو
سريع. فقد باتت شكوك المحللين تتزايد قبل تتويجه ملكاً
حول قدرته على إجراء تغييرات جوهرية في السياسات المحلية
والخارجية. كانت تلك الشكوك قد بدأت بعد أيام من اعتلائه
العرش، أي في ظل أوضاع متفائلة الى حد ما بعد إعلانه عفواً
عن عدد من المعتقلين السياسيين وزيادة المرتبات الشهرية
بنسبة 15 بالمئة وكذا إصدار قرارات حملت دلالات من نوع
من قبيل منع تقبيل اليد، ومراقبة المخصصات المالية للأمراء،
وزيادة مخصصات الضمان الاجتماعي. لم تسعف تلك الاجراءات
الشكلية رغم دلالتها الكبيرة في تبديد جزء من الشكوك في
قدرة الملك عبد الله على نيل وسام المصلح.
ظل بعض المناصرين للملك عبد الله في الغرب والولايات
المتحدة بخاصة ينظر بتفاؤل مبالغ الى أنه سيقدم على خطوات
غير مألوفة في تغيير وجه المملكة، مما حدا بالبعض الى
الاعتقاد بأن الملك عبد الله قد يدفع العائلة المالكة
بعيداً عن الحكم التسلطي الى نظام حكم يقوم على حرية التعبير،
وإحترام حقوق المرأة، والاصلاح السياسي المعتدل. ولكن
تلك النظرة المأمولة لم تغيّب حقيقة أخرى كانت ثاوية في
أذهان المتفائلين بأن الملك يظل في نهاية المطاف محكوماً
بمعادلة داخلية شديدة التعقيد، الأمر الذي أوصلهم الى
نتيجة أخرى بأنه لن يكون قادراً على إحداث تغييرات كبرى
في دوره الناظري. وسواء كانت لديه السلطة أو الرغبة في
إجراء تغيير سياسي في السعودية، بقي ذلك سؤالاً جوهرياً
كان يطمع كثيرون في الحصول على إجابة حاسمة بشأنه في الشهور
الاولى من عهده الجديد.
بالنسبة للغرب وللولايات المتحدة على وجه الخصوص، فإن
المنتظر من الملك عبد الله هو نجاحه في تعميق التزام بلاده
في استئصال جماعات العنف السلفية، وزيادة انتاج النفط
من أجل تخفيض الاسعار العالمية المرتفعة، مع بعض التحركات
نحو الاصلاح السياسي كجزء من المساومة الشكلية غير المنطوية
على مخاطر من أي نوع على الهدفين الحيويين: الحرب على
الارهاب وزيادة إنتاج النفط.
على المستوى الداخلي، كان معظم المراقبين المحليين
مرتابين بشأن ما إذا كان الملك عبد الله سيحوز على المزيد
من القوة أكثر مما كان عليها إبان ولايته للعهد، بالنظر
أولاً الى عمره، ودور أخوته المحيطين به الذين لا يتقاسمون
معه نظراته السياسية، إن وجدت تلك النظرات الاصلاحية كما
يشاع، وأخيراً المسائل العالقة التي تتصل بخط الابناء
الذي سيرث العرش فيما بعد.
لقد وصف توبي كريج جونز، المحلل في جماعة الازمة الدولية
في بروكسل، الملك عبد الله بأنه أشبه ما يكون بالبطة العرجاء،
ويعلّق على ذلك بالقول (حتى في حال كون ما يقول عنه الجميع
بأنه الوحيد الذي يعد أكثر التزاماً بالانفتاح والتغيير
الليبرالي في السعودية، فليس بمقدوره فعل ذلك بمفرده).
على سبيل المثال، فإن أخاه صاحب النفوذ القوي الامير
نايف، وزير الداخلية لأكثر من 25 عاماً والذي كان مسؤولاً
عن المؤسسات الامنية والمخابراتية الداخلية، هو على صلة
وثيقة بعدد من العلماء المتشددين وهو في الوقت ذاته من
أشد المعارضين للاصلاح السياسي. فقد إضطلع الامير نايف
بدور مباشر وكثيف في التعامل بشراسة مع التيار الاصلاحي
الوطني منذ الايام الاولى، وقد وجه تهديداته المباشرة
في لقاءات مع الاصلاحيين في اكثر من مناسبة ثم نفّذ وعده
في السادس عشر من مارس 2004 حيث أقدم على اعتقال مجموعة
من الرموز الاصلاحية الفاعلة وفرض تدابير صارمة على النشاطات
الاصلاحية، كالتعهد بعدم الظهور في وسائل الاعلام الخارجية
أو الادلاء بتصريحات حول الاوضاع الداخلية او التعبير
عن مطالب اصلاحية. كانت تلك الحادثة بقدر ما كسرت التيار
الاصلاحي الا أنها لفتت بوضوح الى حقيقة أن الملك عبد
الله لم يكن بحجم الدور المأمول الذي منحه المناصرون له
أو الذين توقعوه منه، فلم يكن رقماً مميزاً ولن يكون،
وان الملك عبد الله مهما يكن ينتمي الى جيل الامراء الكبار
الذي اعتادوا على نمط في الحكم التقليدي الابوي الاحتكاري،
وأنه ليس مستعداً لأن يقدّم مصلحة الوطن على مصلحة العائلة
المالكة. وهذا ما يفسر انسحاب الاصلاحيين من حلبة المراهنة
على الملك عبد الله، والعودة الى المجتمع بوصفه القوة
الحقيقية الدافعة نحو التغيير، أي بكلمات الاخرى تبديل
خيار التغيير من أعلى الى خيار التغيير من أسفل.
إن واحدة من نقاط الضعف المركزية التي غالباً ما تحظى
بإهتمام ضئيل منذ وصول عبد الله الى سدة الحكم هي قضية
النائب الثاني التي لم تحسم بصورة نهائية. وبقدر ما تعكس
هذه القضية الخلاف المستور داخل العائلة المالكة حول تقاسم
السلطة فيما بينها، فإنها في الوقت نفسه تلمح الى حقيقة
جديرة بالتأمل، الا وهي ضعف الملك عبد الله. وكما بات
معروفاً فإن الخلاف يدور حالياً بين أجنحة متعددة داخل
العائلة المالكة على المنصب الثاني، فبينما يصرّ الامير
نايف في طلب الحصول على منصب النائب الثاني، فإن الاجنحة
الاخرى تتفق على إعطاء هذا المنصب لأمير غير سديري. إن
حمى المساجلات الداخلية على هذا المنصب تزداد فيما لا
دور حاسم للملك عبد الله الذي يفترض أن يكون ـ بحسب التصويرات
المتضخمة لشخصيته ودوره الاصلاحي ـ أقدر على إغلاق الملف
بصورة نهائية، ولكنه لم يفعل عجزاً ووهناً فيه.
لم يكن الملك عبد الله في خيرة من أمرة حين أعقبه بصورة
تلقائية الامير سلطان في ولاية العهد، بالرغم من أن الملك
بحسب النظام الاساسي يعيّن ولي العهد وله الحق في إعفائه
أيضاً، ولكن ذلك الحق ساقط بالعجز عن تنفيذه، فليس بمقدور
الملك عبد الله بحسب تقاليد التوارث السائدة أن يأتي بشخص
آخر لولاية العهد غير الامير سلطان، ولذات السبب أيضاً
يجد الملك عبد الله نفسه عاجزاً الآن عن تنصيب نائبٍ ثانٍ
له، والذي سيكون بصورة أتوماتيكية مدرجاً في خط التوارث
على العرش.
بالنسبة للمراقبين الغربيين والاجانب، فإن معايير تقييم
دور الامير عبد الله ضمن دائرة العائلة المالكة تخضع في
الغالب الى التفاوتات في مواقف الامراء من الولايات المتحدة
وموضوع الحرب على الارهاب، ولذلك قد تجد من يقسّم العائلة
المالكة الى معسكرين او جماعتين: الاولى مجموعة اصلاحيين
من ذوي التوجهات الغربية والثانية مجموعة من المحافظين
الدينيين الوهابيين التي ترى أميركا فاسدة وتفضّل حكماً
دينياً. وهو بالتأكيد تقسيم بالغ التبسيط والبدائية، ولا
يخلو من نمطية مهترئة. إن تقييم العائلة المالكة والحكم
السعودي بصورة عامة يتطلب بالتأكيد أدوات تحليل أشد تعقيداً
وواقعية، وليس بالتوجهات الغربية الاصلاحية المزعومة يمكن
رسم حد فاصل بين خط وآخر داخل الحكومة السعودية، فالتوجّه
الغربي ليس مؤشراً نقياً على النزعة الاصلاحية لدى الامراء،
فقد تجد من بين الامراء من هو غارق في غربيته ولكنه يحمل
نزعة إستبدادية تفوق من يصنّف على الاتجاه المحافظ. إن
الاكتفاء بمجرد تصريحات يطلقها الامراء المصنّفين على
التوجهات الغربية مثل الامير بندر بن سلطان، والامير تركي
الفيصل، والامير سعو الفيصل وغيرهم لا تمثل خطاً متميزاً
فضلاً عن أن تقسيم الادوار يتطلب من هؤلاء إطلاق تصريحات
تندرج في سياق ترميم الصورة المتلطخة للعائلة المالكة
بعد الحادي عشر من سبتمبر، فالأمراء يشاركون في حملة العلاقات
العامة بصرف النظر عن توجهاتهم السياسية والثقافية الحقيقية.
نتذكر في هذا السياق تصريحاً للأمير سعود الفيصل وزير
الخارجية فور اقدام أجهزة الامن التابعة لوزارة الداخلية
على إعتقال الاصلاحيين في السادس عشر من مارس 2004 حيث
كان تصريحه يستبطن إتهاماً للتيار الاصلاحي بالعمالة للخارج
وتهديد الامن والوحدة الوطنية. يضاف الى ذلك، إن مواقف
الامراء، كافة الامراء، من التيار الاصلاحي الذي نال شهادات
تقدير من أغلب المؤسسات الديمقراطية في العالم بفعل رقي
مطالبه ووسائله السلمية، كانت سلبية، فبين من صمت عن جريمة
الاعتقال بما فيهم الملك عبد الله الاصلاحي المزعوم وبين
من شارك في الجريمة عن طريق إضافة المزيد من الاتهامات
للتيار الاصلاحي. أما الاصوات الشاذة والمترددة والخجولة
مثل الامير طلال فلم تضف شيئاً يذكر في ميزان الاصلاح!
في المحصلة النهائية لما سبق تبرز نتيجة واحدة أن الملك
عبد الله لم يكن رائداً لعهد جديد، رغم تلك التغييرات
الشكلية التي تتطلبها مرحلة تشهد فورانات داخلية في المجتمع،
حيث يفرض الاخير معادلاته التي لا تقوى الدولة على درئها
لضعف فيها وليس مباركة منها.
إن القول بأن عبد الله يميل بإتجاه الاصلاحيين الليبراليين
هو زعم مستمد من أقوال وليس أفعال، فلم يظهر حتى الآن
ما يدعمه، خصوصاً في لحظة كان الاصلاحيون بحاجة الى الملك
عبد الله، حين صدرت أوامر وزير الداخلية باعتقال عدد من
الاصلاحيين الفاعلين، ذاك كان الاختبار الحقيقي لموقف
عبد الله كإصلاحي وكمناصر للاصلاحيين. ما يبهر المراقبين
الاجانب هو بريق العناوين الكبرى لتغييرات شكلية بمضمونات
فارغة وغير مؤسسة لقرارات إصلاحية حقيقية مثل الحوار الوطني
ولجنة حقوق الانسان ونقابة العمال والصحافيين، وزيادة
هامش حرية التعبير الذي لم يصل الى مستوى انتقاد سياسات
الحكومة والافصاح عن المطالب الشعبية في الاصلاح والتغيير
أسوة بدول خليجية أخرى كالبحرين والكويت اللذين قطعا مشواراً
بعيداً في مجال حرية التعبير.
إن مايظهر حتى الآن، ونزعم بأنه سيستمر، أن الملك عبد
الله ليست إستثناءً في مسيرة الحكم السعودي، وستبقى مهمته
متمحورة حول إدارة النظام السياسي القائم والبقاء في السلطة.
ويمكن إضافة شيء آخر يعزز هذا الرأي، فإن وجود خلافات
داخل العائلة المالكة يعطي مؤشراً سلبياً في مجال الاصلاح
السياسي، فستظل هذه الخلافات حاكمة على طريقة إدارة شؤون
الحكم، فمؤشرات الانقسام تعني عدم الاستقرار، وبالتالي
فإن إبقاء الوضع على ماهو عليه يؤمّن مصالح كافة أفراد
العائلة المالكة، لأن التغيير في ظل الانقسام قد يؤدي
الى خسارة الجميع.
ماذا يعني ذلك؟ إن أول مايعنيه الاجماع داخل العائلة
المالكة على الحفاظ على الوضع القائم أن نزعة المحافظة
بالمعنى السياسية ستقوى لدى الملك عبد الله بنفس القدر
من القوة لدى الامراء السديريين والامراء الذين يفيدون
من السلطة القائمة، وبالتالي فإن لا تغييرات سياسية عميقة
ستتم، وإنما سيجري تعويضها بتسوية المشكلات الاقتصادية
والاجتماعية التي تهدد البلاد على المدى البعيد. وبطبيعة
الحال، فإن هذا الحل قد يضمن إستقراراً على المدى القصير
ولكنه سيتم على حساب الاستقرار على المدى البعيد، سيما
مع بقاء كافة الملفات الكبرى عالقة بدءا من تقاسم السلطة
داخل العائلة المالكة وإنتهاءً بالتغييرات السياسية المطلوبة
شعبياً.
|